الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال أبو عبد الله : وقد زعمتم أن الإيمان خلتان : المعرفة ، والإقرار ، ثم زعمتم أن العارف قد يعرف ، ويجحد ، وأن المرء قد يقر بلسانه ، وينكر بقلبه ، كما وصف الله عز وجل عن المنافقين .

فإن قال منهم قائل : ليس الإيمان هو المعرفة ، ولكنه الخضوع مع المعرفة .

قيل لهم : المسألة على حالها في الخضوع كالمسألة في الحب ، إذ كانت المعرفة لا يكون إيمانا إلا بخضوع ، وليس الخضوع هو المعرفة ، وقد أضفتموه إليها ، فكذلك الحب يقوم بالخضوع ، والمسألة على حالها ، ولو كان الحب ليس جزءا من الإيمان ، ولا البغض جزءا من الكفر ، لجاز أن يفترقا ، فيكون إيمان بلا حب ، وبغض بلا كفر ، لأنكم وإن ادعيتم أن المعرفة لا يكون إيمانا إلا [ ص: 742 ] ومعها خضوع ، فقد زعمتم أن الإقرار يكون باللسان ، ليس معه معرفة ، ولا خضوع ، كما وصف الله عز وجل عن المنافقين ، فإذا كان الإيمان معرفة وخضوعا ، وإقرارا باللسان ، ولا يتم المعرفة والخضوع إلا بالإقرار باللسان ، والإقرار هو إيمان في عينه ، فجاز أن يوجد بعض الإيمان في زوال بعض ، فكذلك جائز أن يزول الحب والإيمان في القلب ، لأن الحب عن الإيمان ، والإقرار في نفسه إيمان ، وكما وجد إقرار بلا تصديق ، فكذلك جائز أن يوجد تصديق بلا حب ، فإن زعمتم أن الإقرار فرع من الإيمان ، فكذلك الحب فرع من الإيمان ، وكما وجد فرع بلا أصل ، فجائز أن يوجد حب بلا تصديق .

فإن قالوا : ذلك محال .

قيل لهم : فقد ثبتم أن الحب لله أوجب أن يكون إيمانا من الإقرار باللسان ، إذ كان الإقرار قد ينفرد دون التصديق ، فيكون إقرارا ، ولا تصديق ، ولا ينفرد الحب من الإيمان ، ولا يفارقه ، فإذا كان الإقرار ينفرد من التصديق ، فإن يقدمه التصديق صار الإقرار إيمانا ، وإذا انفرد لم يصر إيمانا ، فالحب أولى أن يكون إيمانا ، إذ لا جائز أن ينفرد من التصديق ، فالحب على دعواكم أوكد [ ص: 743 ] من الإقرار باللسان أن يكون إيمانا ، وكذلك البغض أوكد أن يكون كفرا ، وذلك أن الله عز وجل قد رخص لمن خاف على نفسه من العدو أن يعطيهم الجحد بلسانه ، فيكون مؤمنا ، وقد أتى ما يجحد بلسانه ، وبقي التصديق في قلبه ، ولا يكون مؤمنا حتى يفارق البغض لله ، وقد ينفرد الجحد باللسان عند الرخصة من التصديق ، فلا يكون كفرا ، ولا ينفرد البغض من التصديق إلا كان كفرا ناقضا للتصديق ، فالجحد باللسان للرخصة لا ينقض التصديق ، والبغض لا يكون من أحد أبدا إلا كان ناقضا للتصديق ، فالبغض أولى أن يكون كفرا ، فقد ناقضتم دعواكم فيه في دعواكم مع خروجكم من قول جميع الأمة ، لأن البغض لله في عينه ليس بكفر ، وأن الحب ليس بإيمان .

فإن قالوا : الحب ليس بإيمان ، والبغض كفر ، لأن البغض شتم .

قيل لهم : وكذلك الحب مدح .

فإن قالوا : إنا قد نحب من يستأهل عندنا ، ولا يستأهل ، ولا نبغض إلا من يستأهل البغض ، فالبغض شتم .

قيل لهم : وكذلك الحب مدح على قولكم ، ولا جائز [ ص: 744 ] للعاقل أن يحب من لا يستأهل الحب في معنى من المعاني ، كما لا جائز أن يبغض إلا من يستأهل البغض ، ومع ذلك إنكم قد فرقتم ، فزعمتم أن اثنين متضادين أحدهما ضد للآخر ، وأحدهما كفر ، وضده ليس بإيمان ، فإذا كان قد تأتي بالحب ، فلا يكون ذلك منه إيمانا ضدا للكفر ، فكذلك جائز أن يأتي بالبغض ، ولا يكون الإيمان يخرجه منه ، فإن لم يجز إلا أن يكون البغض كفرا ، لم يجز إلا أن يكون الحب إيمانا ، لأن الإيمان ضده الكفر ، وأحدهما ينفي الآخر ، فإذا كان البغض في عينه كفرا ينفي الإيمان ، فكذلك الحب في عينه إيمان ينفي الكفر ، لا فرق بين ذلك عند من يفهم المعقول ، ويعقل اللغة .

فإن قالوا : إن الحب إيمان ، والبغض كفر .

قيل لهم : وأين وجدتم هذا في اللغة أن الحب تصديق ، وأن البغض جحد ؟ !فإن قالوا : وإن لم نجده في اللغة ، فإن التصديق لا يفارق الحب ، ولا جائز أن يكون مصدق إلا محبا ، والبغض لا يفارق الكفر ، ولا جائز أن يكون مبغض إلا كافرا .

قيل لهم : فقد جعلتم ما أوجبه الإيمان إيمانا ، وما [ ص: 745 ] أوجبه الكفر كفرا ، فكذلك كل ما كان عن الإيمان والكفر ، وكانا سببا له فهو إيمان ، أو كفر من عمل القلب والجوارح ، فقد خرجتم من اللغة التي بها اعتللتم ، ووافقتم مخالفيكم ، فإن الفرقة التي قالت : إن الإيمان هو الخضوع مع المعرفة ، فكل خاضع مطيع .

قيل : وأين وجدتم الخضوع في اللغة إيمانا ؟ !

فإن قالوا : وجدنا الله تبارك وتعالى حكم لمن فعله أنه مؤمن ، وكفر من لم يخضع .

قيل لهم : فلم تأخذوا ذلك عن اللغة ، وإنما أخذتموه عن الله ، فإن كان الخضوع من الإيمان ، فكل خضوع إيمان ، إذا اتبعتم أمر الله ، وخرجتم مما تعقلون من اللغة ، فالخضوع بالقلب ، والبدن ، ألا تسمع إلى قوله : ( فظلت أعناقهم لها خاضعين ) ، فثبت الخضوع للأعناق ، فحيث ما يوجد خضوع لله فهو إيمان ، وحيث وجد إباء واستكبار ، أو ترك لأمره فهو كفر ، فالترك مع الإباء كفر ، كما كان الفعل بالخضوع والإرادة إيمانا ، فإن كانت المرجئة إنما قالت : إن الإقرار إيمان مع تصديق القلب ، لأنه تحقيق للتصديق ، فكذلك عمل الجوارح كلها . لو قال النبي صلى الله عليه وسلم لرجل : آمن بالله ، واشهد أن لا إله إلا الله ، أو قال : آمن ، وأقر بلسانك ، فقال [ ص: 746 ] بلسانه : آمنت بالله معبرا عما في قلبه لكان ذلك دالا على تحقيق ما في قلبه من المعرفة ، وإن كان الله يلي علم السرائر .

كذلك لو قال لرجل : آمن بالله ، وقم ، فصل ، فبادر إلى الوضوء ، فتوضأ ، وصلى ، لكان ذلك منه إقرارا ، وإن لم يقر بلسانه .

ولو قال : إن الله يأمرك أن تخرج من مالك ألف درهم ، فلم يقل : نعم ، فبادر ، فأعطاها النبي صلى الله عليه وسلم ، لكان ذلك يقوم مقام الإقرار ، محققا لمعرفته بالله ، إذ أبدى الطاعة ، وسارع إليها ، كما سارع إليها المقر بلسانه ، فقد قامت الجوارح مقام اللسان في التحقيق للمعرفة ، وإن كان اللسان أعظم قدرا عند الله بالشهادة ، فكل يحقق للمعرفة .

قال : ويقال لهم : أرأيتم رجلا زنديقا ، أو نصرانيا كان جالسا في سفينة ، أو رأس جرف مطلا على الماء ، فتدبر ، وتفكر في الخلق ، فعرف أن الله واحد لا شريك له ، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم جاء بالحق من عنده ، علم الله صدق ذلك منه ، فزلت قدمه ، فغرق قبل أن يتشهد بلسان ، هل يكون ذلك مؤمنا ؟ !

فإن قالوا : نعم ، قيل لهم : مستكمل الإيمان ؟ ! [ ص: 747 ] فإن قالوا : نعم ، قيل لهم : فأين الإقرار .

فإن قالوا : لم يبق إلى أن يؤدي الإقرار .

قيل لهم : فقد شهدتم بأن التصديق بلا إقرار إيمان كامل ، فإن أمكنه الإقرار ، فلم يقر أينقص الإيمان الكامل عندكم ؟ فإن أقر كمل الإيمان ، فشهدتم له بالكمال في وقت ، ثم زعمتم أنه مكمل في وقت ثان ، فكيف يكمل ما قد كمل ؟ !

