الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ثم دخلت سنة سبع عشرة وثلاثمائة

فمن الحوادث فيها :

أن مؤنسا المظفر دخل بغداد بعد أن لقيه عبد الله بن حمدان ، ثم من يراد للإمارة ، وأحكم معه ما أراد ، فدخل بيته ولم يمض إلى دار السلطان ، فمضى إليه أبو العباس ابن أمير المؤمنين ، ومحمد بن علي الوزير ، وعرفاه شوق أمير المؤمنين إليه ، فاعتذر من تخلفه بعلة شكاها ، فأرجف الناس بتنكره ووثب الرجالة ببعض حاشيته ، فواثبهم أصحابه ، فوقع في نفس مؤنس أن هذا بأمر السلطان ، فجلس في طياره وصار إلى باب الشماسية ، وتلاحق به أصحابه ، وخرج إليه نازوك في جيشه ، فلما بلغ المقتدر ذلك صرف الجيش عن بابه ، وكاتب مؤنسا وسائر الجيش بإزاحة عللهم في الأموال ، وخاطب مؤنسا بأجمل خطاب ، وقال : وأما نازوك فلست أدرى ما سبب عتبه واستيحاشه ، والله يغفر له سيئ ظنه وأما ابن حمدان فلست أعرف شيئا أحفظ له إلا عزله عن الدينور ، وإنما أردنا نقله إلى ما هو أجل منه وما لأحد من الجماعة عندي إلا ما يحب ، واستظهر كل واحد منهم لنفسه بعد أن لا يخلع الطاعة ولا ينقض بيعة فإني مستسلم لأمر الله عز وجل غير مسلم حقا خصني الله به ، فاعل ما فعله عثمان بن عفان رضى الله عنه ، ولا آتي في سفك الدماء ما نهى الله عز وجل عنه ، ولست أنتصر إلا بالله . [ ص: 280 ]

فسمع العسكر هذا فقالوا : نمضي فنسمع ما يقول ، فأخرج المقتدر جميع من كان يحمل سلاحا وجلس على سريره في حجره مصحف يقرأ فيه ، وأمر بفتح الأبواب وأحضر بنيه ، فأقامهم حول سريره ، فصار المظفر إلى باب الخاصة ، ثم صرف الناس على حالة جميلة ، فسروا بالسلامة ، ورجع المظفر إلى داره ، فلما كان يوم الخميس لثلاث عشرة من المحرم عاود أصحاب نازوك وسائر الفرسان الركوب في السلاح ، وأخرجوا المظفر على كره منه وغلبه نازوك على التدبير ، وركب نازوك يوم الجمعة بعد الصلاة والناس معه في السلاح ، فوجدوا الأبواب مغلقة فأحرقوا بعضها ودخلوا وقد تكاملت عدة الفرسان اثني عشر ألفا ومبلغ مالهم في كل شهر خمسمائة ألف دينار ، والرجالة عشرون ألفا ومبلغ مالهم عشرون ومائة ألف دينار ، فدخل نازوك وأصحابه الدار بخيلهم ، فدخل المظفر وأخرج الخليفة وولده والسيدة إلى منزله ، ونهب الجند الدار ثم دخل المظفر بالقصر ، وأجمع رأي نازوك وعبد الله بن حمدان على إجلاس محمد بن المعتضد ، فجاءوا به في ليلة السبت للنصف من المحرم ، فسلموا عليه بالخلافة ، ولقب القاهر بالله ، وقلد أبو علي بن مقلة وزارته ، ونازوك الحجبة مضافا إلى الشرطة ، ونهبت دار السلطان ، ووجد لأم المقتدر ستمائة ألف دينار ، فحملت وخلع المقتدر من الخلافة يوم السبت النصف من المحرم ، وأشهد على نفسه القضاة بالخلع ، وسلم الكتاب بذلك إلى القاضي أبي عمر محمد بن يوسف ، فسلمه إلى ولده أبي الحسين ، وقال له : احفظه ولا يراه أحد من خلق الله ، فلما أعيد المقتدر إلى الخلافة بعد يومين أخذ القاضي أبو عمر الكتاب ، فسلمه إلى المقتدر من يده إلى يده وحلف له أنه ما رآه أحد من خلق الله غيري ، فحسن موقع ذلك من المقتدر وشكره وقلده بعد مديدة قضاء القضاة .

ولما كان من غد بيعة القاهر ، وهو يوم الأحد ، جلس القاهر بالله ، وحضر الوزير أبو [ ص: 281 ] علي بن مقلة فكتب ابن مقلة إلى العمال بخبر تقليده الخلافة ، ثم شغب الجند يطلبون الأرزاق ، فلما كان يوم الاثنين اجتمعوا وطالبوا وهجموا فقتلوا نازوك وصاحوا : "مقتدر يا منصور " فهرب الوزير والحجاب والحشم ، وجاء المقتدر فجلس ، وجيء بالقاهر إليه فأجلسه بين يديه واستدناه وقبل جبينه ، وقال : يا أخي أنت لا ذنب لك ، وقد علمت أنك قهرت والقاهر يقول الله الله ، نفسي نفسي يا أمير المؤمنين . فقال له : وحق رسول الله لا جرى عليك مني سوء أبدا ، وعاد ابن مقلة فكتب إلى الأماكن بخلافة المقتدر .

وفيها بذرق الحاج منصور الديلمي وسلموا في طريقهم ، فلما وصلوا إلى مكة وافاهم أبو طاهر الهجري إلى مكة يوم التروية ، فقتل الحاج في المسجد الحرام وفي الفجاج من مكة ، وقتلهم في البيت قتلا ذريعا . وكان الناس في الطواف وهم يقتلون ، وكان في الجماعة علي بن بابويه يطوف ، فلما قطع الطواف ضربوه بالسيوف ، فلما وقع أنشد :


ترى المحبين صرعى في ديارهم كفتية الكهف لا يدرون كم لبثوا



واقتلع الهجري الحجر الأسود ، وقلع قبة بئر زمزم ، وعرى الكعبة ، وقلع باب البيت وأصعد رجلا من أصحابه ليقلع الميزاب ، فتردى الرجل على رأسه ومات ، وقتل أمير مكة ، وأخذ أموال الناس ، وطرح القتلى في بئر زمزم ، ودفن باقيهم في مصارعهم وفي المسجد الحرام من غير أن يصلى عليهم ، وانصرف إلى بلده ، وحمل معه الحجر الأسود فبقي عندهم أكثر من عشرين سنة إلى أن ردوه .

أخبرنا محمد بن أبي طاهر ، أنبأنا علي بن المحسن ، عن أبيه ، قال : حدثنا أبو الحسين عبد الله بن أحمد بن عياش القاضي ، قال : أخبرني بعض أصحابنا أنه كان بمكة في الوقت الذي دخلها أبو طاهر القرمطي ونهبها وسلب البيت وقلع الحجر [ ص: 282 ] الأسود والباب وقتل المسلمين في الطواف وفي المسجد وعمل تلك الأعمال العظيمة ، قال : فرأيت رجلا قد صعد البيت ليقلع الميزاب ، فلما صار عليه سقط فاندقت عنقه ، فقال القرمطي : لا يصعد إليه أحد ودعوه ، فترك الميزاب ولم يقلع ، ثم سكنت الثائرة بعد يوم أو يومين ، قال : فكنت أطوف بالبيت فإذا بقرمطي سكران وقد دخل المسجد بفرسه ، فصفر له حتى بال في الطواف ، وجرد سيفه ليضرب به من لحق ، وكنت قريبا منه ، فعدوت ، فلحق رجلا كان إلى جنبي فضربه فقتله ، ثم وقف وصاح : يا حمير أليس قلتم في هذا البيت من دخله كان آمنا ، فكيف يكون آمنا وقد قتلته الساعة بحضرتكم . قال : فخشيت من الرد عليه أن يقتلني ، ثم طلبت الشهادة ، فجئت حتى لصقت به وقبضت على لجامه وجعلت ظهري مع ركبتيه لئلا يتمكن من ضربي بالسيف ، ثم قلت : اسمع ، قال : قل : قلت : إن الله عز وجل لم يرد أن من دخله كان آمنا إنما أراد من دخله فأمنوه ، وتوقعت أن يقتلني فلوى رأس فرسه وخرج من المسجد وما كلمني .

