الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                5145 5146 5147 5148 5149 ص: وخالفهم في ذلك آخرون فقالوا: قد يكون البلوغ بهذين المعنيين، ويكون بمعنى ثالث، وهو أن يمر على الصبي خمسة عشر سنة لا يحتلم ولا ينبت، فهو بذلك أيضا في حكم البالغين، واحتجوا في ذلك بما حدثنا أبو بشر الرقي: ، ثنا أبو معاوية الضرير ، عن عبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر -رضي الله عنهما-، قال: "عرضت على النبي -صلى الله عليه وسلم- في يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يجزني في المقاتلة، وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني في المقاتلة. قال نافع: فحدثت عمر بن عبد العزيز بهذا الحديث فقال: هذا أثر نتخذه بين الذراري والمقاتل، فأمر أمراء الأجناد أن يفرض لمن كان في أقل من خمسة عشر في الذرية، ومن كان في خمسة عشر في المقاتلة".

                                                [ ص: 205 ] حدثنا سليمان بن شعيب ، قال: ثنا أبي ، عن يعقوب بن إبراهيم أبي يوسف ، عن عبيد الله ... فذكر بإسناده مثله.

                                                حدثنا محمد بن خزيمة ، قال: ثنا يوسف بن عدي ، قال: ثنا ابن المبارك ، عن عبيد الله ... ، فذكر بإسناده مثله، ولم يذكر ما فيه من قول نافع: " ، ( فحدثت بذلك عمر بن عبد العزيز ) -رضي الله عنه-..." إلى آخر الحديث.

                                                قالوا: فلما أجاز رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ابن عمر -رضي الله عنهما- لخمس عشرة، ورده لما دونها، ثبت بذلك أن حكم ابن خمس عشرة حكم البالغين في أحكامه كلها إلا من ظهر بلوغه قبل ذلك لمعنى من المعنيين.

                                                قالوا: وقد شد هذا المعنى أخذ عمر بن عبد العزيز وتأوله ذلك الحديث عليه، وهو قول أبي يوسف ومحمد بن الحسن وجميع أصحابنا، غير أن محمد بن الحسن كان يرى الإنبات دليلا على البلوغ، وغير أبي حنيفة ، فإنه كان لا يجعل من مرت عليه خمس عشرة سنة ولم يحتلم ولم ينبت في معنى المحتلمين حتى يأتي عليه سبع عشرة سنة، فيما حدثني سليمان بن شعيب ، عن أبيه ، عن محمد بن الحسن .

                                                وقد روي عنه أيضا خلاف ذلك.

                                                حدثني أحمد بن أبي عمران ، قال: ثنا محمد بن سماعة ، قال: سمعت أبا يوسف يقول: قال أبو حنيفة: : ( إذا أتت عليه ثمان عشرة سنة فقد صار بذلك في أحكام الرجال ولم يختلفوا عنه جميعا، وهاتين الروايتين في الجارية أنها إذا مرت عليها سبع عشرة سنة أنها تكون بذلك كالتي حاضت، وكان أبو يوسف ، يجعل الغلام والجارية سواء في مرور الخمس عشرة سنة عليهما، ويجعلهما في ذلك في حكم البالغين، وكان محمد بن الحسن يذهب في الغلام إلى قول أبي يوسف، وفي الجارية إلى قول أبي حنيفة ، -رضي الله عنه-.

                                                التالي السابق


                                                ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة وأراد بهم: الثوري ومالكا في رواية والشافعي وأبا يوسف ومحمدا؛ فإنهم قالوا: يكون البلوغ بثلاثة أشياء: بالاحتلام،

                                                [ ص: 206 ] وبإنبات العانة، وبأن يمر على الصبي خمس عشرة سنة لا يحتلم ولا ينبت،
                                                فهو بذلك أيضا يكون في أحكام البالغين في سهمان الرجال في الغنيمة وفي حل قتله إذا كان من أهل الحرب.

                                                قوله: "واحتجوا في ذلك" أي احتج هؤلاء الآخرون فيما ذهبوا إليه بحديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-.

                                                وأخرجه من ثلاث طرق صحاح:

                                                الأول: عن أبي بشر عبد الملك بن مروان الرقي ، عن أبي معاوية الضرير محمد بن خازم ، عن عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب ، عن نافع ، عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهم-.

                                                الثاني: عن سليمان بن شعيب بن سليمان الكيساني ، عن أبيه شعيب ، عن أبي يوسف يعقوب بن إبراهيم صاحب أبي حنيفة ، عن عبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر.

                                                الثالث: عن محمد بن خزيمة ، عن يوسف بن عدي بن زريق شيخ البخاري ، عن عبد الله بن المبارك ، عن عبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر -رضي الله عنهما-.

                                                والحديث أخرجه الجماعة:

                                                فالبخاري في غزوة الخندق: عن يعقوب بن إبراهيم ، عن يحيى بن سعيد ، عن عبيد الله، قال: أخبرني نافع ، عن ابن عمر: "أن النبي -عليه السلام- عرضه يوم أحد وهو ابن أربع عشرة سنة فلم يجزه، وعرضه يوم الخندق وهو ابن خمس عشرة سنة فأجازه".

                                                ومسلم في كتاب "الإمارة والجماعة": عن محمد بن عبد الله بن نمير [، قال: نا أبي، قال: ثنا عبيد الله ، عن نافع ، عن ابن عمر قال:

                                                [ ص: 207 ] "عرضني رسول الله -عليه السلام- يوم أحد في القتال وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يجزني، وعرضني يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة فأجازني. قال نافع: فقدمت على عمر بن عبد العزيز -رضي الله عنه- وهو يومئذ خليفة، فحدثته هذا الحديث، فقال: إن هذا الحد بين الصغير والكبير، فكتب إلى عماله أن يفرضوا لمن كان ابن خمس عشرة سنة، فما كان دون ذلك فاجعلوه في العيال".

                                                وأبو داود في "الخراج" و: "الحدود": عن أحمد بن حنبل ، عن يحيى ، عن عبيد الله به.

                                                وعن عثمان بن أبي شيبة ، عن ابن إدريس ، عن عبيد الله، قال: قال نافع: حدثت عمر بن عبد العزيز بهذا الحديث.

                                                والترمذي في "الأحكام": عن محمد بن وزير الواسطي ، عن إسحاق بن يوسف الأزرق ، عن سفيان ، عن عبيد الله، بمعناه ولم يسم أحدا ولا الخندق.

                                                وعن محمد بن يحيى بن أبي عمر ، عن ابن عيينة ، عن عبيد الله نحوه.

                                                وقال: حسن صحيح.

                                                والنسائي في "الطلاق": عن أبي قدامة ، عن يحيى ، عن عبيد الله مثل الأول.

                                                وابن ماجه في "الحدود": عن علي بن محمد ، عن عبد الله بن نمير وأبي معاوية وأبي أسامة ، عن عبيد الله به.

                                                فهذا يدل على أن حكم ابن خمس عشرة كحكم البالغين في الأحكام كلها.

                                                [ ص: 208 ] قال الخطابي: قال الشافعي: إذا احتلم الغلام أو بلغ خمس عشرة؛ كان حكمه حكم البالغين في إقامة الحدود عليه، وكذلك الجارية.

                                                وأما الإنبات فلا يكون حدا للبلوغ، وإنما يفصل به بين أهل الشرك فتقتل مقاتلتهم بالإنبات، وجعله أحمد وإسحاق بلوغا، وحكي مثله عن مالك .

                                                فأما في السنن فإنه قال: إذا احتلم الغلام أو بلغ من السن ما لا يبلغه غيره فحكمه حكم الرجال، ولم يجعل الخمس عشرة سنة حدا في ذلك.

                                                وقال أبو حنيفة في حد البلوغ: استكمال ثماني عشرة إلا أن يحتلم قبل ذلك، وفي الجارية سبع عشرة إلا أن تحيض قبل ذلك.

                                                وقال الخطابي أيضا: يشبه أن يكون المعنى عند من فرق بين أهل الإسلام وبين أهل الكفر حيث جعل الإنبات في الكفار ولم يعتبره في المسلمين؛ هو أن أهل الكفر لا يوقف على بلوغهم من جهة السن ولا يمكن الرجوع إلى قولهم؛ لأنهم متهمون في ذلك لدفع القتل عن أنفسهم.

                                                فأما المسلمون وأولادهم فقد يمكن الوقوف على مقادير أسنانهم؛ لأنها محفوظة وأوقات المواليد فيهم مؤرخة معلومة.

                                                قوله: "وقالوا" أي الآخرون: "وقد شد هذا المعنى" وهو كون حكم ابن خمس عشرة سنة كحكم البالغين في أحكامهم كلها.




                                                الخدمات العلمية