فإن قلتم : إنما كمل المفترض عليه في ذلك الوقت ، ولم يفترض عليه الإقرار إن لم يبق ، فإن بقي فأقر ، زاد كمالا إلى كماله ، لأنه كان كاملا من جهة الواجب في وقته ، كاملا من جهة ما أتى به غيره ممن يفي ، فصدق ، وأقر .

قيل لهم : فهذا الذي زعمتم على أهل السنة أن الفرض من الإيمان إذا لزم العبد ، فأداه في وقته فقد أدى ما عليه ، ولم يأت بباقي الفرض من الإيمان الذي لزم غيره ، فإن بقي إلى وقت ثان ، فأدى من الفرض ما أدى غيره كان زيادة على إيمانه الأول ، كما قلتم في المصدق في الوقت الأول ، ثم عوجل بالموت قبل أن يأتي وقت ثان ، ولو أتى وقت ثان ، فشهد فيه كان زيادة على إيمانه الأول ، لا فرق بين ذلك . [ ص: 748 ]

فإن قالوا : إن الذي صدق ، ثم عوجل بالموت قبل أن يقر باللسان ، إن نوى أن يقر بالله ، ويشهد بلسانه ، فهو مؤمن ، وإلا فهو كافر .

قيل لهم : فقد ضمنتم إلى التصديق النية ، وليست في اللغة ، وتركتم قولكم : أرأيتم إن صدق في أول وقت ، فعوجل قبل أن ينوي أن يتشهد ، فمات أمؤمن هو ؟ !

فإن قالوا : لا ، فالذي نوى ، فعوجل قبل أن يأتي وقت الإقرار أيضا ليس بمؤمن ، فإن كان مؤمنا إذ لم يأت الوقت الذي يمكنه فيه الإقرار قبل تصديقه ، لأنه عجل قبل ذلك ، فكذلك من عرف في أول الوقت ، ثم عوجل قبل ذلك ، فكذلك من عرف في أول الوقت ، ثم عوجل قبل أن يأتي وقت ينوي فيه ، فقد جعلوا الإيمان تصديقا بالقلب ، ما لم يأت وقت عمل جارحه ، فإذا أتى وقت يمكنه فيه التشهد كان التشهد فيه إيمانا إلى إيمانه الأول ، فكذلك جميع عمل الجوارح إذا أتى أوقاتها ، فأمكنه القيام بها كان قيامه بها زيادة على إيمانه الأول ، لا فرقان بين ذلك .

فإن زعموا أنه إذا صدق بقلبه بأن الله واحد ليس كمثله شيء ، ثم عوجل بالموت قبل أن يمكنه التشهد أنه كافر ، فقد كفروا من هو مؤمن في اللغة ، لأن الله عز وجل قال لإبراهيم : ( أولم تؤمن قال بلى ) . [ ص: 749 ]

فإنما عبر عن إيمان قد كان قبل العبادة ، وهو التصديق ، وقال إخوة يوسف : ( وما أنت بمؤمن لنا ) ، أي مصدق ، فقد خرجوا من قولهم ، وزعموا أن المؤمن في اللغة كافر بغير ترك منه للإقرار ، وهو ينكره ، فكفروه بغير جحود ، ولا إباء للإقرار ، ولا امتناع منه ، وهو الخروج من اللغة ، ومن قول جميع الأمة ، إذ الكفر لا يكون إلا جحودا بالقلب ، أو تكذيبا بالقلب ، أو باللسان ، أو إباء ، أو امتناعا باستكبار واستنكاف .

فكذلك لو أن عبدا عند البلوغ وهو صحيح مسلم اعتقد بقلبه أن الله واحد لا شريك له ، وأن ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم حق ، ثم أفلج قبل أن يجيء وقت الإقرار باللسان ، فيبست يداه ، ولسانه ، فمكث بذلك عشر سنين مصدقا بقلبه ، لا يمكنه الإقرار باللسان ، ولا الإشارة بجارحه ، فيلزمهم أن يقولوا إنه عاش كافرا حتى مات ، وهذا الخروج من اللغة ، ومن قول الأمة كلها .

فإن قالوا : هو مؤمن ، فلا فرقان بينه وبين المصدق ، والمعاجل بالفرض قبل أن يأتي وقت يمكنه فيه الإقرار ، وكذلك إن صدق ، ثم جن ، فزال عقله مع آخر وقت التصديق قبل أن يأتي وقت يمكنه فيه الإقرار ، لا فرقان بينه وبين المعاجل بالفرض ، فقد تركوا [ ص: 750 ] قولهم ، ونقضوا أصلهم ، وأقروا بزيادة الإيمان بعد ما شهدوا له بالكمال .

التالي السابق


الخدمات العلمية