الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 352 ] ورفع الخلاف ، [ ص: 353 ] لا أحل حراما

التالي السابق


( ورفع ) حكم الحاكم في نازلة فيها أقوال للأئمة بقول منها فيرفع ( الخلاف ) أي العمل والفتوى في عين تلك النازلة التي حكم فيها بغير ما حكم به فيها . " غ " القرافي الخلاف يتقرر في مسائل الاجتهاد قبل حكم الحاكم ويبطل الخلاف فيها ويتعين قول واحد بعد حكم الحاكم وهو ما حكم به الحاكم : ابن الشاط هذا يوهم أن الخلاف يبطل مطلقا في المسألة التي تعلق بها الحكم ، وليس كذلك ، بل الخلاف باق على حاله إلا أنه إن استفتى المخالف في عين تلك المسألة التي حكم فيها فلا يسوغ له الفتوى فيها بعينها لأنه قد نفذ الحكم فيها بقول قائل ، ومضى العمل به فيها وإن استفتى في مثلها قبل الحكم فيه أفتى بمذهبه على أصله ، ثم قال القرافي حكم الحاكم في مسائل الاجتهاد يرفع الخلاف ويرجع المخالف عن مذهبه لمذهب الحاكم ، وتتغير فتياه بعد الحكم عما كانت عليه على القول الصحيح من مذاهب العلماء ، فمن لا يرى وقف المشاع إذا حكم حاكم بصحة وقفه ، ثم رفعت الواقعة لمن كان يفتي ببطلانه نفذه وأمضاه ولا يحل له بعد ذلك أن يفتي ببطلانه ، وكذلك إن قال لها إن تزوجتك فأنت طالق وتزوجها وحكم حاكم بصحة هذا النكاح ، فالذي كان يرى لزوم الطلاق له ينفذ هذا النكاح ولا يحل له بعد ذلك أن يفتي بالطلاق ، هذا مذهب الجمهور ، وهو مذهب مالك رضي الله تعالى عنهم . ابن الشاط لقائل أن يقول لا ينفذه ولا يمضيه ولكنه لا يرده ولا ينقضه ، وكان شيخنا الصغير يحكي عن شيخه العكرمي عن الرجراجي عليك بقواعد القرافي ولا تقبل منها إلا ما قبله ابن الشاط . [ ص: 353 ] لا أحل ) حكم الحاكم ( حراما ) " غ " فيه تنبيهان ، الأول عبد السلام لا فرق بين الفروج والأموال ، ثم قال وقال أبو حنيفة وأبو يوسف وكثير من أهل المذهب فيما حكى عنهم أبو عمر إنما ذلك في الأموال لا في الفروج ا هـ وهو تصحيف . أما في نسخة ابن عبد السلام من الاستذكار وأما في شرحه هو والذي رأيته في نسخة من الاستذكار عتيقة مقروءة مقابلة بأصل مؤلفه ، وقال أبو حنيفة وأبو يوسف وكثير من أصحابهم إنما ذلك في الأموال بلفظ أصحابهما بضمير التثنية العائد على أبي حنيفة وأبي يوسف ، ولا يصح غيره ، إذ لا خلاف عند أهل المذهب أنه لا فرق بين الأموال والفروج كما قطع به ابن رشد وابن عرفة وغيرهما .

الثاني : سئل ابن الحاجب بمن أقام شاهدي زور على نكاح امرأة فحكم له به ، وبحكم الحنفي لمالكي بشفعة الجوار ، أما المثال الأول فظاهر ، وأما الثاني فقال ابن عبد السلام يعني فإنه لا يحل للمالكي الأخذ بهذه الشفعة لاعتقاده بطلان ما حكم له به القاضي ، فيعود الأمر فيه إلى ما قبله ، هكذا قالوا ، وليس بالبين لأن ما تقدم الظاهر فيه مخالف للباطن ، ولو علم القاضي بكذب الشهود لما حكم بهم ، وفي هذه الصورة القاضي والخصمان علموا من حال الباطن ما علموا من حال الظاهر ، والمسألة مختلف فيها وحكم القاضي برفع الخلاف فيتنزل ذلك بعد ارتفاع الخلاف منزلة الإجماع ، وما هذا سبيله يتناول الظاهر والباطن ، والذي قلناه هو ظاهر كلام السيوري ، وعلى ما قال ابن الحاجب لو غصب الغاصب شيئا فنقله من مكانه ، وكان مما اختلف فيه هل يفوت بنقله أم لا فقضى القاضي لربه بأخذه ، وكان مذهب ربه أنه يفوت وتجب فيه القيمة ، فعلى هذا ليس لربه التصرف فيه .

ابن عرفة ظاهر قوله كذا قالوا مع عزوه ما ظهر له للسيوري أن المذهب هو ما قاله ابن الحاجب تبعا لقول ابن شاس إنما القضاء إظهار لحكم الشرع لا اختراع له فلا يحل للمالكي شفعة الجوار إن قضى له بها حنفي ، وليس كذلك ، بل مقتضى المذهب خلافه .

