الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فهذا بيان انقسام الوجد إلى مكاشفات وإلى أحوال وانقسامه إلى ما يمكن الإفصاح عنه وإلى ما لا يمكن وانقسامه إلى المتكلف وإلى المطبوع .

، فإن قلت : فما بال هؤلاء لا يظهر وجدهم عند سماع القرآن وهو كلام الله ويظهر عند الغناء وهو كلام الشعراء فلو كان ذلك حقا من لطف الله تعالى ولم يكن باطلا من غرور الشيطان لكان القرآن أولى به من الغناء ، فنقول الوجد الحق هو ما ينشأ من فرط حب الله تعالى وصدق إرادته والشوق إلى لقائه وذلك يهيج بسماع القرآن أيضا .

وإنما الذي لا يهيج بسماع القرآن حب الخلق وعشق المخلوق .

ويدل على ذلك قوله تعالى ألا بذكر الله تطمئن القلوب وقوله تعالى : مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله . وكل ما يوجد عقيب السماع في النفس فهو وجد .

فالطمأنينة ، والاقشعرار والخشية ولين القلب كل ذلك وجد .

وقد قال الله تعالى : إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وقال تعالى : لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله فالوجل والخشوع وجد من قبيل الأحوال ، وإن لم يكن من قبيل المكاشفات .

ولكن قد يصير سببا للمكاشفات والتنبيهات ولهذا ، قال صلى الله عليه وسلم : زينوا القرآن بأصواتكم .

وقال لأبي موسى الأشعري لقد أوتى مزمارا من مزامير آل داود عليه السلام .

وأما الحكايات الدالة على أن أرباب القلوب ظهر عليهم الوجد عند سماع القرآن فكثيرة فقوله صلى الله عليه وسلم : شيبتني هود وأخواتها .

خبر عن الوجد ، فإن الشيب يحصل من الحزن والخوف وذلك وجد .

وروي أن ابن مسعود رضي الله عنه قرأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة النساء فلما انتهى إلى قوله تعالى : فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا قال : حسبك وكانت ، عيناه تذرفان بالدموع .

وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم قرأ هذا الآية أو قرئ عنده إن لدينا أنكالا وجحيما وطعاما ذا غصة وعذابا أليما فصعق .

وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم قرأ : إن تعذبهم فإنهم عبادك فبكى .

وكان صلى الله عليه وسلم إذا مر بآية رحمة دعا واستبشر .

.

التالي السابق


(فهذا بيان انقسام الوجد إلى مكاشفات وإلى أحوال) وبيان (انقسامه إلى ما يمكن الإفصاح عنه) والتعبير عنه، (وإلى ما لا يمكن) التعبير عنه (و) بيان (انقسامه إلى المتكلف منه والمطبوع، فإن قلت: فما بال هؤلاء لا يظهر وجدهم عند سماع القرآن وهو كلام الله تعالى ويظهر) وجدهم (على الغناء وهو كلام الشعراء) وشتان بينهما، (فلو كان ذلك حقا من لطف الله تعالى ولم يكن باطلا من غرور الشيطان لكان القرآن أولى من الغناء، فنقول) في الجواب عن ذلك: (الوجد الحق هو ما ينشأ من فرط حب الله تعالى وصدق إرادته) أي: السالك في طريق الله، (والشوق إلى لقائه وذلك يهيج بسماع القرآن أيضا) كما سيأتي بيانه، (وإنما الذي لا يهيج بسماع القرآن حب الخلق وعشق المخلوق ويدل على ذلك قوله تعالى: ألا بذكر الله تطمئن القلوب و) كذا (قوله تعالى: مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله . وكل ما يوجد عقب السماع) أي: عنده (بسبب السماع في النفس فهو وجد، والطمأنينة والاقشعرار والخشية ولين القلب) والجلد (كل ذلك وجد، وقد قال تعالى: إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وقال تعالى: لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله فالوجل والخشوع وجد من قبيل الأحوال، وإن لم يكن من قبيل المكاشفات، ولكن قد يصير سببا للمكاشفات والتنبيهات، ولذلك قال -صلى الله عليه وسلم-: زينوا القرآن بأصواتكم) تقدم في كتاب تلاوة القرآن الكريم (وقال) -صلى الله عليه وسلم- (لابن موسى) الأشعري -رضي الله عنه- (لقد أوتي مزمارا من مزامير داود -عليه السلام-) تقدم أيضا في كتاب تلاوة القرآن، (وأما الحكايات [ ص: 550 ] الدالة على أن أرباب القلوب ظهر عليهم الوجد عند سماع) آيات (القرآن كثيرة) يأتي ذكر بعض ذلك .