قال المحسن : وحدثني أبو أحمد الحارثي ، قال : أخبرني رجل من أصحاب الحديث أسرته القرامطة سنة الهبير واستعبدته سنين ، ثم هرب منها لما أمكنه قال : كان يملكني رجل منهم يسومني سوء العذاب ، ويستخدمني أعظم خدمة ، ويعربد علي إذا سكر ، فسكر ليلة وأقامني حياله ، وقال : ما تقول في محمد هذا صاحبكم ؟ فقلت : لا أدري ، ولكن ما تعلمني أيها المؤمن أقوله ، فقال : كان رجلا سائسا ، قال : فما تقول في أبي بكر ؟ قلت : لا أدري ، قال : كان رجلا ضعيفا مهينا ، قال : فما تقول في عمر ؟ قلت : لا أدري ، قال : كان والله فظا غليظا ، فما تقول في عثمان ؟ قلت : لا أدري ، قال : كان جاهلا أحمق ، فما تقول في علي ؟ قلت : لا أدري ، قال : كان ممخرقا أليس يقول [ ص: 283 ]

إن ها هنا علما لو أصبت له حملة ، أما كان في ذلك الخلق العظيم بحضرته [من يودع ] كل واحد منهم كلمة حتى يفرغ ما عنده هل هذه إلا مخرقة ؟ ونام فلما كان من غد دعاني ، فقال : ما قلت لك البارحة ؟ فأريته أني لم أفهمه ، فحذرني من إعادته والإخبار عنه بذلك ، فإذا القوم زنادقة لا يؤمنون بالله ولا يفكرون في أحد من الصحابة .

قال المحسن : ويدل على هذا أن أبا طاهر القرمطي دخل الكوفة دفعات ، فما دخل إلى قبر علي عليه السلام واجتاز بالحائر فما زار الحسين . وقد كانوا يمخرقون بالمهدي ويوهمون أنه صاحب المغرب ، ويراسلون إسماعيل بن محمد صاحب المهدية المقيم بالقيروان . ومضت منهم سرية مع الحسين بن أبي منصور بن أبي سعيد في شوال سنة ستين وثلاثمائة ، فدخلوا دمشق في ذي القعدة من هذه السنة ، فقتلوا خلقا ثم خرجوا إلى مكة فقتلوا واستباحوا وأقاموا الدعوة للمطيع لله في كل فتح فتحوه ، وسودوا أعلامهم ورجعوا عما كانوا عليه من المخرقة ضرورة ، وقالوا : لو فطنا لما فطن له ابن بويه الديلمي لاستقامت أمورنا ، وذلك أنه ترك المذاهب جانبا ، وطلب الغلبة والملك فأطاعه الناس .

وكان من مخاريقهم قبة ينفرد فيها أميرهم وطائفة معه ، ولم يقاتلوا ، فإذا كل المقاتلون حمل هو بنفسه وتلك الطائفة على قوم قد كلوا من القتال ، وكانوا يقولون : إن النصر ينزل من هذه القبة ، وقد جعلوا مدخنة وفحما ، فإذا أرادوا أن يحملوا صعد أحدهم إلى القبة وقدح وجعل النار في المجمرة وأخرج حب الكحل فطرحه على النار فتفرقع فرقعة شديدة ولا يكون له دخان ، وحملوا ولا يلبث لهم شيء ولا يوقد ذلك إلا أن يقول صاحب العسكر : نزل النصر ، فكسر تلك القبة أصحاب جوهر الذي ملك مصر .

التالي السابق


الخدمات العلمية