الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
267 - قال الواقدي : فحدثني الحكم بن القاسم ، عن زكريا بن عمرو ، قال : فلما مضت ثلاث سنين أطلع الله رسوله على أمر صحيفتهم ، وأن الأرضة قد أكلت ما فيها من جور ، وظلم ، وبقي ما كان فيها من ذكر الله ، فذكر ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي طالب ، فقال له أبو طالب : أحق ما تخبرني به يا ابن أخي ؟ قال : نعم ، والله ، فذكر ذلك أبو طالب لإخوته ، فقالوا له : ما ظنك به ، قال أبو طالب : والله ما كذبني قط ، قالوا : فما ترى ؟ قال : [ ص: 199 ] أرى أن تلبسوا أحسن ما تجدون من الثياب ، ثم تخرجوا إلى قريش ، فتذكر ذلك لهم قبل أن يبلغهم الخبر ، قال : فخرجوا حتى دخلوا المسجد ، فعمدوا إلى الحجر ، وكان لا يجلس فيه إلا مسان قريش ، وذوو نهاهم ، فترفعت إليهم المجالس ينظرون إليهم ماذا يقولون ؟ قال أبو طالب : إنا قد جئنا لأمر ، فأجيبوا فيه بالذي يعرف لكم ، قالوا : مرحبا بكم ، وأهلا ، وعندنا ما يسرك فيما طلبت ، قال : إن ابن أخي أخبرني - ولم يكذبني قط - أن الله - عز وجل - قد سلط على صحيفتكم التي كتبتم الأرضة ، فلحست كل ما كان فيها من جور ، وظلم ، وقطيعة رحم ، وبقي فيها كل ما ذكر به الله ، فإن كان ابن أخي صادقا نزعتم عن سوء رأيكم ، وإن كان كاذبا دفعته إليكم ، فقتلتموه ، أو استحييتموه إن شئتم ، قالوا : أنصفتنا ، فأرسلوا إلى الصحيفة ، فلما أتي بالصحيفة ، قال : اقرؤوها ، فلما فتحوها إذا هي كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أكلت إلا ما كان من ذكر الله ، فسقط في أيدي القوم ، ثم نكسوا رؤوسهم ، فقال أبو طالب : هل بين لكم أنكم أولى بالظلم ، والقطيعة ، والإساءة ، فلم يراجعه أحد من القوم ، وتلاوم رجال من قريش على ما صنعوا ببني هاشم ، فمكثوا غير كثير ، ورجع أبو طالب إلى الشعب وهو يقول : يا معشر قريش نحصر ، ونحبس ، وقد بان الأمر ، ثم دخل هو وأصحابه بين أستار الكعبة ، والكعبة ، فقالوا : اللهم انصرنا على من ظلمنا ، وقطع أرحامنا ، واستحل منا ما يحرم عليه منا ، ثم انصرفوا ، ثم إن مطعم بن عدي كان يشرب هو وعدي بن قيس السهمي ، قال عدي بن قيس : أزهوا أبدا إن كنت كما تقول ، فأين أنت عن إخوانك من بني هاشم جوعى مظلومين محصورين ؟ فسكت مطعم حتى إذا صحا من سكره ، قال : ماذا قلت آنفا ؟ فأخبره بقوله ، فقال مطعم : لئن قلت ذلك لقد استخف بحقهم ، وقطعت أرحامهم ، ولو كان معي ومعك رجلان على رأينا هذا لخرجنا من صلح القوم ، ونابذناهم على سواء ، قال عدي : من هذان الرجلان ، قال مطعم بن عدي : زمعة بن الأسود ، وأبو البختري بن هشام ، فهل لك أن ننظر ما عندهما ، قال : نعم ، فأقبلا يتقاودان حتى وقفا على زمعة بن الأسود ، وأبي البختري بن هشام ، فقالا : أكلتما ، وشربتما ؟ قالا : أكلنا ، وشربنا ، قال : فإخوانكم من بني هاشم جوعى هلكى مظلومون ، فقالا : والله لئن قلتما ذلك لقد ضيق عليهم ، واستخف بحقهم ، وقطعت أرحامهم ، ولو كان معنا رجل واحد على رأينا هذا خرجنا من صلح القوم ، ولنابذناهم على سواء ، قالا : من هو ، قال : زهير بن أبي أمية ، قالا : فهل لكما أن نأتيه ، فننظر [ ص: 200 ] ما عنده ، قال : نعم ، فأقبلوا حتى أتوا زهيرا في داره ، فقالوا : أكلت ، وشربت ؟ قال : نعم ، أكلت ، وشربت ، قالوا : وإخوانكم من بني هاشم جوعى هلكى مظلومون ، قال : أما والله لقد استخف بحقهم ، وقطعت أرحامهم ، وسيء إليهم ، قالوا : ما عندك ؟ قال : عندي ما تشيرون به ، قالوا : نرى أن نلبس السلاح ، ثم نخرج إلى النفر من بني هاشم ، فنأمرهم بالخروج إلى مساكنهم ، ففعلوا ، وخرج بنو هاشم إلى مساكنهم ، ومات مطعم بن عدي بعد هجرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسنة ، وهو يومئذ ابن تسع وتسعين سنة ، قالوا : وخرج بنو هاشم من الشعب في السنة العاشرة .

قال ابن إسحاق : إن الأرضة أكلت الصحيفة كلها ، إلا باسمك اللهم ، قال عروة بن الزبير : ثم إن المشركين اشتدوا على المسلمين كأشد ما كانوا حتى بلغ المسلمين الجهد ، واشتد عليهم البلاء ، وعمد المشركون من قريش ، فأجمعوا أمرهم ، ومكرهم على أن يقتلوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علانية ، فلما رأى أبو طالب عمل القوم ، جمع بني عبد المطلب ، فأجمع على أن يدخلوا شعبهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ويمنعوه ممن أراد قتله ، فاجتمعوا كافرهم ، ومسلمهم ، منهم من فعله حمية ، ومنهم من فعله إيمانا ، ويقينا ، فلما عرفت قريش أن القوم قد اجتمعوا ، ومنعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، واجتمعوا على ذلك كافرهم ، ومسلمهم ، اجتمع المشركون من قريش ، وأجمعوا أمرهم أن لا يجالسوهم ، ولا يخالطوهم ، ولا يبايعوهم حتى يسلموا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للقتل ، وكتبوا بمكرهم صحيفة ، وعهودا ، ومواثيق أن لا يقبلوا من بني هاشم أبدا صلحا ، ولا يأخذهم بهم رأفة ، ولا رحمة ، ولا هوادة حتى يسلموا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للقتل ، فلبث بنو هاشم في شعبهم ثلاث سنين ، واشتد عليهم فيه البلاء ، والجهد ، وقطعوا عنهم الأسواق ، فلا يتركون طعاما يدنو من مكة إلا بادروا إليه ليقتلهم الجوع ، وكان أبو طالب إذا أخذ الناس مضاجعهم أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فأتى فراشه حتى يراه من أراد به مكرا ، فإذا نوم الناس أمر أحد بنيه ، وإخوته ، أو بني عمه فاضطجع على فراش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يأتي بعض فرشهم ، فيرقد عليه ، فلما كان رأس ثلاث سنين تلاوم رجال من قصي ، ورجال ممن سواهم ، وذكروا الذي وقعوا فيه من القطيعة ، فأجمعوا أمرهم على نقض ما تعاهدوا عليه ، وبعث الله على صحيفتهم التي فيها المكر برسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأرضة ، فلحست كل شيء كان فيها ، وكانت بسقف الكعبة ، وكان فيها عهد الله ، [ ص: 201 ] وميثاقه ، فلم تترك فيها شيئا إلا لحسته ، وبقي فيها ما كان من شرك ، أو ظلم ، أو بغي ، فأطلع الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - على الذي صنع بالصحيفة ، فقال أبو طالب : لا ، والثواقب ما كذبني ، فانطلق يمشي بعصابة من بني عبد المطلب حتى أتى المسجد وهو حافل من قريش ، فلما رأوهم أنكروا ذلك ، وظنوا أنهم خرجوا من شدة البلاء ، وأتوهم ليعطوهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فتكلم أبو طالب ، وقال : حدثت أمور بينكم لم نذكرها لكم فائتوا بصحيفتكم التي فيها مواثيقكم ، فلعله أن يكون بيننا وبينكم صلح ، وإنما قال ذلك خشية أن ينظروا في الصحيفة قبل أن يأتوا بها ، فأتوا بصحيفتهم لا يشكون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مدفوع إليهم ، وقالوا : قد آن لكم أن تقبلوا ، وترجعوا إلى أمر يجمع عامتكم لا يقطع ذلك بيننا وبينكم إلا رجل واحد جعلتموه خطرا لعشيرتكم ، وفسادكم ، فقال أبو طالب : إنما أتيتكم لنعطيكم أمرا فيه نصف بيني وبينكم هذه الصحيفة التي في أيديكم ، إن ابن أخي أخبرني ، ولم يكذبني أن الله - عز وجل - بعث عليها دابة ، فلم تترك فيها اسما لله إلا لحسته ، وتركت فيها غدركم ، وتظاهركم علينا بالظلم ، فإن كان كما يقول فأفيقوا ، فوالله لا نسلمه حتى نموت من عند آخرنا ، وإن كان الذي يقول باطلا دفعنا إليكم صاحبكم فقتلتم ، أو استحييتم ، فقالوا : قد رضينا بالذي تقول ، ففتحت الصحيفة ، فوجد الصادق المصدوق قد أخبر خبرها قبل أن تفتح ، فلما رأتها قريش كالذي قال أبو طالب ، قالوا : والله ما كان هذا إلا سحرا من صاحبكم ، وارتكسوا ، وعادوا شر ما كانوا عليه من كفرهم ، والشدة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، والمسلمين ، وأصحابه ، ورهطه ، فقال أولئك النفر من بني عبد المطلب : إن أولى بالكذب ، والسحر غيرنا ، فكيف ترون ، فإنا نعلم أن الذي اجتمعتم عليه أقرب للخبث ، والسحر لولا الذي اجتمعتم عليه من السحر لم تفسد الصحيفة ، وهي في أيديكم ، فما كان لله من اسم هو فيها طمسه ، وما كان من بغي تركه في صحيفتكم ، فنحن السحرة أم أنتم ، فندم المشركون من قريش عند ذلك ، وقال رجال منهم : أبو البختري ، وهو العاص بن ابن هشام بن الحارث أسد بن عبد العزى بن قصي ، ومنهم المطعم بن عدي ، وهاشم بن عمرو ، أو هشام بن عمرو ، والصواب هشام أخو بني عامر بن لؤي قيل : كان كاتب الصحيفة ، وزهير بن أبي أمية ، وزمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى بن قصي في رجال من قريش ولدتهم نساء بني هاشم كانوا قد ندموا على الذي صنعوا ، فقالوا : نحن [ ص: 202 ] براء من هذه الصحيفة ، فقال أبو جهل : هذا أمر قضي بليل .

قال الإمام - رحمه الله - : وفي رواية موسى بن عقبة ، عن الزهري ، فلحست ما كان فيها من عهد ، وميثاق ، فلم تترك اسما لله - عز وجل - فيها إلا لحسته ، وبقي ما كان فيها من شرك ، أو ظلم ، أو قطيعة ، وفي رواية ابن إسحاق لم يكن بقي فيها إلا باسمك اللهم ، وفي رواية عروة لحست ما كان فيها من ذكر الله ، وبقي فيها ما كان من البغي ، والشرك ، وأي ذلك كان ، ففيه دلالة نبوة النبي - صلى الله عليه وسلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية