الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
278 - حدثنا محمد بن يحيى ، ثنا أبو غسان مالك بن إسماعيل ، ثنا عبد السلام بن حرب النهدي ، قال : ثنا يزيد بن عبد الرحمن أبو خالد الدالاني ، ثنا المنهال بن عمرو ، عن أبي عبيدة ، عن مسروق ، عن عبد الله بن مسعود ، قال : " يجمع الله الناس يوم القيامة ، وينزل الله في ظل من الغمام ، فينادي مناد : يا أيها الناس! ، ألم ترضوا [ ص: 298 ] من ربكم الذي خلقكم ، وصوركم ، ورزقكم أن يولي كل إنسان منكم ما كان يعبد في الدنيا ، ويتولى ، أليس ذلكم من ربكم عدل ؟ ! قالوا : بلى! ، قال : فلينطلق كل إنسان منكم إلى ما كان يتولى في الدنيا! ، قال : ويمثل لهم ما كانوا يعبدون في الدنيا ، قال : ويمثل لمن كان يعبد عيسى شيطان عيسى ، ويمثل لمن كان يعبد عزير شيطان عزير ، حتى يمثل لهم الشجرة ، والعود والحجر ، ويبقى أهل الإسلام جثوما ، فيقول لهم الرب - تبارك وتعالى - : " ما لكم لا تنطلقون ، كما انطلق الناس ؟ ! " فيقولون : إن لنا ربا ، ما رأيناه بعد ، فيقول : " فبم تعرفون ربكم إن رأيتموه ؟ ! " قالوا : بيننا وبينه علامة ، إن رأيناها عرفناه ، قال : فيكشف عند ذلك عن ساق ، قال : (فيخر كل من كان بظهره الطبق ، ساجدا) ، ويبقى قوم ظهورهم ، كصياصي البقر ، يريدون السجود ، فلا يستطيعون ، ثم يؤمرون ، فيرفعون رؤوسهم ، فيعطون نورهم على قدر أعمالهم ، قال : فمنهم من يعطى نوره مثل الجبل بين يديه ، ومنهم من يعطى نوره فوق ذلك ، ومنهم يعطى نوره مثل النخلة بيمينه ، ومنهم من يعطى نوره دون ذلك ، حتى تكون آخر من يعطى نوره على إبهام قدمه ، يضيء مرة ويطفيء مرة ، فإذا أضاء ، قدم قدمه ، [ ص: 299 ] وإذا أطفيء قام ، قال : فيمر ، ويمرون على الصراط ، والصراط كحد السيف ، دحض مزلة ، قال : فيقول لهم : انجوا على قدر نوركم ، فمنهم من يمر كانقضاض الكوكب ، ومنهم من يمر كالطرف ، ومنهم من يمر كالريح ، ومنهم من يمر كشد الرحل ، ويرملون رملا ، فيمرون على قدر أعمالهم ، حتى يمر الذي نوره على إبهام قدمه ، قال : تخر يد ، وتعلق يد ، وتخر رجل ، وتعلق أخرى ، وتصيب جوانبه النار ، فإذا خلصوا ، قالوا : الحمد لله الذي نجانا منك بعد الذي أراناك ، لقد أعطانا الله ما ل‍م يعط أحدا ، قال : فينطلقون إلى ضحضاح عند باب الجنة ، فيغتسلون ، فيعود إليهم ريح أهل الجنة وألوانهم ، ويرون من خلل باب الجنة ، وهو مصفق منزلا في أدنى الجنة ، فيقولون : ربنا أعطنا ذلك المنزل ، فيقول لهم : " أتسألوني الجنة ، وقد نجيتكم من النار ؟ ! " فيقولون : ربنا! أعطناه ، اجعل بيننا وبين النار هذا الباب ، لا نسمع حسيسها ، فيقول : " لعلكم إن أعطيتكموه أن تسألوا غيره " ، فيقولون : لا ، وعزتك ، لا نسألك غيره ، وأي منزل يكون أحسن منه ؟ فيدخلون الجنة ، ويرفع لهم منزل أمام ذلك كان الذي رأوه قبل ذلك ، حلما عنده ، فيقولون : ربنا! أعطنا ذلك المنزل ، فيقول لهم : " لعلكم إن أعطيتكموه أن تسألوا غيره " ، فيقولون : لا ، وعزتك ، لا نسألك غيره ، وأي منزل أحسن منه ؟ فيعطونه ، ثم يرفع [ ص: 300 ] لهم منزل أمام ذلك ، كان الذي أعطوه قبل ذلك ، كان حلما عند الذي رأوا ، فيقولون : ربنا! أعطنا ذلك المنزل ، فيقول : " لعلكم إن أعطيتموه تسألوا غيره " ، فيقولون : لا وعزتك ، لا نسألك غيره ، وأي منزل أحسن منه ؟ ، ثم يسكتون ، ليقال لهم : " مالكم لا تسألون ؟ ! " فيقولون : ربنا! قد سألناك حتى استحيينا ، فيقول لهم الرب - تبارك وتعالى - : " ألا ترضون أن أعطيكم مثل الدنيا ، منذ خلقتها إلى يوم أفنيتها ، وعشرة أضعافها ؟ ! " فيقولون : أتستهزئ بنا ، وأنت رب العالمين ؟ ! .

