الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال أبو عبد الله : ولم يختلف المسلمون في أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر أحدا من الكفار أسلم بقضاء شيء من الفرائض ، واتفق على القول بذلك أهل الفتوى من علماء [ ص: 992 ] أهل الإسلام ، فبهذه الحجج يسقط قضاء الفرائض عن من أسلم من أهل الكفر ، لا لأنها لم تكن بواجبة عليهم .

فإن قال قائل ، فيقول : إن الفرائض على الكفار أن يأتوا بالصلاة ، وسائر الفرائض قبل أن يسلموا .

قيل له : هذا خطأ ، لأن هذا يوهم أن لهم أن يؤخروا الإسلام إلى أن يأتوا بالفرائض ، ولا يحل لأحد من أهل الإدراك والعقل أن يؤخر الإسلام كما قد عين ، ولكنا نقول : الفرض على الكفار أن يسلموا ، ويصلوا ، ويؤدوا الفرائض ، ويجتنبوا المحارم كلها ، ويقدموا على الإسلام قبل ذلك كله ، لأن الفرائض ، وجميع الأعمال الصالحة لا تقبل إلا بالإسلام ، فإنهم امتنعوا من الإسلام ، وأداء الفرائض ، وارتكبوا المحارم ، وماتوا على ذلك ، فهم عصاة في جميع ذلك معاقبون على ذلك كله .

وهذا كما نقول : الفرض على الجنب ، وغير المتوضئ أن يتطهر ، ويصلي ، ولو صلى الجنب قبل أن يتطهر لم تجزه صلاته ، لأن الصلاة لا تقبل إلا بطهارة ، كما أن الكافر لا تقبل منه الصلاة إلا بإسلام ، وطهارة ، فإن أخر الجنب الطهارة ، والصلاة جميعا حتى ذهب الوقت ، ثم مات مصرا على ذلك ، مات عاصيا في الأمرين جميعا ، مستوجبا للعقوبة على تركها جميعا . [ ص: 993 ]

وكذلك الكافر إذا أخر الإسلام والصلاة حتى ذهب وقتها ، ثم مات مصرا على ذلك .

ولا يجوز أن يقول : الفرض على الجنب أن يصلي قبل أن يغتسل كما لا يجوز أن يقول : الفرض على الكافر أن يصلي قبل أن يسلم ، لكنا نقول : على هذا أن يتطهر ، ويصلي ، وعلى الكافر أن يسلم ، ويصلي .

فإن قال قائل : فإنما قال الله تعالى : ( إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا ) .

وقال عز وجل : ( قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة ) .

وقال جل وعلا : ( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام ) ، فأوجب الصلاة ، والصيام ، وسائر الفرائض على المؤمنين .

قيل له : ليس في إيجابه الصلاة على المؤمنين إسقاط لها عن الكفار ، والمنافقين ، ولكن الله عز وجل وضع أقدار الكفار عن أن يخاطبهم بإيجاب الفرائض عليهم باسم الكفر ، استصغارا لهم ، ووضعا لأقدارهم ، وخاطب المؤمنين باسم الإيمان ، وسائر الفرائض عليهم باسم الإيمان . [ ص: 994 ]

ودل على وجوب ذلك على الكفار بما أوعدهم على تضييعها من العذاب ، قال الله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله ) .

كما قال عز وجل : ( يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم ) .

و ( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام ) .

فلم يكن في مخاطبته المؤمنين بإيجاب الإيمان بالله ورسوله عليهم إسقاط الدعوة للكفار ، لأنه قد دل على إيجاب ذلك عليهم بما هو أدل على الوجوب من الأمر ، وهو تغليظ الوعيد عليهم ، بإيجاب تخليدهم النار لتركهم الإيمان ، وكفرهم بالله تعالى .

قال الله عز وجل : ( ومن لم يؤمن بالله ورسوله فإنا أعتدنا للكافرين سعيرا ) .

ولو ذهبنا نتلو الآيات التي أوعد الله تعالى فيها الكفار التخليد في النار ، وآيسهم من مغفرته ، ورحمته ، لكثر الكتاب ، وطال ، ولولا أن المسلمين لا اختلاف بينهم في ذلك لتكلفنا تلاوتها ، وقد أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يأمرهم بالإيمان به تعالى ، وبرسوله صلى الله عليه وسلم باسم الناس ، لا باسم [ ص: 995 ] الكفار ، فقال تعالى : ( قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا ) إلى قوله تعالى : ( فآمنوا بالله ورسوله ) .

وقال عز وجل لأهل الكتاب منهم : ( يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم ) .

وفي التوراة الأمر بإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، والصيام ، وسائر الفرائض ، وتحريم المحارم .

وقال تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا ) .

و ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ، ولتنظر نفس ما قدمت لغد ) .

فلم يكن إيجابه التقوى على المؤمنين بمسقط ذلك عن الكفار ، بل قد أوجب ذلك عليهم باسم الناس .

وقال : ( يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة ) .

وقال تعالى : ( واتقون يا أولي الألباب ) .

والتقوى منتظم لأداء الفرائض ، واجتناب المحارم كلها . [ ص: 996 ]

وقال عز وجل : ( يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ) .

فلم يكن افتراضه طاعته على الذين آمنوا بمسقط طاعته عن الكفار .

فكذلك ليس في افتراضه الصلاة ، والصيام على المؤمنين دليل على إسقاطها عن الكفار .

التالي السابق


الخدمات العلمية