الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                5151 5152 ص: وقد روي عن البراء بن عازب فيما كان من رسول الله -عليه السلام- في أمر ابن عمر خلاف ما روي عن ابن عمر .

                                                [ ص: 211 ] حدثنا محمد بن خزيمة ، قال: ثنا يوسف بن عدي ، قال: ثنا عبد الله بن إدريس ، عن مطرف ، عن أبي إسحاق ، عن البراء بن عازب ، قال: " عرضني رسول الله -عليه السلام- أنا وابن عمر يوم بدر، فاستصغرنا رسول الله -عليه السلام-، ثم أجازنا يوم أحد".

                                                ففي هذا الحديث أن رسول الله -عليه السلام- أجاز ابن عمر يوم أحد وهو يومئذ ابن أربع عشرة، فخالف ذلك ما في حديث ابن عمر، ولما انتفى أن يكون في ذلك الحديث حجة لأحد الفريقين على الآخر، التمسنا حكم ذلك من طريق النظر؛ لنستخرج من القولين اللذين ذهب أبو حنيفة إلى أحدهما وأبو يوسف إلى الآخر قولا صحيحا، فاعتبرنا ذلك فرأينا الله - عز وجل - قد جعل عدة المرأة إذا كانت ممن تحيض ثلاثة قروء، وجعل عدتها إذا كانت ممن لا تحيض من صغر أو كبر ثلاثة أشهر فجعل بدلا من كل حيضة شهرا، وقد تكون المرأة تحيض في أول الشهر ، وفي آخره، فيجتمع لها من شهر واحد حيضتان، وقد يكون بين حيضتيها الشهران والأكثر، فجعلت الخلف من الحيضة على أغلب أمور النساء؛ لأن أكثرهن تحيض في كل شهر حيضة واحدة، فلما كان ذلك كذلك ورأينا الاحتلام يجب به للصبي حكم البالغين، فإذا عدم الاحتلام وأجمع أن هناك خلف منه، فقال قوم: هو بلوغ خمس عشرة، وقال آخرون: بل هو أكثر من ذلك من السنين، جعل ذلك الخلف على أكثر ما يكون فيه الاحتلام وهو خمس عشرة سنة؛ لأن أكثر احتلام الصبيان وحيض النساء في هذا المقدار يكون ولا يجعل على أقل من ذلك ولا على أكثر؛ لأن ذلك إنما يكون في الخاص، فلا يعتبر حكم الخاص في ذلك، ولكن يعتبر أمر العام كما يعتبر أمر الخاص فيما جعل خلفا من الحيض واعتبر أمر العام.

                                                فثبت بالنظر الصحيح في هذا الباب كله ما ذهب إليه أبو يوسف - رحمه الله -: بالنظر لا بالأثر، وانتفى ما ذهب إليه أبو حنيفة 5 ومحمد - رحمهما الله -.

                                                وقد روي عن سعيد بن جبير -رضي الله عنه- في هذا نحو من قول أبي حنيفة الذي رواه عنه أبو يوسف.

                                                [ ص: 212 ] حدثنا روح بن الفرج ، قال: ثنا يحيى بن عبد الله بن بكير ، قال: ثنا ابن لهيعة عن عطاء بن دينار ، عن سعيد بن جبير -رضي الله عنه-: ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده قال: ثماني عشرة سنة، ومثلها في سورة بني إسرائيل".

                                                التالي السابق


                                                ش: أشار بهذا الكلام إلى معنيين:

                                                الأول: أن حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- الذي احتج به أبو يوسف ومحمد على أن الصبي إذا لم يحتلم وبلغ سنه خمس عشرة سنة يكون حكمه حكم البالغين، واحتجا به على أبي حنيفة؛ معارض بحديث البراء بن عازب، الذي أخرجه بإسناد صحيح: عن محمد بن خزيمة ، عن يوسف بن عدي شيخ البخاري ، عن عبد الله بن إدريس ، عن مطرف بن طريف الحارثي ، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي .

                                                وأخرجه الطبراني في "الكبير": ثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة، حدثني عمي أبو بكر بن أبي شيبة، حدثني عبد الله بن إدريس ، عن مطرف ، عن أبي إسحاق ، عن البراء قال: "عرضت أنا وابن عمر يوم بدر على النبي -عليه السلام- فاستصغرنا، وشهدنا أحدا".

                                                وأخرج البخاري في "الغازي": عن مسلم، عن شعبة .

                                                وعن محمود بن غيلان، عن وهب بن جرير ، عن شعبة ، عن أبي إسحاق ، عن البراء، أنه قال: "استصغرت أنا وابن عمر يوم بدر، وكان المهاجرون نيفا على الستين، والأنصار نيفا على المائتين وأربعين".

                                                وجه المعارضة: أن في هذا الحديث: "ثم أجازنا يوم أحد"، وكان ابن عمر يوم

                                                [ ص: 213 ] أحد ابن أربع عشرة سنة، وفي ذاك الحديث: "عرضت على رسول الله -عليه السلام- في يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يجزني في المقاتلة".

                                                فهذا تعارض ظاهر جلي، فإذا كان كذلك لم يكن فيه حجة لأحد الفريقين على الآخر، فحينئذ يحتاج في ذلك أن يلتمس حكم هذا الباب من طريق النظر والقياس الصحيح ليستخرج به من القولين قول صحيح يعتمد عليه، وبين الطحاوي ذلك بقوله: فرأينا الله - عز وجل - قد جعل عدة المرأة... إلى آخره. وهو ظاهر.

                                                قوله: "وأجمع أن هناك خلف" أي أجمع العلماء أن في عدم الاحتلام خلفا وهو البلوغ بالسن، فقال قوم، وهم: أبو يوسف ومحمد والشافعي : هو بلوغ خمس عشرة، وقال قوم آخرون وهم: أبو حنيفة ومن تبعه فيما ذهب إليه من بلوغه في ثمان عشرة سنة.

                                                المعنى الثاني: أنه أشار إلى أن الصحيح الذي يقتضيه وجه النظر والقياس: هو قول أبي يوسف ومن تبعه في ذلك، وأنه هو اختياره أيضا، وهو معنى قوله: "فثبت بالنظر الصحيح..." إلى آخره، وإنما قال: بالنظر - يعني بالقياس - لا بالأثر؛ لأن الأثر الذي احتج به أبو يوسف فيما ذهب إليه ليس احتجاجه به تاما كما ذكرنا.

                                                قوله: "وابن عمر يوم بدر" بنصب الابن؛ لأنه عطف على الضمير المنصوب في قوله: "عرضني رسول الله -عليه السلام-"، وإنما ذكر قوله: "أنا" ليحسن العطف على الضمير؛ لئلا يتوهم عطف الاسم على الفعل.

                                                قوله: "وقد روي عن سعيد بن جبير في هذا" أي من أن البلوغ عند عدم الاحتلام بثماني عشرة سنة مثل قول أبي حنيفة .

                                                أخرجه عن روح بن الفرج القطان المصري شيخ الطبراني ، عن يحيى بن عبد الله بن بكير القرشي المصري شيخ البخاري ، عن عبد الله بن لهيعة المصري - فيه مقال - عن عطاء بن دينار الهذلي أبي طلحة المصري - ثقة - عن سعيد بن جبير -رضي الله عنه-.




                                                الخدمات العلمية