قال مسروق : فما بلغ عبد الله هذا المكان من هذا الحديث إلا ضحك ، فقال له رجل : يا أبا عبد الرحمن! ، لقد حدثت هذا الحديث مرارا ، فما بلغت هذا المكان من هذا الحديث إلا ضحكت ؟ ! فقال عبد الله : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحدثه مرارا ، فما بلغ هذا المكان من هذا الحديث إلا ضحك ، حتى تبدو لهواته ، يقول الإنسان : أتستهزئ بنا ، وأنت رب العالمين!! فيقول : " لا ، ولكني على ذلك قادر فسلوني " ، فقالوا : ربنا ألحقنا الناس ، فيقال لهم : ألحقوا الناس ، فينطلقون ، يرفلون في الجنة ، حتى يبدو للرجل منهم قصر درة مجوفة ، فيخر ساجدا ، فيقال له : ارفع رأسك! ، فيرفع رأسه ، فيقول : رأيت ربي ، فيقال له : إنما ذلك منزل من منازلك ، فينطلق ، فيستقبله رجل ، فيتهيأ للسجود ، فيقال له : ما لك ؟ فيقول : رأيت ملكا أو ملكا ، - شك أبو غسان - ، فيقال له : [ ص: 301 ] إنما ذلك قهرمان من قهارمتك ، عبد من عبيدك ، فيأتيه ، فيقول : إنما قهرمان من قهارمتك على هذا القصر ، تحت يدي ألف قهرمان ، كلهم على ما أنا عليه ، فينطلق عند ذلك ، فيفتح له القصر ، وهو درة مجوفة ، سقائفها ، وأبوابها ، وأعلاقها ، ومفاتيحها منها ، قال : فيفتح له القصر ، فيستقبله جوهرة خضراء ، مبطنة بحمراء سبعين ذراعا ، فيها ستون بابا ، كل باب يفضي إلى جوهرة حمراء ، مبطنة بخضراء ، فيها ستون بابا ، كل باب يفضي إلى جوهرة على غير لون صاحبتها ، في كل جوهرة ، سرر وأزواج ويصائف ، أو قال : ووصائف ، - هكذا قال في الحديث - ، فيدخل ، فإذا هو بحوراء عيناء عليها سبعون حلة ، يرى مخ ساقها من وراء حللها ، كبدها مرآته ، وكبده مرآتها ، إذا أعرض عنها إعراضة ، ازدادت في عينه سبعين ضعفا ، عما كانت قبل ذلك ، فإذا أعرضت عنه إعراضة ، ازداد في عينها سبعين ضعفا ، عما كان عليه قبل ذلك ، فتقول له : ازددت في عيني سبعين ضعفا ، ويقول لها مثل ذلك ، فيشرف على ملكه ، مد بصره ، مسيرة مائة عام .

فقال عمر بن الخطاب عند ذلك : ألا تسمع يا كعب إلى ما يحدثنا به ابن أم عبد ، عن أدنى أهل الجنة ما له ، فكيف بأعلاهم ؟ فقال : يا أمير المؤمنين! ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، إن الله كان فوق العرش والماء ، فخلق لنفسه دارا [ ص: 302 ] بيده ، فزينها بما شاء ، وجعل فيها ما شاء من الثمرات والشراب ، ثم أطبقها ، فلم يرها أحد من خلقه منذ خلقها ، جبريل ، ولا غيره من الملائكة ، ثم قرأ كعب : ( فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين ) الآية ، وخلق دون ذلك جنتين ، فزينهما بما شاء ، وجعل فيهما ما ذكر من الحرير ، والسندس ، والإستبرق ، وأراهما ما شاء من خلقه من الملائكة ، فمن كان كتابه في عليين ، له تلك الدار ، فإذا ركب الرجل من أهل عليين في ملكه ، لم يبق خيمة من خيام الجنة إلا دخلها من ضوء وجهه ، حتى إنهم ليستنشون ريحه ، يقولون : واها لهذه الريح الطيبة ، ويقولون : لقد أشرف علينا اليوم رجل من أهل عليين ، فقال عمر : ويحك يا كعب! ، إن هذه القلوب قد استرخت ، فاقبضها ، فقال كعب : يا أمير المؤمنين! ، إن لجهنم زفرة ، ما من ملك مقرب ، ولا نبي إلا يخر لركبتيه ، حتى يقول إبراهيم خليل الله : رب نفسي نفسي ، حتى لو كان لك عمل سبعين نبيا إلى عملك ، لظننت أن لن تنجو منها .
[ ص: 303 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية