الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال أبو عبد الله : ويقال لهم : قولكم : إن القول باللسان إيمان مع المعرفة ، أيهما أصل للآخر ؟ !فإن زعموا أن القول باللسان أصل للإيمان ، فقد أوجبوا للمنافقين أصل الإيمان ، إذ يشهدوا للنبي صلى الله عليه وسلم أنه رسول الله ، وقد أكذبهم الله عز وجل ، وأخبر أنهم كاذبون ، ثم أخبر عن الأعراب الذين قالوا : آمنا ، فقال : ( قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ) ، فأخبر أن قولهم ذلك ليس بإيمان ، ثم أخبر أن الإيمان أوله على القلب ، فقال : ( ولما يدخل الإيمان في قلوبكم ) . وقال : ( ومن الناس من يقول : آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين ) .

فقد دل القرآن على إكفار من أقر بلسانه ، وقلبه منكر .

وإن قالوا : إن المعرفة أصل الإيمان . [ ص: 777 ]

قيل لهم : فالإقرار أصل ثان مضاف إليه ، أو فرع له ؟

فإن قالوا : أصل ثان ، قيل لهم : فمن جاء بالمعرفة ، ولم يأت بالأصل الثاني لطلب دنيا ، أو استكبار عن اتباع المسلمين ، لئلا يزول عن رياسة ، أو غيرها ، إلا أنه عارف بالله عز وجل ، وبرسوله صلى الله عليه وسلم ، ما حاله عندكم ؟ !

فإن قالوا : كافر ، قيل لهم : كافر ليس فيه من الإيمان شيء ، أو قد جاء بأحد الأصلين ؟ !

فإن قالوا : ليس فيه من الإيمان شيء ، فقد زعموا أن معرفة القلب هو قول اللسان ، إذ كان زوال المعرفة هو ترك القول ، وهذا التناقض ، ولو كان كذلك ، كان إذا أقر باللسان كان عارفا من قبل الإقرار باللسان ، وإن كان منكرا بقلبه ، فإن كان قد تجامع الإنكار بالقلب ، القول باللسان ، فكذلك تجامع المعرفة ترك القول باللسان ، ولو كان في زوال المعرفة زوال القول ، وكان لا يقر باللسان منكرا ، كما لم يعرف القلب منكرا باللسان أبدا على قياس ما قلتم .

فإن قالوا : الإقرار فرع لأصل الإيمان ، وهو المعرفة .

قيل لهم : فترك الفرع يذهب بالأصل ، أو يبقى الأصل على حاله ، وأزال الفرع ؟ ! [ ص: 778 ]

فإن قالوا : يذهب الأصل ، قيل لهم : فالأصل أولى أن يكون في زواله زوال الفرع ، فقد وجدناه مقرا منكرا ، فكذلك ثبت أنه عارف منكر .

فإن قالوا : هو عارف تارك للإقرار بلسانه .

قيل : ولم يسمه الله مؤمنا ، مع ترك الإقرار بلسانه .

وقيل لهم : إبليس إنما كفر بترك الفرع ، ولم تنفعه المعرفة ، وليس القول من المعرفة في شيء ، لأنه فرع مضاف إليها بالاسم ، لا من جنسها ، وإنما الإقرار باللسان يكون عنها ، وليس هو بها ، ولا من جنسها ، لأن الأصوات ، والحروف ، والحركات ليست من جنس الضمير في شيء ، وإن كان الإيمان لا يتم إلا بفرع عن المعرفة ، وليس من جنسها ، فما أنكرتم على من زعم أن الإيمان لا يتم إلا بالصلاة ، وليست هي من جنس المعرفة ، ولكن عنها يكون .

فإن زعمتم أن بينهما فرقانا ، فما الفرقان ؟ اللغة يدعونها في مجاز اللغات ، أو حقيقة معنى ؟ فإن زعمتم أن العرب قد يقول بعضها لبعض : فلان صدقني بلسانه ، فسموا الإقرار تصديقا . [ ص: 779 ]

قيل لكم : ليس يخلو ما ادعيتم من قول العرب من أحد معنيين : إما أن تكون تعني بقولها : صدقني فلان بلسان ، أي أنه آمن بقول بلسانه ، وقلبه لا يعرف ذلك ، أو تكون تعني أنه صدقني بقلبه ، فآمن بقولي ، ثم عبر لي عما في قلبه ، أني صادق عنده ، فإن كانت تعني أنه آمن بلسانه ، دون قلبه ، فقد ثبت الإيمان باللسان ، وإن كان القلب منكرا ، وإن كانت إنما تعني أنه إنما عبر عما في قلبه ، فقد دلل بذلك أن العبارة ليست بالمعبرة عنه .

وإن زعمتم أنها معنى ثالث ، على أحد معنيين : أحدهما تصديق بالقلب ، والآخر تحقيق لما في قلبه .

قيل لكم : تحقيق ، يدل على أنه قد آمن ، أو الإيمان قائم في اللسان ؟ !

فإن قالوا : قائم في اللسان ، فقد فرغنا من ذلك .

وإن قالوا : تحقيق له ، ولا بد لهم من ذلك ، وإلا عاندوا اللغة ، وخالفوا الفرقان ، لأن الله يقول : ( ولما يدخل الإيمان في قلوبكم ) ، فأخبر أنه في القلب ، وأخبر أن قولهم ليس بإيمان إذ قال : لم تؤمنوا .

فقد دل أن قول الإنسان ليس بإيمان في عينه ، حتى [ ص: 780 ] يكون عبارة عما في القلب .

وأما اللغة فقد أجمع أهلها أن قول القائل : صدقت في أن لك علي حق ، أنه إقرار بلسانه ، ولا يخلو من أحد معنيين : إما أن يكون أقر له لرهبة ، أو لغير ذلك ، وهو منكر لحقه ، فذلك منه كذب ، لأنه غير مؤمن بما يقول ، أو يكون عارفا بذلك بقلبه ، مصدقا له ، وقد أجمعوا أن ذلك عبارة عما في قلبه تحقيق إيمانه بقلبه ، فيقولون قد آمن بما قال ، وصدق به ، وكذلك لو طلب منه حقه ، فقال : لي عليك ألف دينار ، أو هذا الثوب الذي عليك لي ، فخلعه ، فناوله إياه ، أو وزن له ألف دينار ، فدفعها إليه ، فقالوا : قد صدقه ، ورد عليه حقه ، ولو لم يصدقه ما أعطاه ، فإن كان الإقرار تحقيقا لما في القلب ، يدل به على أنه مصدق بالله ، وبما قال ، فكذلك جميع الطاعات المفترضة هي محققة للتصديق ، مكملة له ، لأنه إن كان إنما يكمل إيمانه بأن يرفع لسانه ، ويضعه بالتوحيد ، فكذلك يكمل إيمانه بأن يضع وجهه لله في التراب ، توحيدا له بذلك ، لا يريد غيرهما ، كلاهما جارحتان غير القلب ، وغير عمله ، ولا فرقان بين ذلك ، إلا ادعاء اللغة التي قد تداولتها العرب بينها ، يريد به العبارة [ ص: 781 ] بعينها أن الإقرار عبارة عن الإيمان في القلب ، وقد يسمى فعل الجوارح أيضا تصديقا ، لو قال قائل لرجل : إن فلانا قتل ولدك ، فشد على قاتله من غير أن يقول للمخبر له : صدقت ، لشهدت القلوب ، أنه قد صدقه بفعله ، ومع شهادتهما فهي عالمة أن ذلك الفعل تحقيق لتصديق قلبه ، لا أنه في نفسه إيمان بالقلب ، ومن ذلك تصديقا منهم تحقيقا لما في قلوبهم من تعظيم الله ، وطاعته ، ولم يخبرنا أنهم قالوا : صدقت هو علينا ، ثم سجدوا ، وأبى إبليس أن يسجد ، ولم يقل : إنك لم تأمرني بالسجود ، فكان إباؤه كفرا ، لا أنه جحد بلسانه ، فكان سجودهم إيمانا ، كما كان إباؤه كفرا .

فكذلك المؤمن إذا أقر ، شهدت القلوب أنه مصدق للظاهر ، وإن لم يقطعوا بالغيب ، وهم عارفون أن قول اللسان ليس هو الإيمان بالقلب ، وإنما هو عبارة عما في القلب ، ولن تجدوا بين ذلك فرقانا إلا بالمكابرة .

ويقال لهم : أرأيتم إن سوغنا لكم أن العبارة عما في القلب بالإقرار ، هو في عينه إيمان كالمعرفة بالقلب ، أرأيتم هذا الإقرار الذي هو إيمان ، متى يكون إيمانا ، إذا كان كافرا قبل ذلك ، فإذا أقر ، فبدل الجحد الأول ، أو [ ص: 782 ] أقر كان إيمانا ، أو إذا جاء بالإقرار ، وإن كان ناسيا على غير جحد ، فأتى بالإقرار في وقت البلوغ ، أو خلقه الله بالغا ، فأقر بعد البلوغ ؟ !

فإن قالوا : إنما يكون الإقرار باللسان إيمانا ، فمن كان جاحدا من قبل ، فقد أخرجوا الملائكة ، وآدم صلى الله عليه ، وكل ناشئ على الإسلام من أن يكون آمن بالله قط ، ولا يقول هذا أحد .

وإن زعموا أنه إيمان من كل أحد جاحدا كان ، أو ناسيا ، أو خلق بالغا ، بغير طفولية كالملائكة ، وغيرهم .

قيل لهم : فإذا كان هكذا ، فلم يسم إقرارا ، إلا أنه اعتراف للرب بوحدانيته ، وبما قال ، أو لأنه اعتراف ، وهو واجب ؟

فإن قالوا : لأنه اعتراف في عينه لا أنه أوجبه .

قيل لهم : فكلما جاء بالاعتراف ، فهو إيمان .

وإن قالوا : لأنه اعتراف ، وأن الله أوجبه .

قيل لهم : فكلما جاء به اعترافا واجبا ، فهو إيمان .

فإن قالوا : لا ، ناقضوا قولهم .

وتفسير ذلك أن العبد إذا قال : لا إله إلا الله من قلب [ ص: 783 ] صادق ، فقد أقر ، ومعنى أقر : اعترف ، فإذا كان هذا إيمانا ، فكلما وحد الله أبدا إلى أن يموت بلسانه ، فهو معترف عن قلب صادق ، فهو في كل يوم ، وفي كل ساعة يوحد فيها ، يزداد إيمانا ، وكل وقت يشتغل قلبه بالمعاصي ، فلا ينشرح للقول بالاعتراف ، ولا يعظم في قلبه الرب تبارك وتعالى ، فيفزع إلى توحيده ، فهو أنقص منه في الحال الأولى التي عظم بقلبه المعترف به ، حتى حمل ذلك على القول بلسانه من غير أن يكون نقصا بتصديقه بقلبه ، أن الله حق لا باطل ، ولكنه نقص من تركه الاعتراف الذي هو عليه واجب كالتشهد ، والذكر في الصلاة الذي كان يأتي به اليوم مرارا كثيرة من تعظيم لله بقلبه .

فإن قالوا : إن ذلك التكرار للتوحيد ، ليس هو بواجب عليه ، ولا يكون من الإيمان .

قيل لهم : فقد ثبتم عن ضمائركم أن الاعتراف إنما يكون توحيدا ، وإيمانا مع الوجوب ، أفرأيتم التشهد في الصلاة ، والتوحيد في الأذان ، أتوحيد له ؟ وكذلك الإخلاص لله بالحمد ، إذا قرأ في صلاته ، فقال : ( الحمد لله رب العالمين ) ، فقد أخلص لله بالتوحيد ، وأقر أنه رب الخلائق ، وكذلك التشهد في كل صلاة مفترضة ، [ ص: 784 ] وكذلك التلبية أول ما يحرم لا بد أن يأتي بها مرة ، فكذلك جميعا كله إيمان ، إن كان كل اعتراف واجب يكون إيمانا .

فإن قالوا : ليس هو إيمانا لأنه واجب ، ولكنه اعتراف في عينه في أول ما يصدق به .

قيل لهم : هذه دعوى منكم ، فما جعله أولا إيمانا ، وآخرا لا إيمان ، والمعنى واحد ؟ !

فإن قالوا : وجدنا جميع المسلمين إذا أقر الرجل أول ما يسلم .

قيل : آمن ، وإذا كررها بعد ذلك لم يقل : آمن .

قيل لهم : فقد ثبتم أن معناكم على قياس قولكم : إن الإقرار إنما يكون إيمانا ، فمن كان جاحدا من قبل فقط ، وهذه الشهادة على كل ملك ، ورسول ، وناشئ على الإسلام ، أنه لم يؤمن بلسانه قط ؟

فإن قالوا : لسنا نقول ذلك ، ولكنا نقول له : إن الطفل إذا بلغ ، فأقر في وقت بلوغه ، فذلك منه إيمان ، فإنه وجب عليه إيمان تلك الساعة .

قيل لهم : فهل رأيتم المسلمين يقولون لطفل إذا بلغ ، فيشهد : آمن الساعة ؟ أو يعملون أنه لم يجب عليه [ ص: 785 ] الإيمان ، إلا تلك الساعة ، ثم أتى بما وجب عليه ، ولا يقولون : إنه آمن الساعة ، فيوهمون أنه كان كافرا من قبل ، ولكن يقولون : الآن وجب عليه الإيمان ، وقد كان من قبل أن تأتي به مؤمنا ، ولم يكن واجبا عليه ، وهذا اعتراف في عينه أول ما وجب عليه ، ولم يكن اعتراف لأنه واجب ، ولو كان كذلك ما كان أحد يشهد أن لا إله إلا الله ، فيكون ذلك اعترافا ، وخضوعا لله ، إلا مرة واحدة ، ولكنه معقول أنه لا يزايله اسم الاعتراف متى أتى به ، لأنه اعتراف في عينه ، فلما كان بعد ما أداه في أول الوجوب ، لا يزايله اسم الاعتراف، لم يزايله اسم الإيمان أبدا، إلا أنه يأتي به واجبا في أول الوجوب ، ثم هو يكرره في الفرائض ، وغيرها ، ولو كان في عينه هو الإيمان ، لا لأنه اعتراف عما في القلب ، لكان إذا سكت كفر ، لأن ضد الكلام السكوت ، كما أن ضد المعرفة الإنكار .

وإن قلتم : إنما يأتي بضده إذا جحد بلسانه .

قيل : كيف يأتي بضده بعد ما قد نقض ؟ وهل يكون للفاني ضد يزيله ، وكيف يزيل الموجود ما ليس بموجود ، لأنه قد فني الكلام الأول ، وأعقبه السكوت ، ثم جاء بالجحد بلسانه ، فزال السكوت ، ثم زعمتم أنه قد زال ما كان قد زال من قبل ، [ ص: 786 ] ولو كان كذلك لكان النهر إذا ذهب ، ثم جاء الليل ، ثم جاء الصبح في اليوم الثاني ، كان اليوم الثاني ضدا للأول ، فأزال ما قد زال ، وقد كانت بينهما واسطة ، وهو الليل ، كما كان السكوت بين الإقرار والجحد .

فإن زعموا : أن الاعتراف كان عن خضوع من القلب ، فلما جاء الجحد ، لم يأت حتى زال خضوع القلب .

قيل : فقد ثبت أن الإيمان هو الخضوع مع المعرفة ، وأن القول عبارة عنه ، فلما جاء بقول ، خلاف ذلك ، لم يأت به إلا عن زوال الخضوع عن القلب ، وهو الإباء ، أن يقر بلسانه لاستنكاف ، أو طمع في دنيا ، أو طلب رياسة ، فكذلك كل ما أتى بالقول ، والخضوع في القلب على حاله ، فإنه يزداد إيمانا ، إذا كان عبارة عن الخضوع في القلب ، لم يتغير ، ولم يتقلب إلا زاله ، أو لا يحق فيه الوجوب ، لم يكرره واجبا ، وغير واجب ، إن الخضوع دائم في القلب بحاله ، والقول كالقول الأول ليس بين ذلك فرقان ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : " الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها لا إله إلا الله " .

فسمى الشهادة إيمانا ، فمتى ما وجدت الشهادة من [ ص: 787 ] قلب مخلص ، مصدق فهي إيمان ، وقائلها مزداد إيمانا إلى إيمانه .

التالي السابق


الخدمات العلمية