الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
100 - قال وحدثنا جعفر بن سليمان النوفلي المدني ، ثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي ، ثنا محمد بن فليح ، عن موسى بن عقبة عن ابن شهاب الزهري قال لما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه إلى الذي بعثه الله من النور والهدى الذي أنزل عليه لم يتغادر منهم أول ما دعاهم فاستمعوا له حتى ذكر طواغيتهم فأنكروا ذلك عليه وقدم ناس من قريش من كبرائهم وأشرافهم من أموال لهم بالطائف فكرهوا ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأغروا [ ص: 103 ] به من أطاعهم فانصفق عنه عامة الناس إلا من حفظ الله عز وجل منهم وهم قليل فمكث بذلك ما قدر الله عز وجل أن يمكث ثم إن قريشا ائتمرت بينهم واشتد مكرهم وهموا بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم أو إخراجه حين رأوا أصحابه يزدادون ويكثرون فعرضوا على قومه أن يعطوهم ديته ويقتلونه فحمي قومه من ذلك وقالت لهم قريش إن كان إنما بكم الحمية من أن تقتله قريش فنحن نعطيكم الدية ويقتله رجل من غير قريش فإنكم تعلمون أنه قد أفسد أبناءكم ونساءكم وعبيدكم فيأبى قومه ذلك فمنع الله رسوله صلى الله عليه وسلم ودفع كيد من كاده فقالت قريش اقتلوا محمدا بزحمة واجتمع من قبائل قريش كلها نفر فأحاطوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يطوف بالبيت حتى كادت أيديهم أن تحيط به أو تلتقي عليه فصاح أبو بكر رضي الله عنه ( أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم ) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم دعهم يا أبا بكر فإني بعثت إليهم بالذبح فكبر ذلك عليهم وقالوا ما كذبنا بشيء قط وقال زهير بن أبي أمية مهلا يا أبا القاسم ما كنت جهولا فتفرقوا عنه واشتدوا على من اتبعه على دين الله من أبنائهم وإخوانهم وقبائلهم فكانت فتنة شديدة وزلزال شديد فمنهم من عصمه الله ومنهم من افتتن فلما فعل ذاك بالمسلمين أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخل في الشعب مع بني عبد المطلب الخروج إلى أرض الحبشة وكان بأرض الحبشة ملك يقال له النجاشي لا يظلم أحد بأرضه وكان يثني عليه وكان أرض الحبشة متجرا لقريش ومسكنا لتجارهم يجدون فيها رفقا من الرزق وأمانا ومتجرا حسنا فلما أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم انطلق إليها عامتهم حين قهروا وتخوفوا الفتنة وخرج جعفر بن أبي طالب في رهط من المسلمين فرارا بدينهم إلى أرض الحبشة وبعثت قريش عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد بن المغيرة وأمرهما أن يسرعا السير ففعلا وأهدوا للنجاشي فرسا وجبة ديباج وأهدوا لعظماء الحبشة هدايا فلما قدما على النجاشي قبل هداياهم وأجلس عمرو بن العاص على سريره فقال إن هذا الرجل الذي خرج بين أظهرنا وأفسد فينا قد تناولك ليفسد عليك دينك وملتك ونحن ناصحون لك وأنت لنا عامة صاحب صدق تأتي إلى عشيرتنا المعروف ويأمن تاجرنا عندك فبعثنا قومنا إليك لننذرك فساد أمتك وهؤلاء أصحاب الرجل قادمون عليك فادفعهم إلينا فقال عظماء الحبشة أجل فادفعهم إليه فقال النجاشي والله [ ص: 104 ] لا أدفعهم إليه حتى أكلمهم وأعلم على أي شيء هم فقال عمرو بن العاص هم أصحاب الرجل الذي خرج فينا وسنخبرك بما نعرف من سفههم وخلافهم الحق . إنهم لا يشهدون أن عيسى ابن مريم ابن الله . ولا يسجدون لك إذا دخلوا عليك . ولا يحيونك كما يحييك من دخل عليك في سلطانك .

فأرسل النجاشي إلى جعفر وأصحابه فأجلس عمرا على سريره فلم يسجد جعفر ولا أصحابه وحيوه بالسلام فقال عمرو وعمارة ألم نخبرك خبر القوم والذي يراد بك فقال النجاشي ألا تخبروني أيها الرهط ما لكم لا تحيوني كما يحييني من أتاني من قومكم وأهل بلادكم وأخبروني ما تقولون في عيسى ابن مريم وما دينكم أنصارى أنتم قالوا لا قال أفيهود أنتم قالوا لا قال فعلى دين قومكم قالوا لا قال فما دينكم قالوا الإسلام قال وما الإسلام قالوا نعبد الله وحده لا نشرك به شيئا قال ومن جاءكم بهذا قالوا جاء به رجل من أنفسنا قد عرفنا وجهه ونسبه بعثه الله إلينا كما بعث الرسل من قبله فأمرنا بالصدق والوفاء وأداء الأمانة ونهانا أن نعبد الأوثان وأمرنا أن نعبد الله وحده لا شريك له فصدقناه وعرفنا كلام الله عز وجل وعلمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء به من عند الله عز وجل فلما فعلنا ذلك عادانا قومنا وعادوا النبي صلى الله عليه وسلم الصادق وكذبوه وأرادوا قتله وأرادونا على عبادة الأوثان ففررنا إليك بديننا ودمائنا من قومنا ولو أقرونا استقررنا فقال النجاشي والله إن خرج هذا الأمر إلا من المشكاة التي خرج منها أمر موسى فقال جعفر : أما التحية فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن تحية أهل الجنة السلام وأمر بذلك فحييناك بالذي يحيى بعضنا بعضا .

وأما عيسى ابن مريم فهو عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه وابن العذراء البتول فخفض النجاشي يده إلى الأرض فأخذ منه عودا فقال والله ما زاد ابن مريم على هذا العود فقال عظماء الحبشة والله لئن سمع الحبشة هذا لتخلعنك فقال النجاشي والله لا أقول في عيسى غير هذا أبدا والله ما أطاع لله الناس في حين رد إلي ملكي فأنا أطيع الناس في الله معاذ الله من ذلك وكان أبو النجاشي ملك الحبشة فمات والنجاشي غلام صغير فأومأ إلى أخيه أن إليك ملك قومي حتى يبلغ ابني فإذا بلغ فله الملك [ ص: 105 ] فرغب أخوه في الملك فباع النجاشي من بعض التجار وقال للتاجر: دعه حتى إذا أردت الخروج فآذني أدفعه إليك، فآذنه التاجر بخروجه فأرسلبالنجاشي حتى وقفه عند السفينة ولا يدري النجاشي ما يراد به فأخذ الله عمه الذي باعه فمات قعصا فجاءت الحبشة بالتاج فوضعوه على رأس النجاشي وملكوه فلذلك قال النجاشي ما أطاع الله الناس في حين رد إلي ملكي وزعموا أن التاجر الذي كان ابتاعه قال ما لي بد من غلامي الذي ابتعته أو مالي فقال النجاشي صدق ادفعوا إليه ماله فقال النجاشي حين كلمه جعفر بما كلمه وحين أبى أن يدفعه إلى عمرو : أرجعوا إلى هذا هديته يريد عمرا والله لو رشوني في هذا دبرا من ذهب ما قبلته والدبر بكلام الحبشة الجبل وقال لجعفر وأصحابه امضوا فإنكم سيوم والسيوم الآمنون فقد منعكم الله وأمر لهم بما يصلحهم من الرزق وقال من نظر إلى هؤلاء الرهط نظرة تؤذيهم غرم وكان الله عز وجل قد ألقى بين عمرو وعمارة في مسيرهما ذلك العداوة والبغضاء قبل أن يقدما على النجاشي ثم اصطلحا حين قدما على النجاشي ليدركا حاجتهما التي خرجا لها من طلب المسلمين فلما فاتهما ذلك رجعا إلى شيء مما كان عليه من العداوة وسوء ذات البين فمكر عمرو بعمارة فقال يا عمارة إنك رجل جميل فاذهب إلى امرأة النجاشي فتحدث عندها إذا خرج زوجها فإن ذلك عون لنا في حاجتنا فراسلها عمارة حتى دخل عليها فلما دخل عليها انطلق عمرو إلى النجاشي فقال له إن صاحبي هذا صاحب نساء وإنه يريد أهلك فاعلم ذلك فبعث النجاشي إلى بيته فإذا عمارة عند أهله فأمر به فنفخ في إحليله . . . فألقي في جزيرة من البحر فاستوحش مع الوحش فرجع عمرو إلى مكة وقد أهلك الله صاحبه وخيب مسيره ومنعه حاجته .


قال الإمام - رحمه الله - تفسير الألفاظ الغريبة في الحديث : قوله تناولك أي قصدك وقصد دينك ، وأبقنا هربنا ، والبتول المنقطعة عن الأزواج والحصان المحصنة ، وألقي عليهم المحبة أي وقع محبتهم في قلبه ، والنفاثة ما يرميه المتسوك من فمه مما يتشعث من طرف السواك قال أهل اللغة يقال: نفث الراقي إذا رمى بريقه عند الرقية، ويقال للسواحر: النفاثات لأنهن ينفثن إذا سحرن وفي المثل لا بد للمصدور من أن ينفث ، المصدور الذي يشتكي صدره من سعال أو غيره فهو يستروح إلى النفث أي إلى ما يلقيه من جوفه من الريق [ ص: 106 ] .

وقوله لم يتغادر منهم أحد أي لم يتخلف ولم يبق يقال غادرته أي تركته وتغادر أي تخلف ، وقوله مهلا أي أمهل وارفق أي أمسك عن هذا الكلام ، والشعب ما اتسع بين الجبلين وهو الشعب الذي بمكة نزله النبي صلى الله عليه وسلم وأهل بيته حين تحالفت قريش على معاداته ، والمتجر موضع التجارة ، والرفق المنفعة ، وقوله فحمي قومه أي غضبوا والحمية الأنف من الشيء والغضب ، وقوله أنت لنا غاية صدق كذا في كتابي فإن كان محفوظا فمعناه أنت حسن الجد في أمرنا والإحسان إلينا ، والمعروف وأنت لنا عامة أي جميعا صاحب صدق أي صاحب إحسان ، من المشكاة التي خرج منها أمر موسى عليه السلام أي من الموضع الذي خرج منه أمر موسى يعني من عند الله ، والجار المجير ، وسوء ذات البين قلة الموافقة والصلاح بين القوم ، وقوله فمات قعصا القعص الموت الوحي أي مات في الحال قال أهل اللغة قتله فأقعصه إذا قتله مكانه ، وقوله لتخلعنك أي لتعزلنك عن الملك ، وحزب الله أي جند الله ، أدرس أي أقرأ ، وقوله فنفخوا في إحليله أي فعلوا به سحرا حتى جن واستوحش ، فكان يعدو مع الوحش في الفلوات حتى مات .

التالي السابق


الخدمات العلمية