الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الرابع : ما يقصد به المحبة وجلبها من قبل المهدى إليه لا لغرض معين ، ولكن طلبا للاستئناس وتأكيدا للصحبة ، وتوددا إلى القلوب ، فذلك مقصود للعقلاء ومندوب إليه في الشرع قال صلى الله عليه وسلم : تهادوا تحابوا .

وعلى الجملة فلا يقصد الإنسان في الغالب أيضا محبة غيره لعين المحبة ، بل لفائدة في محبته ولكن إذا لم تتعين تلك الفائدة ولم يتمثل في نفسه غرض معين يبعثه في الحال أو المآل سمي ، ذلك هدية وحل أخذها .

التالي السابق


القسم (الرابع: ما يقصد به المحبة وجلبها من قلب المهدى إليه لا لعوض ) ، وفي نسخة: لا لغرض (معين، ولكن طلبا للاستئناس وتأكيدا للصحبة، وتوددا للقلوب، فذلك مقصود للعقلاء ومندوب إليه في الشرع) ، وهذا هو المسمى بالهدية يحل أخذها، (قال صلى الله عليه وسلم: تهادوا تحابوا ) تهادوا أصله: تهاديوا وهو أمر من التهادي بأن يهدي بعضهم بعضا وتحابوا قال الحاكم : إن كان بالتشديد فمن المحبة، وإن كان بالتخفيف فمن المحاباة ويشهد للأول رواية: يردد في القلب حبا، وكذا رواية: تزدد حبا، قال العراقي : رواه البيهقي من حديث أبي هريرة وضعفه ابن عدي اهـ .

قلت: ورواه كذلك أحمد والطيالسي والبخاري في الأدب، والترمذي والنسائي في الكنى، وأبو يعلى في معجمه، وإسناده جيد، ورواه البيهقي في الشعب من طريق ضمام عن موسى بن وردان عن أبي هريرة ، وعند ابن عساكر في التاريخ بزيادة: وتصافحوا يذهب الغل عنكم ، وهو عند ابن عدي في ترجمة ضمام ، وفي لفظ للترمذي : وتهادوا فإن الهدية تذهب وحر الصدر ، وهكذا رواه أيضا، وهو من طريق أبي معشر عن سعيد عن أبي هريرة ، وقال الترمذي : غريب، وفي الميزان أبو معشر المدني تفرد به، وهو ضعيف جدا، وفي الباب عن عائشة وعبد الله بن عمرو ، وأم حكيم بنت وادع ، وأنس ، وعبد الله بن عمر ، وعطاء الخراساني مرسلا، أما حديث عائشة ، فأخرجه الطبراني في الأوسط، والحربي في الهدايا، والعسكري في الأمثال، والقضاعي وابن عساكر من طريق عبيد الله بن العيزار عن القاسم بن محمد بن أبي بكر عنها بزيادة: وهاجروا تورثوا أبناءكم مجدا، وأقيلوا الكرام عثراتهم . لفظ الطبراني : ولبعضهم تزدادوا حبا . ورواه الطبراني في الأوسط من طريق عمرة بنت أرطاة ، سمعت عائشة تقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا نساء المؤمنين تهادين ولو بفرسن شاة، فإنه يثبت المودة ويذهب الضغائن" ، وللقضاعي من طريق هشام بن عروة عن أبيه عنها مرفوعا: "تهادوا فإن الهدية تذهب الضغائن" .

وأما حديث عبد الله بن عمر فأخرجه الحاكم في علوم الحديث من وجه آخر عن ضمام عن أبي قبيل عنه، وأما حديث أم حكيم فأخرجه أبو يعلى والطبراني في الكبير، والديلمي بلفظ: "تهادوا فإن الهدية تضعف الحب وتذهب الغوائل" ، وفي رواية: بغوائل الصدر ، وفي لفظ: تزيد في القلب حبا .

وأخرجه البيهقي في الشعب، قال الهيثمي : وفي الإسناد من لم يعرف، وأما حديث أنس فله طرق منها عند الطبراني في الأوسط من حديث عائز بن شريح عنه مرفوعا: يا معشر [ ص: 160 ] الأنصار تهادوا فإن الهدية تسل السخيمة، وتورث المحبة . وفي لفظ للحربي : تهادوا فإن الهدية قلت أو كثرت، تورث المودة، وتسل السخيمة . وعند الديلمي بلا سند عن أنس رفعه: عليكم بالهدايا فإنها تنشئ المودة، وتذهب بالضغائن .

وأما حديث ابن عمر فذكره الأصبهاني في الترغيب والترهيب، وأما مرسل عطاء الخراساني فأخرجه مالك في الموطأ بلفظ: تصافحوا يذهب الغل، وتهادوا تحابوا، وتذهب الشحناء . وهو جيد، (وعلى الجملة فلا يقصد الإنسان في الغالب أيضا محبة غيره لعين المحبة، بل لفائدة في محبته ) ، وفي بعض النسخ: بل محبته لفائدة، (ولكن إذا لم تتعين تلك الفائدة ولم يتمثل في نفسه غرض معين يتبعها في الحال أو المآل، فمن ذلك هدية وحل أخذها) ، فالهدية والهدي والهدى والإهداء والتهادي كله راجع إلى معنى الميل والإمالة، ولما كانت العطية تميل قلب من يعطى له إلى من يعطيها سميت هدية لذلك، ومنه الحديث المذكور، فجعل التهادي سببا للتحابب، والهدية سببا في المحبة، والمحبة ميل القلب، والتحابب والتوادد واستمالة القلوب محبوب في الشرع بهذا الحديث وبغيره، فلذلك استحبت الهدية لما يترتب عليها من الأمر المطلوب شرعا، وهو التوادد الذي يحصل به التعاون على مصالح الدنيا والآخرة، ويكون عباد الله إخوانا كما أمرهم نبيهم صلى الله عليه وسلم .

قال التقي السبكي : فإن قلت المهدي يتوصل بهديته إلى محبة المهدى إليه، والراشي يستميل المرتشي حتى يحكم له، فلم اختص كل منها باسم؟ قلت: المهدي ليس له غرض معين إلا استمالة القلب، والراشي له غرض معين وهو ذلك الحكم، وليس غرضه استمالة القلب، بل قد يكون يكرهه ويلعنه، ففي الهدية تودد خاص بها وتوصل مشترك بينهما وبين الرشوة، وإن افترقا في المتوصل إليه، وفي الرشوة توصل خاص لا غير، فخصصنا كلا منها باسم وميزنا بينهما بما اختصا به، وألغينا في الهدية المشترك، وأيضا لما كان المتوصل إليه بالهدية محبوبا في الشرع كان هو المعتبر في التسمية، ولم ينظر إلى السبب، ولما كان المتوصل إليه بالرشوة حراما في الشرع لم يعتبر، وإنما اعتبر في التسمية السبب فقط; لأنه لم يقصد الراشي والمرتشي غيره، فكانت تسمية كل منهما باعتبار مقصد فاعلهما .




الخدمات العلمية