(فقوله -صلى الله عليه وسلم-: شيبتني هود وأخواتها) .

قال العراقي: رواه الترمذي من حديث أبي جحيفة، وله وللحاكم من حديث ابن عباس نحوه، قال الترمذي: حسن، وقال الحاكم: صحيح على شرط البخاري . اهـ. (خبر عن الوجد، فإن الشيب يحصل من الحزن والخوف وذلك وجد) والمعنى: شيبتني سورة هود وأخواتها أي: أشباهها من السور التي فيها ذكر أهوال القيامة والعذاب، والهموم والأحزان إذا تفاقمت على الإنسان أسرع إليه المشيب في غير أوانه قال المتنبي:

والهم يخترم الجسم نحافة ويشيب ناصية الصبي ويهرم



هكذا رواه الطبراني في الكبير من حديث عقبة بن عامر وأبي جحيفة، وسند الطبراني رجاله رجال الصحيح، وقال الحافظ السخاوي في المقاصد رواه ابن مردويه في تفسير من رواية محمد بن سيرين بن عمران بن حصين قال: قيل: يا رسول الله أسرع إليك الشيب، قال: شيبتني هود والواقعة وأخواتها. وفي الترمذي والحلية لأبي نعيم من حديث شيبان عن أبي إسحاق السبيعي عن عكرمة عن ابن عباس قال أبو بكر: يا رسول الله، قد شبت، قال: شيبتني هود والواقعة والمرسلات وعم يتساءلون وإذا الشمس كورت. وصححه الحاكم وقال الترمذي: إنه حسن غريب لا نعرفه من حديث ابن عباس إلا من هذا الوجه. وقد رواه علي بن صالح عن أبي إسحاق عن أبي جحيفة نحوه، يعني كما أخرجه في الشمائل بلفظ: هود وأخواتها، قال الترمذي: وروي عن أبي إسحاق عن أبي ميسرة شيء من هذا وهو مرسل، وكذا من حديث شيبان أخرجه البزار وقال: اختلف فيه على أبي إسحاق فقال: شيبان كذا وقال علي بن صالح عن أبي إسحاق عن أبي حجيفة، وقال زكريا بن أبي زائدة عن أبي إسحاق عن أبي ميسرة أن أبا بكر قال، وحديث أبي بكر رواه كذلك أبو بكر الشافعي كما في الفوائد الغيلانيات، بل وأخرجه ابن أبي شيبة في مسنده عن أبي الأحوص عن أبي إسحاق عن عكرمة، قال أبو بكر سألت النبي -صلى الله عليه وسلم- ما شيبك؟ قال: شيبتني هود والواقعة والمرسلات، وإذا الشمس كورت. وهو مرسل صحيح، ألا إنه موصوف بالاضطراب، وقد أطال الدارقطني في ذكر علله واختلاف طرقه في أوائل كتاب العلل، ونقل حمزة السهمي عنه أنه قال: طرقه كلها معتلة، وأنكره موسى بن إبراهيم الحمال على تمام، وفيه نظر فطريق شيبان وافقه أبو بكر بن عياش عليها كما أخرجه الدارقطني في العلل، وقال ابن دقيق العيد في أواخر الاقتراح: إسناده على شرط البخاري، ورواه البيهقي في الدلائل من رواية عطية عن أبي سعيد قال: قال عمر بن الخطاب: يا رسول الله، لقد أسرع إليك الشيب قال: شيبتني هود وأخواتها: الواقعة وعم يتساءلون وإذا الشمس كورت. وأخرجه ابن سعد وابن عدي من رواية يزيد الرقاشي عن أنس وفيه: الواقعة والقارعة وسأل سائل وإذا الشمس كورت. وللطبراني من حديث ابن مسعود بسند فيه عمرو بن ثابت وهو متروك أن أبا بكر سأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ما شيبك يا رسول الله؟ قال: شيبتني هود والواقعة والحاقة وإذا الشمس كورت . اهـ .

قلت: وهذا الأخير رواه الطبري كذلك من حديث سهل بن سعد، وفيه سعيد بن سلام العطار وهو كذاب، ويروى من حديث سعد بن أبي وقاص أخرجه ابن مردويه في تفسيره، وسنده ضعيف، وسياقه سياق حديث ابن عباس وأبي بكر ويروى: شيبتني هود وأخواتها قبل المشيب. رواه كذلك ابن مردويه عن أبي بكر، ورواه سعيد بن منصور من حديث أنس بلفظ: وأخواتها قبل المشيب. رواه كذلك ابن مردويه عن أبي بكر، ورواه سعيد بن منصور من حديث أنس بلفظ وأخواتها من المفصل. ويروى من مرسل محمد بن الحنفية شيبتني هود وأخواتها وما فعل بالأمم قبلي. هكذا رواه ابن عساكر، ومن مرسل أبي عمران الجوني بلفظ: شيبتني هود وأخواتها، ذكر يوم القيامة وقصص الأمم. هكذا رواه عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد لأبيه، وأبو الشيخ في تفسيره، وقد خرجت هذا الحديث في جزء سميته "بذل المجهود في تخريج حديث شيبتني هود" أوردت كلام الدارقطني بتمامه وكلام غيره فليراجع ذلك، فإنه فيه المقصود والله أعلم .

(وروي أن ابن مسعود [ ص: 551 ] -رضي الله عنه- قرأ على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سورة النساء حتى انتهى إلى قوله تعالى: فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا قال: حسبك، فكانت عيناه تذرفان) أي: تسيلان (بالدموع) .

قال العراقي: متفق عليه من حديثه . اهـ .

قلت: وأخرجه ابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد والترمذي والنسائي وابن المنذر، وابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل بطرق عن ابن مسعود قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: اقرأ علي قلت: يا رسول الله، أقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال: نعم، إني أحب أن أسمعه من غيري، فقرأت سورة النساء حتى أتيت إلى هذه الآية فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا فقال: حسبك، فإذا عيناه تذرفان.

وأخرج الحاكم وصححه من حديث عمرو بن حريث قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لابن مسعود: اقرأ. فساق الحديث، وفيه: فاستعبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكف عبد الله.

وأخرج ابن أبي حاتم والبغوي في معجمه والطبراني بسند حسن عن محمد بن فضالة الأنصاري، وكان ممن صحب النبي -صلى الله عليه وسلم- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أتاهم في بني ظفر ومعه ابن مسعود ومعاذ بن جبل وناس من أصحابه فأمر قارئه فقرأ فأتى على هذه الآية فكيف إذا جئنا من كل أمة إلى قوله: "شهيدا" فبكى حتى اضطرب لحياه وجنباه وقال: يا رب هذا شهدت على من أنا بين ظهريه فكيف بمن لم أره.

(وفي رواية) أخرى (أنه -صلى الله عليه وسلم- قرئ عنده) قوله تعالى: ( إن لدينا أنكالا وجحيما وطعاما ذا غصة وعذابا أليما فصعق) .

قال العراقي: رواه ابن عدي في الكامل والبيهقي في الشعب من طريقه من حديث أبي حرب من أبي الأسود مرسلا . اهـ .

قلت: الصحيح أنه معضل قال أبو عبيد في فضائل القرآن، حدثنا وكيع، حدثنا حمزة الزيات عن حمران بن أعين قال: سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رجلا يقرأ: إن لدينا أنكالا وجحيما وطعاما ذا غصة وعذابا أليما فعلق. وهكذا أخرجه أبو بكر بن أبي داود في فضائل القرآن عن هانئ محمد بن أبي الحبيب عن وكيع، وعمران ضعيف. وقد ذكره ابن عدي في ترجمته في الكامل من جملة ما أنكر عليه، وأخرجه من وجه آخر ضعيف عن حمزة بن حمران عن أبي حرب بن أبي الأسود، وزيادة أبي حرب فيه ضعيفة، وهو من ثقات التابعين، حققه الحافظ ابن حجر في أمالي الأذكار .

(وروي أنه -صلى الله عليه وسلم- قرأ: إن تعذبهم فإنهم عبادك فبكى) .

قال العراقي: رواه مسلم من حديث عبد الله بن عمر . اهـ .

قلت: وكذلك أخرجه النسائي وابن أبي الدنيا في حسن الظن وابن جرير وابن أبي حاتم وابن حبان وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات، ولفظهم جميعا: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- تلا قول الله تعالى في إبراهيم: رب إنهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فإنه مني الآية، وقول عيسى بن مريم - عليه السلام- إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم فرفع يديه فقال: اللهم أمتي أمتي، وبكى، فقال الله: يا جبريل اذهب إلى محمد فقل: إنا سنرضيك في أمتك ولا نضرك.

(وكان -صلى الله عليه وسلم- إذا مر بآية رحمة دعا واستبشر) ، تقدم في كتاب تلاوة القرآن دون قوله: واستبشر .

وروى أحمد ومسلم والأربعة من حديث حذيفة: كان إذا مر بآية رحمة سأل، وإذا مر بآية خوف تعوذ، وإذا مر بآية رحمة سأل، وإذا مر بآية فيها تنزيه سبح.




الخدمات العلمية