الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وقيل : لعبد الله بن الزبير ألا تأتي المدينة فقال : ما بقي فيها إلا حاسد نعمة أو فرح بنقمة .

وقال ابن السماك كتب صاحب لنا : أما بعد فإن الناس كانوا دواء يتداوى به فصاروا داء لا دواء له ، ففر منهم فرارك من الأسد .

وكان بعض الأعراب يلازم شجرا ويقول : هو نديم فيه ثلاث خصال : إن سمع مني لم ينم علي ، وإن تفلت في وجهه احتمل مني ، وإن عربدت عليه لم يغضب فسمع الرشيد ذلك فقال زهدني : في الندماء وكان بعضهم قد لزم الدفاتر والمقابر فقيل له ذلك فقال : لم أر أسلم من وحدة ولا أوعظ من قبر ولا جليسا أمتع من دفتر وقال الحسن رضي الله عنه أردت الحج فسمع ثابت البناني بذلك وكان أيضا من أولياء الله فقال : بلغني أنك تريد الحج فأحببت أن أصحبك فقال له الحسن : ويحك ! دعنا نتعاشر بستر الله علينا إني ، أخاف أن نصطحب فيرى بعضنا من بعض ما نتماقت عليه .

وهذه إشارة إلى فائدة أخرى في العزلة وهو بقاء الستر على الدين والمروءة والأخلاق والفقر وسائر العورات .

وقد مدح الله سبحانه المتسترين فقال يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف وقال الشاعر .


ولا عار إن زالت عن الحر نعمة ولكن عارا أن يزول التجمل

ولا يخلو الإنسان في دينه ودنياه وأخلاقه وأفعاله عن عورات الأولى في الدين والدنيا سترها ولا تبقى السلامة مع انكشافها. .

وقال أبو الدرداء كان الناس ورقا لا شوك فيه فالناس اليوم شوكا لا ورق فيه .

إذا كان هذا حكم زمانه وهو في أواخر القرن الأول فلا ينبغي أن يشك في أن الأخير شر .

وقال سفيان بن عيينة قال لي سفيان الثوري في اليقظة في حياته وفي المنام بعد وفاته : أقلل من معرفة الناس فإن التخلص منهم شديد ، ولا أحسب أني رأيت ما أكره إلا ممن عرفت .

وقال بعضهم : جئت إلى مالك بن دينار وهو قاعد وحده وإذا كلب قد وضع حنكه على ركبته .

فذهب أطرده فقال : دعه يا هذا هذا لا يضر ولا يؤذي وهو خير من جليس السوء .

وقيل لبعضهم : ما حملك على أن تعتزل الناس ? قال : خشيت أن أسلب ديني ولا أشعر .

وهذه ، إشارة إلى مسارقة الطبع من أخلاق القرين السوء .

وقال أبو الدرداء اتقوا الله واحذروا الناس فإنهم ما ركبوا ظهر بعير إلا أدبروه ولا ظهر جواد إلا عقروه ولا قلب مؤمن إلا خربوه .

وقال بعضهم : أقلل المعارف فإنه أسلم لدينك وقلبك وأخف لسقوط الحقوق عنك؛ لأنه : كلما كثرت المعارف كبرت الحقوق وعسر القيام بالجميع .

وقال بعضهم: أنكر من تعرف ولا تتعرف إلى من لا تعرف .

التالي السابق


(وقيل: لعبد الله بن الزبير) بن العوام بن خويلد بن أسد القرشي أبي بكر ويقال: أبي خبيب المدني وأمه أسماء ابنة أبي بكر الصديق وكان أول مولود ولد في الإسلام في المدينة في قريش، هاجرت به أمه حملا فولد بعد الهجرة بعشرين شهرا، وتوفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو ابن ثمان سنين وأربعة أشهر، وكان فصيحا ذا لسن وشجاعة، بويع له بالخلافة بعد موت يزيد بن معاوية سنة أربع وستين وغلب على الحجاز والعراقيين واليمن ومصر وأكثر الشام، وكانت ولايته تسع سنين وقتله الحجاج بن يوسف في أيام عبد الملك بن مروان يوم الثلاثاء بمكة سنة اثنين وسبعين، روى له الجماعة (ألا تأتي المدينة) أي: وتسكنها وبها المهاجرون والأنصار؟ (وقال: ما بقي إلا حاسد نعمة أو فرح بنقمة) فإن رأى صاحبه في نعمة حسده عليها وإن رأى به نقمة فرح بها .

