الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ولم تهرت نملة أو ذبابة في قدر لم يجب إراقتها إذ المستقذر هو جرمه إذا بقي له جرم ولم ينجس حتى يحرم بالنجاسة ، وهذا يدل على أن تحريمه للاستقذار ولذلك نقول : لو وقع جزء من آدمي ميت في قدر ولو وزن دانق حرم الكل لا لنجاسته فإن الصحيح ، أن الآدمي لا ينجس بالموت ولكن لأن أكله محرم احتراما لا استقذارا .

وأما الحيوانات المأكولة إذا ذبحت بشرط الشرع فلا تحل جميع أجزائها ، بل يحرم منها الدم والفرث ، وكل ما يقضى بنجاسته منها بل تناول النجاسة مطلقا محرم ، ولكن ليس في الأعيان شيء محرم نجس إلا من الحيوانات .

وأما من النبات ، فالمسكرات فقط دون ما يزيل العقل ولا يسكر كالبنج فإن نجاسة المسكر تغليظ للزجر عنه لكونه في مظنة التشوف ومهما وقعت قطرة من النجاسة أو جزء من نجاسة جامدة في مرقة أو طعام أو دهن حرم أكل جميعه ولا يحرم الانتفاع به لغير الأكل ، فيجوز الاستصباح بالدهن النجس ، وكذا طلاء السفن والحيوانات وغيرها فهذه مجامع ما يحرم لصفة في ذاته .

التالي السابق


(ولو تهرت نملة أو ذبابة في قدر) طعام (لم يجب إراقتها إذ المستقذر) عند الطبائع (جرمه إذا بقي له جرم لم ينجس حتى يحرم بالنجاسة، وهذا يدل على أن تحريمه للاستقذار) لا لتنجسه (ولذلك نقول: لو وضع جزء) مبان (من آدمي ميت في قدر) طعام (ولو وزن دانق) قد تقدم تحريره (حرم الكل لا لنجاسته، فالصحيح) في المذهب ( أن الآدمي لا ينجس بالموت ) خلافا لأبي حنيفة (ولكن لأن أكله يحرم احتراما) له (لا استقذارا) ، وقد تقدم عن الروضة استثناء الآدمي من الميتات، وقال: فإنه طاهر على الأظهر .

(وأما الحيوانات المأكولة إذا ذبحت بشرط الشرع) على ما بين في الصيد والذبائح من كتب الفروع (فلا يحل جميع أجزائها، بل يحرم منها الدم والفرث، وكل ما يقضى بنجاسته منها) ، فقد روى أبو داود في كتاب المراسيل من مرسل مجاهد أنه كره رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشاة سبعا : المرارة والمثانة والغدة والحياء والذكر والأنثيين ، ورواه محمد بن الحسن في الآثار عن أبي حنيفة عن الأوزاعي عن واصل بن أبي جميلة عن مجاهد فساقه، وزاد بعد الأنثيين: والدم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتقذرها ورواه ابن خسرو في [ ص: 19 ] مسنده من طريق محمد بن الحسن وزاد: وكان يحب من الشاة مقدمها. ورواه البيهقي من طريق سفيان عن الأوزاعي ، وقال: واصل بن أبي جميلة لم تثبت عدالته، ورواه ابن عدي والبيهقي أيضا من طريق عمر بن موسى بن وجيه ، عن مجاهد عن ابن عباس . ثم قال البيهقي : وعمر ضعيف، ووصله لا يصح، ورواه الطبراني في الأوسط عن ابن عمر ، وفيه يحيى الحماني وهو ضعيف .

