الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فإن قلت : فقد كان علماء السلف يدخلون على السلاطين فأقول : نعم تعلم الدخول منهم ثم ادخل كما حكي أن هشام بن عبد الملك قدم حاجا إلى مكة ، فلما دخلها قال : ائتوني برجل من الصحابة ، فقيل يا أمير المؤمنين قد تفانوا فقال من : التابعين فأتي بطاوس اليماني فلما دخل عليه خلع نعليه بحاشية بساطه ولم يسلم عليه بإمرة المؤمنين ، ولكن قال السلام عليك يا هشام ولم يكنه وجلس بإزائه وقال : كيف أنت يا هشام ، فغضب هشام غضبا شديدا حتى هم بقتله ، فقيل له : أنت في حرم الله وحرم رسوله ولا يمكن ذلك فقال : يا طاوس ما الذي حملك على ما صنعت ؟ قال : وما الذي صنعت ؟ فازداد غضبا وغيظا قال : خلعت نعليك بحاشية بساطي ولم تقبل يدي ولم تسلم علي بإمرة المؤمنين ولم تكنني وجلست بإزائي بغير إذني وقلت : كيف أنت يا هشام قال ؟ أما ما فعلت من خلع نعلي بحاشية بساطك فإني أخلعهما بين يدي رب العزة كل يوم خمس مرات ولا يعاقبني ولا يغضب علي ، وأما قولك لم تقبل يدي ، فإني سمعت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول : لا يحل لرجل أن يقبل يد أحد إلا امرأته من شهوة ، أو ولده من رحمة ، وأما قولك : لم تسلم علي بإمرة المؤمنين ، فليس كل الناس راضين بإمرتك فكرهت أن أكذب وأما قولك : لم تكنني فإن الله تعالى سمى أنبياءه وأولياءه فقال : يا يحيى يا عيسى وكنى أعداءه فقال : تبت يدا أبي لهب وأما قولك : جلست بإزائي فإني سمعت أمير المؤمنين عليا رضي الله عنه يقول : إذا أردت أن تنظر إلى رجل من أهل النار فانظر إلى رجل جالس وحوله قوم قيام .

فقال له هشام عظني فقال : سمعت من أمير المؤمنين علي رضي الله عنه يقول : إن في جهنم حيات كالقلال وعقارب كالبغال تلدغ كل أمير لا يعدل في رعيته ، ثم قام وهرب .

وعن سفيان الثوري رضي الله عنه قال : أدخلت على أبي جعفر المنصور بمنى فقال لي ارفع إلينا حاجتك ، فقلت له : اتق الله ، فقد ملأت الأرض ظلما وجورا .

قال : فطأطأ رأسه ثم رفعه فقال : ارفع إلينا حاجتك ، فقلت : إنما أنزلت هذه المنزلة بسيوف المهاجرين والأنصار وأبناؤهم يموتون جوعا ، فاتق الله وأوصل إليهم حقوقهم : فطأطأ رأسه ثم رفعه فقال : ارفع إلينا حاجتك فقلت : حج عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال : لخازنه كم أنفقت قال : بضعة عشر درهما وأرى ههنا أموالا لا تطيق الجمال حملها وخرج فهكذا كانوا يدخلون على السلاطين إذا ألزموا وكانوا يغررون ، بأرواحهم للانتقام لله من ظلمهم .

التالي السابق


(فإن قلت: فقد كان علماء السلف يدخلون على السلاطين ) ، فلو لم يكن الدخول جائزا لما كانوا يدخلون وفي اتباعهم القدوة، (فأقول: نعم) ، كانوا يدخلون لكن (تعلم الدخول منهم ثم ادخل) لا حرج عليك، (فقد حكي أن هشام بن عبد الملك) بن مروان بن الحكم الأموي يكنى أبا سليمان، بويع له سنة خمس ومائة بعد موت يزيد بن عبد الملك ، فبقي تسع عشرة سنة وأشهرا، ومات سنة خمس وعشرين ومائة في غرة ربيع الأول بالدهناء عن أربع وخمسين سنة، (قدم حاجا إلى مكة ، فلما دخل قال: ائتوني برجل من الصحابة، فقيل) له: (قد فنوا) أي: لم يبق منهم أحد، وفي نسخة: تفانوا، (قال: فمن التابعين فأتي بطاوس) بن كيسان (اليماني) ، وكان إذ ذاك بمكة ، (فلما دخل عليه خلع نعليه بحاشية بساطه ولم يسلم) عليه، (بإمرة المؤمنين، ولكن قال [ ص: 138 ] السلام عليكم) يا هشام ، (ولم يكنه) ، أي: لم يقل: يا أبا سليمان ، (وجلس بإزائه) ، أي: في مقابلته قريبا منه، (وقال: كيف أنت يا هشام ، فغضب هشام ) لذلك (غضبا شديدا حتى هم بقتله، فقيل له: أنت في حرم الله وحرم رسوله) صلى الله عليه وسلم، (فلا يمكن ذلك) ; لأنه محل الأمن، (فقال له: يا طاوس ) ولم يقل يا أبا عبد الرحمن ، (ما الذي حملك على ما صنعت؟ قال: وما الذي صنعت؟ فازداد غيظا وغضبا) وامتلأ حقدا عليه، (فقال: خلعت نعليك بحاشية بساطي) ، والملوك يحترمون، (ولم تقبل يدي) كما يقبلها غيرك، (ولم تسلم علي بإمرة المؤمنين) ، وصرحت باسمي (ولم تكنني) ، وفي الكنية تفخيم، (وجلست إزائي بغير إذن) ، والملوك يستأذنون في الجلوس، (وقلت: كيف أنت يا هشام ؟ فقال) طاوس : (أما خلع نعلي بحاشية بساطك فإني أخلعها بين يدي رب العزة) ، وفي نسخة: رب العالمين، (كل يوم خمس مرات) يعني به: أوقات الصلوات الخمس، (فلا يعاقبني ولا يغضب علي، وأما قولك لم تقبل يدي، فإني سمعت) أمير المؤمنين ( علي بن أبي طالب ) رضي الله عنه (يقول: لا يحل لأحد أن يقبل يد أحد إلا امرأته من شهوة، أو ولده لرحمة ، وأما قولك: لم تسلم علي بإمرة المؤمنين، فليس كل الناس راضين بإمرتك) عليهم، وإنما هو البعض، (فكرهت أن أكذب) في قولي إذ لفظ المؤمنين عام في الكل، (وأما قولك: لم تكنني فإن الله سمى أولياءه فقال: يا داود يا عيسى يا يحيى ) ، ولم يكنهم، (وكنى أعداءه فقال: تبت يدا أبي لهب ) ، فالكنية لا تدل على التفخيم في سائر الأحوال .

