الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
24 - ( 590 ) : حدثنا أبو موسى ، محمد بن المثنى ، قال : حدثني عباس بن الوليد ، قال : ثنا يزيد بن زريع ، قال : ثنا سعيد قال : ثنا قتادة عن أنس ، أن الربيع أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله : أنبئني عن حارثة أصيب يوم بدر ، فإن كان في الجنة صبرت واحتسبت ، وإن كان غير ذلك اجتهدت في البكاء ، فقال : " يا أم حارثة : إنها جنان في جنة ، وإنه أصاب الفردوس الأعلى " .

قال أبو بكر : قد أمليت أكثر طرق هذا الخبر في كتاب الجهاد ، وقد أمليت في كتاب ذكر نعيم الجنة ذكر درجات الجنة ، وبعد ما بين الدرجتين ، (وأمليت [ ص: 875 ] أخبار النبي صلى الله عليه وسلم : أن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف ، كما تراءون الكوكب الدري في أفق من آفاق السماء لتفاضل ما بينهما ، وقول بعض أصحابه تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم ، قال : بلى ، رجال آمنوا بالله ، وصدقوا المرسلين) .

وأمليت أخبار النبي - صلى الله عليه وسلم بين كل درجتين من درج الجنة مسيرة مائة عام .

فمعني هذه الأخبار - التي فيها ذكر بعض الذنوب الذي يرتكبه بعض المؤمنين ، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم يعني قال : إن مرتكبه لا يدخل الجنة ، معناها أنه لا يدخل العالي من الجنان التي هي دار المتقين الذين لم يرتكبوا تلك الذنوب والخطايا ، والحوبات ، وقد كنت أقول - وأنا حدث - جائز أن يكون معنى إخبار النبي - صلى الله عليه وسلم : (لا يدخل النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان " : أى لا يدخل النار دخول الأبد ، كدخول أهل الشرك والأوثان ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم :

" أما أهل النار الذين هم أهلها لا يموتون فيها ولا يحيون "

الأخبار التي قد أمليتها بتمامها أو يكون معناها أى : لا يدخلون النار موضع الكفار والمشركين من النار ، إذ الله عز وجل قد أعلم أن للنار سبعة أبواب وأخبر أن لكل باب منهم جزءا مقسوما ، فقال : لها سبعة أبواب . . ، [ ص: 876 ] فمعنى هذا الخبر : قد يكون أنهم لا يدخلون النار موضع الكفار منها ، لأن العلم محيط أن من لم يدخل موضعا ولم يقل لم يخرج ، قد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم في الأخبار المتواترة التي لا يدفعها عالم بالأخبار أنه يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان ، فإذا استحال أن يخرج من موضع لم يدخل فيه ، ثبت وبان وصح : أن يخرج من النار ممن كان في قلبه ذرة من إيمان إنما أخرج من موضع النار غير الموضع الذي خبر النبي - صلى الله عليه وسلم أنه لا يدخل ذلك الموضع من النار .

فالتأليف بين الأخبار المأثورة عن النبي - صلى الله عليه وسلم على ما قد بينا ، وبيقين يعلم كل عالم بلغة العرب : أن جائزا أن يقول القائل لا أدخل الدار إنما يريد بعض الدور ، كذلك يقول أبضا : لا أدخل دار فلان . ولفلان دور ذوات عدد ، إنما يريد أني لا أدخل بعض دوره ، لا أنه إنما يريد لا أدخل شيئا من دور فلان . والصادق عند السامع الذي لا يتهم بكذب إذا سمعه يقول : لا أدخل دار فلان ، ثم يقول بعد مدة قصيرة أو طويلة أدخل دار فلان ، لم يتوهم من سمع من الصادق هاتين اللفظتين أن إحداهما خلاف الأخرى ، إذا كان المتكلم بهاتين اللفظتين عندهم ورعا ، دينا ، فاضلا صادقا ، ويعلم من سمعه ممن يعلم أنه لا يكذب أنه إنما أراد بقوله : لا أدخل دار فلان - إذا سمع اللفظة الثانية أدخل دار فلان - أنه أراد بالدار التي ذكر أنه لا يدخلها غير الدار التي ذكر أنه يدخلها ، فإذا كان معلوما [ ص: 877 ] عند السامعين إذا سمعوا الصادق البار عندهم يتكلم بهاتين اللفظتين أنهما ليستا بمتناقضتين ولا متهاترتين وأنهم يحملون اللفظتين جميعا على الصدق ، ويؤلفون بينهما أنه إنما أراد بالدار التي ذكر أنه لا يدخلها غير الدار التي ذكر أنه يدخلها ، وجب على كل مسلم يقر بنبوة النبي - صلى الله عليه وسلم ويستيقن أنه أبر الخلق ، وأصدقهم وأبعدهم من الكذب ، والتكلم بالتكاذب والتناقض أن يعلم ويستيقن أن النبي - صلى الله عليه وسلم يقول : " لا يدخل النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان " يريد : لا يدخل شيئا من المواضع التي يقع عليها اسم النار ، ثم يقول : " يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان " لأن اللفظتين اللتين رويتا عنه إذا حملتا على هذا : كانت إحداهما دافعة للأخرى ، فإذا تؤولتا على ما ذكرنا كانتا متفقتي المعنى ، وكانتا من ألفاظ العام التي يراد بها الخاص . فافهموا هذا الفصل ، لا تخدعوا فتضلوا عن سواء السبيل .

ونقول أيضا : معلوم متيقن عند العرب أن المرء قد يقول : " لا أدخل موضع كذا وكذا ، ولا يدخل فلان موضع كذا وكذا : يريد مدة من المدد ووقتا من الأوقات .

قد يجوز أن يقول صلى الله عليه وسلم من فعل كذا وكذا لم يدخل الجنة : يريد لم يدخل الجنة في الوقت الذي يدخلها من لم يرتكب هذه الحوبة ، لأنه يحبس عن دخول الجنة ، إما للمحاسبة على الذنب ، أو لإدخال النار ليعذب بقدر ذلك الذنب ، إن كان ذلك الذنب مما يستوجب به المرتكب النار - إن لم يعف الله ويصفح ويتكرم ، فيغفر ذلك الذنب .

[ ص: 878 ] فمعني هذه الأخبار لم يخل من أحد هذه المعاني ، لأنها إذا لم تحمل على بعض هذه المعاني كانت على التهاتر والتكاذب . وعلى العلماء أن يتأولوا أخبار رسول الله - صلى الله عليه وسلم على ما قال علي بن أبي طالب : (إذا حدثتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فظنوا به الذي هو أهناه وأهداه وأتقاه) .

التالي السابق


الخدمات العلمية