الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال أبو عبد الله : ومن ذلك قول القائل : عرفت فلانا بالشر ، والإساءة ، فأبغضته ، وعرفت فلانا بالكرم ، والإحسان ، فأحببته ، ولا يقول العرب : أبغضته ، وعرفته بالإساءة ، والشر ، ولا أحببته ، وعرفته بالخير ، والإحسان ، هذا محال في لغتها ، لأن المعرفة تتقدمها ، وليست بها ، فقد جعلتم ما كان الإيمان سببه إيمانا ، فكذلك كل ما كان الإيمان سببه من عمل القلب ، أو جارحه ، فهو إيمان ، وقد خرجتم من اللغة التي بها اعتللتم ، ووافقتم مخالفيكم في معنى الجواب الذي به أجبتم .

فإن قلتم إن المبغض لا يبغض مبغضا إلا لخصال ثلاث : إما لمعرفته بالشر منه ، وأنه في نفسه خبيث ، يستحق البغض لأفعاله الخبيثة ، ولطبعه اللئيم .

والخصلة الثانية : أن يكون - وإن كان ليس بلئيم في طبعه - قد أساء إليه ، وآذاه ، وظلمه ، فيبغضه من أجل ذلك ، أو حسده ، فيورثه الحسد له البغض ، ومحال أن يكون المؤمن فيه شيء من هذه الخصال لله ، لأنه إذا اعتقد أن الله ليس بكريم ، ولا يستحق المدح الحسن ، فقد اعتقد الكفر ، ولم يعرف ، وكذلك إن اعتقد أنه قد ظلمه ، وجار عليه ، فهو كافر ، لم يعرف الله ، لأن الجائر [ ص: 734 ] الظالم المعتدي هو المحتاج ، العاجز ، المنقوص ، إذا احتاج إلى الظلم ، لأن الظلم لا يكون إلا لخصلتين : اجترار منفعة ، أو دفع مضرة من شيء عنه لا يملكه ، أو دفع أذى من يخافه ممن ظلمه ، فيبادره بالظلم ، بأن يدفعه عن نفسه ، وجل الله تبارك وتعالى عن هذه الصفة ، فمن اعتقد ذلك فهو كافر ، وأما الحسد ، فإن العبد لا يحسد إلا مخلوقا مثله ، يقاسه عليه إذ صار إلى خير من دين أو دنيا لم يصل هو إليه ، أو عداوة متقدمة ، وليس الخلق في الإلهية معنى يعظمون أنفسهم أن ينالوا منها ، بل هم مضطرون إلى ربهم ، مصنوعون ، محدثون ، فالحسد بين الخلق والخالق خارج من هذه الجهة ، وأما الحسد عن العداوة فإن العداوة لله كفر ، لأن العداوة مضادة ، ومعاندة ، وذلك كفر كله .

قيل لهم : إنكم قد صدقتم في جوابكم أن البغض لا يكون إلا عن ذلك ، وأشباهه ، فلم نسألكم عن ذلك ، لأنه من أنزل الله بهذه المنزلة ، فلم يعرفه ، ولكن سألناكم عن البغض الذي أوجبته هذه الخلال التي هي جحد ، وكفر ، فجعلتم البغض كفرا ، وليس هذه الخلال ببغض في عينه ، ولكن البغض عنها يكون ، وهي سبب للبغض ، فقد خرجتم من الله ، وأضفتم إلى الكفر على دعواكم ما [ ص: 735 ] كان الكفر سببا له ، وعنه لا يكون هو في عينه ، فقد وافقتم مخالفيكم .

التالي السابق


الخدمات العلمية