قال بعض المفسرين: إنما وقع ذكر أبي لهب في القرآن بكنيته لكون اسمه عبد العزى فكره أن ينسبه إلى الصنم فكناه بذلك; لأن مآله إلى اللهب، (وأما قولك: جلست بإزائي) بغير إذن، (فإني سمعت) أمير المؤمنين ( علي بن أبي طالب ) رضي الله عنه (يقول: إذا أردت أن تنظر إلى رجل من أهل النار فانظر إلى رجل جالس وحوله قوم قيام ، فقال هشام ) لما أسكته: (عظني) ، أي: انصحني، (قال: سمعت) أمير المؤمنين ( علي بن أبي طالب ) رضي الله عنه (يقول: إن في جهنم حيات كالقلال) جمع قلة بالضم، وهي قلة الجبل يشير إلى ضخامتها، (وعقارب كالبغال تلدغ كل أمير) ، وفي نسخة: إمام (لا يعدل في رعيته، ثم قام وخرج) ، وهذا لأن طاوسا كان قوالا بالحق أمارا بالمعروف، نهاء عن المنكر، تساوى عنده الحالان .

فقد روي عن سفيان قال: حلف لنا إبراهيم بن ميسرة وهو مستقبل الكعبة: ورب هذه البنية ما رأيت أحدا الشريف والوضيع عنده بمنزلة إلا طاوسا ، مات طاوس في سنة ست ومائة، وكان هشام بن عبد الملك قد حج تلك السنة وهو خليفة فصلى عليه، (وعن سفيان) بن سعيد (الثوري) رحمه الله تعالى (قال: أدخلت على أبي جعفر) المنصور بالله عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس العباسي، ثاني الخلفاء، بويع له سنة خمس وثلاثين ومائة وهو بمكة وبقي اثنتين وعشرين سنة، وتوفي سنة ثمان وخمسين ومائة ببئر ميمون، ودفن بالحجون عن ثمان وخمسين وأشهر، ( بمنى فقال) لي: (ارفع) إلينا (حاجتك، فقلت له: اتق الله، فقد ملأت الأرض ظلما وجورا، قال: فطأطأ رأسه) حياء، (ثم رفع فقال: ارفع إلينا حاجتك، فقلت: إنما أنزلت هذه الآية المنزلة بسيوف المهاجرين والأنصار) ، يشير إلى ما سهل الله على يديهم من فتوح العراق وبلاد العجم، (وأبناؤهم يموتون جوعا، فاتق الله وأوصل إليهم حقوقهم) من بيت المال، (قال: فطأطأ رأسه) حياء، (ثم رفع فقال: ارفع إلينا حاجتك فقلت: حج عمر بن الخطاب ) رضي الله عنه (فقال: لخازنه كم أنفقت) ، أي: في هذه السفرة (قال: بضعة عشر درهما) ، قال: أسرفنا، (وأرى ههنا أموالا لا تطيق الجمال حملها) ، قال ذلك (وخرج) أخرجه أبو نعيم في الحلية في ترجمة سفيان .

قال المزي في التهذيب: وساق سنده إلى عبد الرزاق قال: بعث أبو جعفر الخشابين حين خرج إلى مكة ، قال: إن رأيتم سفيان فاصلبوه، قال: فجاء النجارون ونصبوا الخشب ونودي سفيان فإذا [ ص: 139 ] رأسه في حجر الفضيل ورجلاه في حجر ابن عيينة ، فقالوا له: يا أبا عبد الله اتق الله، ولا تشمت بنا الأعداء، قال: فتقدم إلى الأستار فأخذهم، ثم قال: برئت منه إن دخلها أبو جعفر قال: فمات قبل أن يدخل مكة فأخبر بذلك سفيان فلم يقل شيئا . (فهكذا كانوا يدخلون على السلاطين إذا أكرهوا، فكانوا يفرون بأرواحهم في الانتقام لله عز وجل ممن ظلم) وتعدى وأساء السيرة .




الخدمات العلمية