وروى ابن السني في الطب النبوي من حديث ابن عباس : كان يكره الكليتين لمكانهما من البول . وسنده ضعيف، فالمرارة من ماء في جوف الحيوان فيها ماء أخضر، وهي لكل ذي روح إلا البعير فلا مرارة له، وقال القتبي : أراد المحدث أن يقول: المرارة، وهو المصارين، فقال وأنشد:


فلا تهد الأمر وما يليه ولا تهدن معزوق العظام



كذا في الفائق قال في النهاية: وليس بشيء، والمثانة مجمع البول، والحياء ممدودة: الفرج من ذوات الخف والحافر، والأنثيان الخصيتان، والغدة بالضم لحم يحدث عن داء بين اللحم والجلد يتحرك بالتحريك، والمراد بالدم غير المسفوح; لأن الطبع السليم يعافه، وليس كل حلال تطيب النفس لأكله، وقال الخطابي : الدم حرام إجماعا، والمذكورات معه مكروهة لا محرمة، وقد يجوز أن يفرق بين القرائن التي يجمعها نظم واحد بدليل يقوم على بعضها فيحكم له بخلاف حكم صواحباته، اهـ .

ورده أبو شامة بأنه لم يرد بالدم هنا ما فهمه الخطابي ، فإن الدم المحرم بالإجماع قد انفصل من الشاة وخلت منه عروقها، فكيف يقول الراوي: كان يكره من الشاة -يعني بعد ذبحها سبعا، والسبع موجودة فيها، وأيضا فمنصبه صلى الله عليه وسلم يجل أن يوصف بأنه كره شيئا هو منصوص على تحريمه على الناس كافة، وكان أكثرهم يكرهه قبل تحريمه، ولا يقدم على أكله إلا الجفاة من شظف من العيش وجهد من القلة، وإنما وجه هذا الحديث المنقطع الضعيف أنه كره من الشاة ما كان من أجزائها دما منعقدا مما يحل أكله لكونه دما غير مسفوح كما في خبر: أحلت لنا ميتتان ودمان، فكأنه أشار بالكراهة إلى الطحال والكبد; لما ثبت أنه أكله اهـ. وإنما كره أكل الكليتين، وهما لكل حيوان منبت ذرع الولد لقربهما من مكان البول فتعافهما النفس، ومع ذلك يحل أكلهما، (بل تناول النجاسة مطلقا محرم، ولكن ليس من الأعيان شيء نجس إلا من الحيوانات، وأما من النبات، فالمسكرات فقط دون ما يزيل العقل) أو يخدر (ولا يسكر كالبنج) ، وتقدم عن الزركشي وغيره النقل عن الأصحاب فيه، وتقدم أيضا كلام القرافي في إنكاره كونه مسكرا، بل جعله من المفسدات (فإن نجاسة المسكر) لعينه وصفية فيه (تغليظ للزجر عنه لكونه من مظنة الفسوق) أي: يحمله عليه (ومهما وقعت قطرات من النجاسات أو جزء من نجاسة جامدة في مرقة أو طعام أو دهن حرم أكل جميعه) لتخلله في سائر أجزائه، وفي الخبر: "سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن فأرة وقعت في سمن فماتت، فقال: لا تأكلوه" . (ولا يحرم الانتفاع به لغير الأكل، فيجوز الاستصباح بالدهن النجس، وكذا في طلاء السفن والحيوانات) ، صرح به الأصحاب، وروي في الحديث المتقدم أيضا قال: "إن كان جامدا فألقوها وما حولها وكلوه، وإن كان ذائبا فاستصبحوا به" . وعن جماعة من علماء الكوفة: لا بأس بشحوم الميتة تدبغ بها الجلود وتطلى بها السفن ، وقد روي عنه حديث مسند وهو حجة لمن يرتفق بها فيما لا يطعم ولا يلبس إلا أن يضطر إليها فيتناول مقدار الحاجة، وتقدم البحث في ذلك في باب البيوع في الكتاب الذي قبله (فهذه مجامع ما يحرم لصفة في ذاته ) ومسائل هذا الباب مستوفاة في الفروع الفقهية ولا يليق التطويل فيها في هذا الموضع .




الخدمات العلمية