الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            صفحة جزء
            ص - الوقوع ، قالوا : ( إلا ما حرم إسرائيل على نفسه ) ، وأجيب بأنه يجوز أن يكون بدليل ظني .

            قالوا : قال - صلوات الله عليه : " لا يختلى خلاها ولا يعضد شجرها " . فقال العباس : إلا الإذخر ؟ فقال : " إلا الإذخر " . وأجيب بأن الإذخر ليس من الخلا ، فدليله الاستصحاب ، أو منه ولم يرده ، وصح استثناؤه بتقدير تكريره لفهم ذلك ، أو منه وأريد ونسخ بتقدير تكريره بوحي سريع .

            قالوا : " لولا أن أشق " و " أحجنا هذا لعامنا أو للأبد " و " لو قلت نعم ، لوجب " ، ولما قتل النضر بن الحارث ، ثم أنشدته ابنته :

            ما كان ضرك لو مننت وربما من الفتى وهو المغيظ المحنق

            . فقال عليه السلام : " لو سمعته ما قتلته " .

            [ ص: 336 ] وأجيب : يجوز أن يكون خير فيه معينا ، ويجوز أن يكون بوحي .

            التالي السابق


            ش - القائلون بوقوع تفويض الحكم إلى مشيئة المجتهد احتجوا بوجوه :

            الأول : قوله - تعالى : كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه .

            فإن الآية دلت على أن التحريم فوض إلى مشيئته .

            أجاب بأنه يجوز أن يكون تحريمه على نفسه بدليل ظني ، فإن الآية دلت على التحريم المطلق ، ولا يدل على التحريم من غير دليل .

            الثاني : أن النبي - عليه السلام - قال يوم فتح مكة : " إن الله - تعالى - حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض ، لا يختلى خلاها ولا يعضد شجرها " . فقال العباس : يا رسول الله : إلا الإذخر ؟ فقال - عليه السلام : " إلا الإذخر " .

            [ ص: 337 ] فهذا استثناء صدر من النبي - عليه السلام - من تلقاء نفسه ، لا لدليل .

            وقوله : لا يختلى ، أي لا يقطع . والخلى مقصورا : الرطب من الحشيش ، الواحد : خلاة . والإذخر : نبت ، الواحدة : إذخرة .

            وأجاب بأن الإذخر ليس من جنس الخلا ، فجواز اختلائه ليس مستفادا من الاستثناء ، بل مستندا إلى الاستصحاب . والاستثناء الذي ذكره مؤكد للاستصحاب .

            ولو فرضنا أن الإذخر من جنس الخلا ، يجوز أن لا يكون الإذخر مرادا ، فلا يكون داخلا تحت الخلا في التحريم . فإن قيل : إذا لم يكن الإذخر مرادا لم يصبح الاستثناء ، فإن عدم الإرادة ينافي صحة الاستثناء .

            أجيب بأنا لو قدرنا أن استثناء النبي - عليه السلام - تكرير لاستثناء العباس ، حتى يكون معناهما واحدا ، صح الاستثناء وإن لم يرد الرسول - عليه السلام - لفهم العباس إرادة الإذخر .

            [ ص: 338 ] فيكون صحة الاستثناء لفهم العباس الإرادة ، لا لإرادة الرسول . ولو سلم أن الإذخر من جنس الخلا ، وأريد منه ، وقدرنا أن تكرير الاستثناء لأجل الإرادة ، لم يلزم المدعي ; فإنه يجوز أن تثبت حرمة الإذخر بالعام ، ونسخ بوحي سريع .

            فإن قيل : الناسخ يجب تأخره عن المنسوخ . والوحي السريع - على تقدير تحققه - غير متأخر عنه ، فلا يكون ناسخا .

            أجيب بأن الناسخ يجب أن يكون متأخرا عن الحكم . والوحي السريع وإن كان غير متأخر عن قول الرسول - عليه السلام - لكنه متأخر عن الحكم ، فإن حركة اختلاء الخلا ثابتة قبل تكلم الرسول - عليه السلام - بحرمته .

            الثالث : قوله - عليه السلام : " لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك " . فإنه أسند الأمر إلى نفسه ، وهذا يدل على أنه مفوض إلى اختياره ، وإلا لما أسند إلى نفسه .

            [ ص: 339 ] الرابع : أنه لما قام سراقة بن مالك بن جعشم ، في حجة الوداع ، وقال : يا رسول الله ، أحجنا هذا لعامنا أم للأبد ؟ فقال - عليه السلام : لو قلت نعم ، لوجب .

            ولولا أنه مفوض إلى مشيئته ، لما وجب بقوله : نعم .

            الخامس : أنه لما قتل نضر بن الحارث ، جاءت ابنته قتيلة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنشدته :

            [ ص: 340 ]

            ما كان ضرك لو مننت وربما من الفتى وهو المغيظ المحنق

            . فقال - عليه السلام : لو سمعته ، ما قتلته .

            ولولا أن قتله مفوض إلى النبي - عليه السلام ، لما قال الرسول - عليه السلام - ذلك .

            والغيظ : غضب كامن للعاجز . يقال : غاظه ، فهو مغيظ . والحنق : الغيظ ، وأحنقه غيره ، فهو محنق .

            والجواب عن الوجوه الثلاثة : أنه يجوز أن يكون الرسول - عليه السلام - مخيرا بين الأمرين على التعيين ، على معنى أنه خير بين أن يأمر بالسواك أو لا يأمر ، وبين أن يأمر بالحج في كل سنة ، وبين [ ص: 341 ] أن لا يأمر . وكذا في قتل نضر بن الحارث ، فلا يلزم أن يكون الحكم مفوضا إلى مشيئته .

            ويجوز أن يكون قول الرسول - عليه السلام - بالوحي ، لا من تلقاء نفسه ، فلا يكون من باب المتنازع فيه .




            الخدمات العلمية