الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال أبو عبد الله : وزعمت طائفة من المرجئة أن الإيمان هو المعرفة ، والإقرار ، وأن الخلق كلهم من النبيين ، والمرسلين ، فمن دونهم في ذلك سواء ، وأن الله لم يأمر أحدا من الإيمان بشيء إلا أمر به غيره ، ولم يأمره من الإيمان بشيء إلا أمر به من كان قبله ، وأن الإيمان لا يلزم فرضه إلا جملة ، ولا يحدث منه شيء بعد شيء ، ولا يأتي أحد منه بشيء بعد شيء إلا كان كافرا .

فيقال لهم : خبرونا عن أهل زمان موسى ، وعيسى ، هل كان من إيمانهم أن يعلموا ، ويعتقدوا التصديق ، وأن الله قد بعث محمدا رسولا ؟ !

فإن قالوا : لم يكن من إيمانهم أن يعلموا ، ويعتقدوا أن الله قد بعث محمدا رسولا ، ولكن كان من إيمانهم أن يعلموا ، ويعتقدوا أن الله سيبعث محمدا رسولا .

قيل لهم : فهل من إيماننا اليوم أن نعلم ، ونعتقد أن الله قد بعث محمدا رسولا ؟ !

فإن قالوا : ولا بد لهم من ذلك ، فقد أوجبوا علينا من [ ص: 769 ] الإيمان ما لم يوجبوه على من كان قبلنا ، فهذا نقض لما بنوا عليه أصلهم ، وخروج من جملة قولهم .

وإن قالوا : العلم ، والاعتقاد بأن الله سيبعث محمدا رسولا ، لأنا قد علمنا بأنه قد بعثه رسولا ، وأهل الزمان الأول قد كانوا يعلمون أن الله قد بعث محمدا رسولا ، إذ كانوا قد علموا أنه سيبعثه رسولا ، وهذا هو الخلف من الكلام ، والتناقض من المقال . ويقال لهم : خبرونا عن من لم يسمع بذكر محمد صلى الله عليه وسلم من زمان موسى ، وعيسى صلى الله عليهما ، غير أنه قد آمن بموسى ، وعيسى ، وجميع ما جاء به جملة هل يكون مؤمنا ؟ !

فإن قالوا : لا ، قيل لهم : وكذلك من لم يسمع بذكر الصلاة ، والصيام ، والزكاة ، وجميع ما فرض الله عز وجل ، وجميع ما أحل ، وحرم ، فجهل بشيء منه ، لأنه لم يسمع به ، ولم يفترضه الله على أهل ذلك الزمان لا يكون مؤمنا ، وهو مقر مصدق بموسى ، وعيسى ، وبجميع ما جاءا به من عند الله .

فإن قالوا : لا يكون مؤمنا من لم يعرف منهم جميع ذلك ، ولم يقر به ، خرجوا من قول أهل الصلاة ، ولا يقول [ ص: 770 ] هذا مسلم .

وإن قالوا : هو مؤمن ، إذ آمن بموسى ، وعيسى ، وبما جاءا به من عند الله ، وإن لم يسمع بذكر محمد صلى الله عليه وسلم ، وما جاء به من الشرائع .

قيل لهم : فإنه بعد ذلك قامت عليه الحجة ، وعلم أن محمدا سيبعث ، أو أدرك زمان محمد صلى الله عليه وسلم فعلم ، وأقر به ، وصدق به ، هل حدث له من الإيمان شيء ، لم يكن قبل ذلك ، أو أصاب من الإيمان شيئا لم يكن أصابه قبل ذلك ؟ !

فإن قالوا : نعم ، فقد رجعوا عن قولهم .

وإن قالوا : لم يصب بعلمه بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وإقراره به إيمانا لم يكن أصابه قبل ذلك .

قيل لهم : فإن جهل محمدا صلى الله عليه وسلم بعد ما بعثه الله ، أو علمه ، فلم يقر به ، وأقام على أمره الأول ، فهو مؤمن مستكمل الإيمان ؟ !

فإن قالوا : نعم ، خرجوا من قول أهل الإسلام ، وليس هذا قولهم ، وإن قالوا : إذا جهل محمدا صلى الله عليه وسلم بعد ما بعثه الله ، أو عرفه ، فلم يقر به ، فهو كافر .

قيل لهم : فهل يكون كافرا إلا بترك الإيمان ؟ ! [ ص: 771 ] فإن قالوا : لا ، فقد أقروا بزيادة الإيمان ، ووجب عليهم فرضه بعد ما بعث به محمد صلى الله عليه وسلم .

ويقال لهم : قال الله عز وجل : ( ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك ) .

خبرونا عن أولئك الذين أرسل الله إليهم هؤلاء الرسل الذين لم يقصصهم علينا ، ولم يخبرنا بأسمائهم ، هل كلفهم الله المعرفة بهؤلاء الرسل بأعيانهم ، وأسمائهم ؟ !

فإن قالوا : نعم ، ولا بد من ذلك ، قيل لهم : فقد لزم أولئك من فرض الإيمان ما لزم أولئك ، ولزم أولئك من فرض الإيمان ما لم يلزمنا ، لأنهم أدركوا أولئك الرسل ، وعاينوهم ، وأخبرونا بأسمائهم ، فوجب عليهم معرفتهم بأسمائهم ، وأعيانهم ، والإقرار ، والتصديق بأنهم رسل الله ، ولم ندركهم نحن ، ولم نعاينهم ، ولا أخبرنا بأسمائهم ، ولم يجب علينا من الإيمان بأسمائهم ، وأعيانهم ما وجب على أولئك .

وكذلك من آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم ، وبالفرائض التي أنزلها الله تبارك وتعالى ، أو ينزلها جملة في أول ما بعث النبي صلى الله عليه وسلم كان مؤمنا ، ثم أنزل الله الفرائض ، وفسرها النبي صلى الله عليه وسلم ، [ ص: 772 ] فعرفها ، وعرف تفسيرها ، فمن آمن بها زاد إيمانا إلى إيمانه الأول .

وكذلك قال الله تبارك وتعالى : ( وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول : أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون ) .

وذلك أن الإيمان الأول يحمل الفرائض التي نزلت ، وينزل ، كان هو الإيمان ما لم يكلفوا الإيمان بتفسير الفرائض التي نزلت ، والتي تنزل ، فإذا نزلت الفرائض ، وفسرت لهم ، وجب عليهم الإيمان بتفسيرها ، كما وجب عليهم الإيمان بجملتها ، وصار الإيمان بتفسيرها مضموما إلى الإيمان الأول ، فصار إيمانهم أكمل .

فجميع ما ذكرنا دليل على أن الناس متفاوتون في الإيمان غير مستوين ، إذ كان الله عز وجل قد افترض على الأولين من الإيمان ما لم يفترض على الآخرين ، وافترض على الآخرين ما لم يفترض على الأولين نحوا مما وصفت لك من معرفة الرسل بأعيانهم ، وأسمائهم ، وحدود الفرائض التي افترضت عليهم ، وتفسيرها ، فكل من أدى ما كلف من الإيمان ، والفرض عليه ، فهو مؤمن مستكمل لما افترض عليه من الإيمان ، وإن كان غيره أكثر [ ص: 773 ] إيمانا ، وأكثر منه ، إذ كلف من الإيمان ما لم يكلف هو .

ويقال لهم : ما تقولون في رجل نوى أن يكفر غدا لميراث طمع أن يصيبه ، أو غيره ؟ !

فإن قالوا : هو كافر ، قيل لهم : فكيف أخرجتم المؤمن من إيمانه بنيته أن يكفر غدا ، فهل أخرجتم الكافر من كفره بنيته أن يؤمن غدا ؟ !

فإن قالوا : بأن المؤمن إذا يكفر غدا ، فقد ترك الخضوع ، والإنكار لله بالطاعة ، فمن ثم أكفرناه ، والكافر أخر الإذعان لله ، والخضوع له ، ونواه ، فلم يخرجه ذلك من كفره .

قيل لهم : أما المؤمن ففي وقته مذعن خاضع ، إذ لم يتعجل الكفر ، فيعتقده ، وإنما أخر الكفر ، ولزم الخضوع لله ، فلم يدعه ، ولو زايله الخضوع ما أخر الكفر .

وكذلك الكافر لولا مزايلة الخضوع له لآمن ، لأنه إنما نوى أن يخضع بعد وقته ، فإن كان نيته أن يخضع بعد وقته لا يخرجه من كفره ، فكذلك نية المؤمن أن لا يخضع بعد وقته ، لا يخرجه من إيمانه ، لأن الكافر أورد النية بخضوع ، يتأخر على أنها لازم ، والمؤمن أورد لله تائبا متأخرا على خضوع لازم ، فلا فرقان بين ذلك ، فإما أن [ ص: 774 ] يحكموا عليهما بحاليهما في وقتيهما اللذين هما فيهما ، أو بحاليهما اللذين لم يأتيا ، ولا فرقان بين ذلك ، وأخرى .

أين وجدتم أن النية في عينها إيمان ، أو الخضوع في عينه إيمان إذا كان الكافر منكرا لله بقلبه ، ولسانه ناو ، لا يكذب عليه بعد موته ، فقد ثبتم الإرادة ، والخضوع إيمانا ، وزوالهما كفرا ، فلم ينفع الكافر ، إذ لم يتعجلها ، فهلا نفعت المؤمن إذ تعجلها ؟ فقد أكفرتم مع التصديق بالقلب ، واللسان بالنية ، لأن يفعل شيئا ، لعله لا يفعله ، وقد كان يجب عليكم في القياس أن شهد للكافر بالإيمان بنيته التي قدمها ، كما لم ينفع المؤمن معرفته ، وقوله بلسانه ، وخرج من الإيمان بالنية للكفر .

فكذلك لا يكفر الكافر إنكاره بقلبه ، وتكذيبه بلسانه مع النية التي قدمها أن يؤمن غدا .

فإن هم سألونا ، فقالوا : ما تقولون أنتم في ذلك ؟ ! قيل لهم : إن الإيمان ليس هو عندنا المعرفة وحدها ، ولا القول وحده ، لأنا قد وجدنا المنافقين يقرون بألسنتهم ، وهم كافرون ، ووجدنا اليهود قد عرفوا الله ورسوله بقلوبهم ، وهم كافرون ، فلما كانت المعرفة في عينها إذا انفردت لا إيمان ، وكان القول إذا انفرد لا إيمان ، فإذا ضما لم يكونا إيمانا إلا بشريطة نيته ، لأنه ليس من شيئين [ ص: 775 ] ينفردان خارجين من بعض الأجناس ، ثم يجتمعان ، فيدخلان في غير جنسهما ، إلا أن يزيد فيهما معنى ، وهو أن يجوز معرفة ليست بمعرفة تسبق على كتاب سمع كمعرفة اليهود ، لا معرفة بيان أوجبها الاضطرار ، فإبليس عاين ما لم يجد للشك فيه مساغا يعرف ، ثم أبى السجود ، وإنما المعرفة التي هي إيمان هي معرفة تعظيم الله ، وجلاله ، وهيبته ، فتعظم المعرفة تعظم القدر معرفة فوق معرفة الإقرار ، فإذا كان كذلك فهو المصدق الذي لا يجد محيصا عن الإجلال ، والخضوع لله بالربوبية ، ولا تطاوعه نفسه ، ولا يصفو لنفسه ريبة الكفر ، لأن النية في الكفر استهانة بالرب ، والاستهانة ضد التعظيم ، والإجلال ، والهيبة ، فإذا عظمت معرفته تعظيم قدره لم تبح نفسه بنية الكفر ، ولو قطع أعضاؤه ، فمن ثم كان هذا المؤمن لما نوى الكفر ، لأنه لم ينو الكفر ، ويعتقده لدينا ، وغير ذلك من تدين حتى صغر قدر الرب عنده ، فاستهان به ، وليس هذا بمصدق ، ولا مؤمن ، لأن التعظيم لا يقارن الاستهانة ، والتصديق لا يقارن نية التكذيب ، وكيف يفترقان وهما ضدان ؟ !وكذلك الكافر لو كان بعثه على نية الإيمان معرفته لله بتحقيقه على ما وصفنا ما أخر ذلك طرفة عين ، ففي [ ص: 776 ] تأخيره ذلك أمن من الله ، فاستهان به ، فهو كافر لا محالة ، وكلاهما كافران ، بغير الجواب الذي أجبتم .

فبذلك ثبت أن الإيمان يوجب الإجلال لله ، والتعظيم له ، والخوف منه ، والتسارع إليه بالطاعة على قدر ما وجب في القلب في عظيم المعرفة ، وقدر المعروف .

التالي السابق


الخدمات العلمية