الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر طرف من سيرته

كان الراضي سمحا واسع النفس ، أديبا شاعرا حسن البيان والفصاحة ، يحب محادثة العلماء . سمع من البغوي قبل الخلافة كثيرا ووصله بمال كثير غزير ، ورفع إليه أن عبد الرحمن بن عيسى قد احتاز أموالا عظيمة ، وتقرر عليه مائة ألف دينار ، فحلف أن [ ص: 337 ] لا يقنع إلا بأدائها ، فكتب الوزير أبو جعفر الكرخي تقسيطا بدأ فيه بنفسه ، ودخل عليه جعفر بن ورقاء فسلم إليه الدرج ، وخاطبه ليكتب شيئا ، فقال : أنا أدبر الأمر ، وكتب ضمن جعفر بن ورقاء لوكيل أمير المؤمنين مائة ألف دينار عن عبد الرحمن بن عيسى ، ونفذ بها ، فلما رأى الراضي الرقعة اغتاظ وخرقها ، وقال : قل له يا أعرابي جلف أردت أن تري الناس أنك واسع النفس وقد عزمت عمن لا حرمته بينك وبينه هذا المال ، وضاقت نفسي أنا عن تركه وهو خادمي فتظهر أنك أكرم مني ، لا كان هذا ، فقال ابن ورقاء : والله ما اعتمدت أن يقع في نفسه إلا هذا فيفعل ما فعله ، ولو جرى الأمر بخلافه لأديت ما أملك ، واستمحت الناس .

أخبرنا أبو منصور القزاز ، أخبرنا أبو بكر الخطيب ، قال : كان للراضي فضائل كثيرة وختم الخلفاء في أمور عدة منها : أنه آخر خليفة له شعر مدون ، وآخر خليفة انفرد بتدبير الجيوش والأموال ، وآخر خليفة خطب على المنبر يوم الجمعة ، وآخر خليفة جالس الجلساء ووصل إليه الندماء ، وآخر خليفة كانت نفقته وجوائزه وعطاياه وجراياته وخزانته ومطابخه ومجالسه وخدمه وحجابه وأموره كلها تجري على ترتيب المتقدمين من الخلفاء ، وقد روي لنا في حديث أنه وقع حريق بالكرخ ، فأطلق للهاشميين عشرة آلاف دينار وللعامة أربعين ألفا حتى عمروا ما احترق ، وولع بهدم القصور من دار الخلافة وتصييرها بساتين .

وله أشعار حسان منها :


لا تعذلي كرمي على الإسراف ربح المحامد متجر الإشراف     أجري كآبائي الخلائف سابقا
وأشيد ما قد أسست أسلافي     إني من القوم الذين أكفهم
معتادة الأخلاف والإتلاف

حدثنا عبد الرحمن بن محمد ، أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت ، أخبرنا علي بن المحسن التنوخي ، عن أبيه ، قال : سمعت أبا بكر محمد بن يحيى الصولي يحكي : أنه دخل على الراضي وهو يبني شيئا أو يهدم شيئا فأنشده أبياتا ، وكان الراضي جالسا على

[ ص: 338 ]

آجرة حيال الصناع ، قال : وكنت أنا وجماعة من الجلساء ، فأمرنا بالجلوس بحضرته ، فأخذ كل واحد منا آجرة فجلس عليها ، واتفق أني أخذت آجرتين ملتصقتين بشيء من إسفيذاج ، فجلست عليهما ، فلما قمنا أمر أن توزن آجرة كل واحد منا ويدفع إليه وزنها دراهم أو دنانير . قال أبي : الشك مني ، قال : فتضاعفت جائزتي على جوائز الحاضرين بتضاعف وزن آجرتي على وزن آجرهم .

ومن أشعاره :


يصفر وجهي إذا تأمله     طرفي ويحمر وجهه خجلا
حتى كأن الذي بوجنته     من دم جسمي إليه قد نقلا

قال أبو بكر الصولي : قد كنت قلت : أبياتا وهي :


يا مليح الدلال رفقا بقلب     يشتكي منك جفوة وملالا
نطق السقم بالذي كان يخفي     فسل الجسم إن أردت سؤالا
قد أتاه في النوم منك خيال     فرآه كما اشتهيت خيالا
يتحاماه للضنا ألسن العذ     ل فأضحى لا يعرف العذالا

فأنشدت هذه الأبيات للراضي بالله ، فجذب الدواة وعمل من وقته :


عقلي لا يقبل المحالا     وأنت لا تبذل الوصالا
ضللت في حبكم فحسبي     حتى متى أتبع الضلالا
قد زارني منكم خيال     فزدت إذ زارني خبالا
رأى خيالا على فراش     وما أراه رأى خيالا

قال الصولي : فعجبت والله من سرعة فطنته .

وفي هذه السنة : عظم أمر مرداويج بأصبهان ، وحدث الناس أنه يريد تشعيث الدولة ، وقصد بغداد ، وأنه مسالم لصاحب البحرين يجتمعان على ذلك ، وكان يقول : أنا أرد دولة العجم وأبطل ملك العرب ، ثم أساء السيرة في أصحابه خصوصا في الأتراك ، فتواطئوا على إهلاكه ، ثم ورد الخبر بأن غلمانه قتلوه ، وأن رئيس الغلمان غلام [ ص: 339 ] يعرف ببجكم زعم ابن ياقوت أنه هو الذي دبر ذلك ، وكاتب فيه الغلمان .

التالي السابق


الخدمات العلمية