المازري في ائتمام الشافعي بالمالكي وعكسه الإجماع على صحته ، واعتذر عن قول أشهب من صلى خلف من لا يرى الوضوء من القبلة يعيد ، وفي كتاب الزكاة من المدونة إن لم يبلغ [ ص: 354 ] حظ كل واحد من الخليطين ما فيه الزكاة ، وفي مجموعهما ما فيه الزكاة فلا زكاة عليهما ، فإن تعدى الساعي فأخذ من غنم أحدهما شاة فليترادا فيها على عدد غنمهما ، فتحليله لمن أخذت الشاة من غنمه الرجوع على خليطه بمنابه منها نص في صحة عمل المحكوم عليه بلازم ما حكم به الحاكم المخالف لمذهب المحكوم عليه فأحرى إذا كان نفس ما حكم به ، ولا سيما على القول بأن كل مجتهد مصيب ، ولا أعلم لابن شاس فيه مستندا إلا اتباع وجيز الغزالي وهذا لا يجوز له .

وأما المصنف في التوضيح فقال قول ابن الحاجب ولو حكم الحنفي إلخ . نقله ابن محرز عن ابن الماجشون . فقال إن حكم القاضي باجتهاد بقول شاذ فذهب ابن الماجشون إلى فسخ حكمه كالحكم بالشفعة للجار ، ثم أشار إلى أن استشكال ابن عبد السلام لما هنا كاستبعاد المازري لقول ابن الماجشون بنقض الحكم بشفعة الجار ونظائرها المذكورة في المختصر قبل هذا ، ومقتضى كلام ابن عرفة أن التحليل والتحريم لا ينبني على إمضاء حكم القاضي ونقضه ، فإنه ذكر كل مسألة منهما في موضعها على حدتها ولم يشر لتلازمهما .

الحط في النوادر لو طلق زوجته ألبتة وتخاصما إلى من يراها واحدة وحكم لهما بأنها واحدة ومذهبهما أنها ثلاث فلا يحل لهما النكاح قبل زوج حكمه بأنها واحدة ، لأن الحكم لا يحل لهما ما هو حرام عليهما في مذهبهما ، ولو قال لعبده اسقني ماء مريدا عتقه بهذا والسيد يرى أنه لا يلزمه عتقه بهذه الصيغة والعبد يراه عتقا فللعبد أن يذهب حيث شاء إن حكم له بالعتق حاكم ، ولو قال لزوجته اختاري فقالت اخترت نفسي وهي تذهب أنه ثلاث ، والزوج إلى أنها واحدة ، وتخاصما إلى من يراها واحدة فحكم بأنها واحدة فحكمه لا يبيح للمرأة تمكين الزوج منها ولتمنعه جهدها لأنه لا يحل الحرام .

طفي يحتمل تعلق قوله لا أحل حراما بقوله ورفع الخلاف كما قرر به تت ، ونحوه قول الجواهر أن القضاء وإن لم ينقض لا يتغير به الحكم في الباطن ، بل هو على المكلف على ما كان قبل قضاء القاضي ، وإنما القضاء إظهار لحكم الشرع لا اختراع له فلا يحل [ ص: 355 ] للمالكي شفعة الجوار ا هـ . ويحتمل عدم تعلقه بما قبله وأن المراد أن حكم الحاكم لا يحل حراما في الباطن لم يطلع عليه القاضي ولو اطلع عليه ما حكم كمن أقام شهود زور على نكاح امرأة فحكم الحاكم بهم لاعتقاد عدالتهم ، فهذا ظاهره خلاف باطنه بخلاف النوع الأول ، وقد ذكر ابن شاس وابن الحاجب النوعين ، والنوع الثاني هو الذي عام عندنا في الفروج والأموال ، ثم قال وأما النوع الأول فصرح ابن الحاجب وابن شاس بأنه لا يحل الحرام أيضا وتبعهما المصنف .

البناني قوله لا أحل حراما هذا مخصص بما إذا كان باطنه بخلاف ظاهره وهو قسمان أموال وفروج وبما إذا حكم بأمر يعتقد حليته والمحكوم عليه لا يرى حليته لكونه مجتهدا أو ليس هو قول مقلده ، فالحرام الذي لا يحله حكم القاضي هو هذان القسمان على نزاع في القسم الثاني ، فإن ابن شاس وابن الحاجب قالا لا يحله وتعقبه ابن عرفة بأنهما تبعا فيه وجيز الغزالي ، ومقتضى المذهب خلافه ، ومحل كلام ابن شاس في هذا الثاني أن حكم القاضي بقول شاذ كالشفعة للجار ، وحمله في ضيح على قول عبد الملك ينقض الحكم بالشاذ الذي جرى عليه المصنف ، وقد علمت بذلك أن الأقسام ثلاثة : ما باطنه بخلاف ظاهره ، وهذا محل قوله لا أحل حراما ، وما حكم فيه المخالف بقول غير شاذ ، وهذا محل قوله ورفع الخلاف ، وما حكم فيه بالشاذ ، وهذا عند ابن شاس حكمه كالأول فيدخل في قوله لا أحل حراما ، وعند ابن عرفة حكمه كالثاني فيدخل في قوله ورفع الخلاف ، وهذا مقتضى المذهب ، نعم قول ابن عرفة لا أعرف لابن شاس مستندا إلا ما في الوجيز قصور ، فإن ما ذكره ابن شاس مثله في النوادر ونقله الحط مقتصرا عليه في شرح المتن . والله أعلم .




الخدمات العلمية