(وقال ابن السماك) هو أبو العباس محمد بن صبيح البغدادي الواعظ (كتب صاحب لنا: أما بعد فإن الناس كانوا دواء يتداوى بهم فصاروا داء لا دواء له، ففر منهم فرارك من الأسد وكان بعض الأعراب) من أهل البادية (يلازم شجرة) ويخدمها ويسقيها بالماء ويكنس حواليها (ويقول: هو نديم فيه ثلاث خصال: إن سمع مني لم ينم علي، وإن تفلت في وجهه احتمل مني، وإن عربدت عليه لم يغضب علي) والعربدة اختلاط كلام عند السكر (فسمع) هارون (الرشيد ذلك فقال: زهدني في الندماء) أي: هذه الخصال الثلاث من شروط النديم فمن لم توجد فيه لا يصاحب .

(وكان بعضهم لزم الدفاتر) أي: مطالعة الكتب في أي فن كان (والمقابر) أي [ ص: 358 ] زيارتها في طرف النهار (فقيل له في ذلك فقال: لم أر أسلم من وحدة ولا أوعظ من قبر ولا جليسا أمتع من دفتر) وفي ذلك قيل:

نعم المحدث والجليس كتاب تلهو به إن خانك الأصحاب لا مفشيا سرا إذا أودعته
يوما إذا ما ملك الأحباب



(وقال الحسن) البصري (أردت الحج) إلى بيت الله الحرام (فسمع ثابت) بن أسلم أبو محمد (البناني) البصري، وبنانة بنو سعد بن غالب، ويقال: إنهم بنو سعد بن ضبيعة بن نزار، ويقال: هم في ربيعة بن نزار باليمامة (بذلك وكان أيضا من أولياء الله تعالى) من ثقات التابعين صحب أنس بن مالك أربعين سنة، مات سنة سبع وعشرين، روى له الجماعة وقد رئي بعد موته يصلي في قبره وكان قد دعا الله بذلك فقال: اللهم إن كنت أعطيت أحدا الصلاة في قبره فأعطني الصلاة في قبري، فيقال: إنه استجيب له ذلك (فقال: بلغني أنك تريد الحج فأحببت أن أصطحبك) في الطريق (فقال له الحسن: ويحك! دعنا نتعاشر بستر الله، إنني أخاف أن نصطحب فيرى بعضنا من بعض ما نتماقت عليه) .

وفي القوت: وقال علي بن المديني: قال لي أحمد بن حنبل: إني أحب أن أصطحبك إلى مكة وما يمنعني من ذلك إلا أني أخاف أن أملك أو تملني لأنه يقال: إن ملل الإخوان ليس من أخلاق الكرم،وقال مكحول: قلت للحسن: إني أريد الخروج إلى مكة فقال: لا تصحبن رجلا يكرم عليك فينقطع الذي بينك وبينه اهـ .

(وهذه إشارة إلى فائدة أخرى في العزلة وهو بقاء الستر على الدين والمروءة والأخلاق والفقر وسائر العورات) الخافية والبادية (وقد مدح الله سبحانه وتعالى المتسترين فقال) في كتابه العزيز ( يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف ) أي: من عفتهم عن السؤال يظن بهم الغنى التام (وقال الشاعر) في معنى ذلك

( ولا عار إن زالت عن الحر نعمة ولكن عارا أن يزول التجم )

(ولا يخلو الإنسان في دينه ودنياه وأخلاقه وفعاله عن عورات) يحب التستر عليها (الأولى في الدين والدنيا سترها ولا تبقى السلامة من انكشافها .

وقال أبو الدرداء) -رضي الله عنه- (كان الناس) فيما مضى (ورقا لا شوك فيه والناس اليوم شوك لا ورق فيه) إن ناقدتهم ناقدوك وإن تركتهم لم يتركوك كذا في القوت بزيادة: فأقرضهم اليوم من عرضك تترك .

وأخرجه أبو نعيم في الحلية أشار به إلى ما حصل من الاختلاف والتغير والفتن واتباع الأهواء (وإذا كان هذا حكم زمانه وهو في آخر القرن الأول) لأنه توفي في سنة اثنين وثلاثين، قال الواقدي: وقيل: قبله (فلا ينبغي أن يشك في أن الأخير شر) .

وقال (أبو محمد) سفيان بن عيينة الهلالي (قال لي سفيان) بن سعيد (الثوري في اليقظة في حياته وفي المنام بعد وفاته: أقلل من معرفة الناس فإن التخلص منهم شديد، ولا أحسب أني رأيت ما أكره إلا ممن عرفت) أما قوله: في حياته، فأخرجه أبو نعيم في الحلية من طريق ابن حنيف، حدثنا خلف بن تميم، سمعت سفيان الثوري يقول: أقلل من معرفة الناس يقل عيبك. ومن طريق ابن المقري قال: سمعت سفيان بن عيينة يقول: رأيت سفيان الثوري في المنام فقلت: أوصني فقال: أقلل من معرفة الناس أو كما قال. ومن طريق إبراهيم بن أيوب، حدثنا سفيان بن عيينة قال: رأيت سفيان الثوري في المنام فقلت: أوصني قال: أقلل من مخالطة الناس، قلت: زدني، قال: سترد فتعلم .

وأنشدنا في معناه شيخنا المرحوم السيد عبد الله بن إبراهيم الحسيني نزيل الطائف قدس سره لنفسه وكتبته من خطه:

إنما الناس كشوك نابت كيف ينجو من بذا الشوك اشتبك

(وقال بعضهم: جئت إلى) أبي يحيى (مالك بن دينار) البصري -رحمه الله تعالى- (وهو قاعد وحده وإذا كلب قد وضع حنكه على ركبتيه فذهبت أطرده فقال: دعه يا هذا) (لا يضر ولا يؤذي وهو خير من الجليس السوء) أخرجه أبو نعيم في الحلية قال: حدثنا محمد بن أحمد بن عبد الله الوكيل، حدثنا إبراهيم بن [ ص: 359 ] الجنيد، حدثنا عمار بن زربي، حدثنا حماد بن واقد الصفار، وقال: جئت يوما مالك بن دينار وهو جالس وحده وإلى جنبه كلب قد وضع خرطومه بين يديه فذهبت أطرده، فقال: دعه، هذا خير من جليس السوء، هذا لا يؤذي، وحدثنا أحمد بن ضبر بن سالم، حدثنا أحمد بن علي الأبار، حدثنا محرز بن عون، حدثنا مختار أخي عن جعفر بن سليمان قال: رأيت مع مالك بن دينار كلبا يتبعه، فقلت: يا أبا يحيى ما هذا معك؟ قال: هذا خير من جليس السوء.

(وقيل لبعضهم: ما حملك على أن تعتزل الناس؟ قال: خشيت أن أسلب ديني ولا أشعر، إشارة إلى مسارقة الطبع من أخلاق القرين السوء) فإن الطبع سراق، فإذا سرقه كان سببا لسلب دينه بحيث لا يشعر به (وقال أبو الدرداء) -رضي الله عنه-: (اتقوا الله واحذروا الناس) أي: من معاشرتهم (فإنهم ما ركبوا ظهر بعير إلا أدبروه) أي: جعلوا فيه الدبر وهو بالتحريك نقب في ظهر الجمل (ولا ظهر جواد إلا عقروه) أي: أهلكوه (ولا قلب مؤمن إلا خربوه) بأن يشغلوه عن الله تعالى بإدخال الهموم عليه .

(وقال بعضهم: أقلل من المعارف فإنه أسلم لدينك وقلبك وأخف لسقوط الحقوق عنك؛ لأنه يقال: كلما كثرت المعارف كثرت الحقوق) وكلما طالت الصحبة تأكدت المراعاة (وعسر القيام بالجميع) نقله صاحب القوت وزاد وقال بعضهم: هل رأيت شرا إلا ممن تعرف، فكلما نقص من هذا فهو خير .




الخدمات العلمية