الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وهذا يدل على وجوب الستر وترك التتبع وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاوية إنك إن تتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت تفسدهم حديث يا : معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه ، لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم فإنه يتبع عورة أخيه المسلم يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه ولو كان في جوف بيته ؛ وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه : لو رأيت أحدا على حد من حدود الله تعالى .

ما أخذته ولا دعوت له أحدا حتى يكون معي غيري .

وقال بعضهم : كنت قاعدا مع عبد الله بن مسعود رضي الله عنه إذ جاءه رجل بآخر فقال : هذا نشوان فقال عبد الله بن مسعود استنكهوه فاستنكهوه فوجده نشوانا فحبسه حتى ذهب سكره ثم دعا بسوط فكسر ثمره ثم قال للجلاد : اجلد وارفع يدك وأعط كل عضو حقه فجلده وعليه قباء أو مرط فلما فرغ قال للذي جاء به : ما أنت منه ؟ قال : عمه قال عبد الله ما أدبت فأحسنت الأدب ولا سترت الحرمة إنه ينبغي للإمام إذا انتهى إليه حد أن يقيمه وإن الله عفو يحب العفو ثم قرأ وليعفوا وليصفحوا ثم قال إني لأذكر أول رجل قطعه النبي صلى الله عليه وسلم أتي بسارق فقطعه فكأنما أسف وجهه فقالوا : يا رسول الله ، كأنك كرهت قطعه ؟ فقال وما : يمنعني لا تكونوا عونا للشياطين على أخيكم فقالوا : ألا عفوت عنه فقال : إنه ينبغي للسلطان إذا انتهى إليه حد أن يقيمه ، إن الله عفو يجب العفو وقرأ وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم .

وفي رواية فكأنما : سفي في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم رماد لشدة تغيره وروى أن عمر رضي الله عنه كان يعس بالمدينة من الليل فسمع صوت رجل في بيت يتغنى فتسور عليه فوجد عنده امرأة وعنده خمر ، فقال يا عدو الله ، أظننت أن الله يسترك وأنت على معصيته فقال ؟ : وأنت يا أمير المؤمنين فلا تعجل فإن كنت قد عصيت الله واحدة فقد عصيت الله في ثلاثا ، قال الله تعالى : ولا تجسسوا وقد تجسست ، وقال الله تعالى وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها وقد تسورت علي وقد قال ، الله تعالى : لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم الآية وقد ، دخلت بيتي بغير إذن ولا سلام ، فقال عمر رضي الله عنه .

هل عندك من خير إن عفوت عنك ؟ قال : نعم ، والله يا أمير المؤمنين ، لئن عفوت عني لا أعود إلى مثلها أبدا ، فعفا عنه وخرج وتركه .

وقال رجل لعبد الله بن عمر يا أبا عبد الرحمن ، كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في النجوى يوم القيامة ؟ قال : سمعته يقول : إن الله ليدني منه المؤمن فيضع عليه كنفه ويستره من الناس فيقول : أتعرف ذنب كذا ؟ أتعرف ذنب كذا ؟ فيقول : نعم يا رب ، حتى إذا قرره بذنوبه فرأى في نفسه أنه قد هلك قال له : يا عبدي إني لم أسترها عليك في الدنيا إلا وأنا أريد أن أغفرها لك اليوم فيعطى كتاب حسناته .

وأما الكافرون والمنافقون فتقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين
.

التالي السابق


(فهذا) وأمثاله (يدل على وجوب الستر) على الأخ المسلم (وترك التتبع) لعوراته (وقد قال -صلى الله عليه وسلم- لمعاوية) بن أبي سفيان -رضي الله عنه- (إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت تفسدهم) .

قال العراقي: رواه أبو داود بإسناد صحيح من حديث معاوية.

(وقال -صلى الله عليه وسلم-: يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان في قلبه، لا تغتابوا الناس ولا تتبعوا عوراتهم؛ فإنه من يتبع عورة أخيه المسلم يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه ولو كان في جوف بيته) .

قال العراقي: رواه أبو داود من حديث أبي برزة بإسناد جيد، وللترمذي نحوه من حديث ابن عمر وحسنه، قلت: حديث أبي برزة الأسلمي رواه أيضا هكذا أحمد وأبو يعلى وابن أبي الدنيا وابن المنذر وابن [ ص: 270 ] مردويه والطبراني في الكبير والبيهقي، ورواه كذلك ابن أبي الدنيا في الغيبة، وأبو يعلى والضياء في المختارة من حديث البراء بزيادة: "خطبنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى أسمع العواتق في الخدر، ينادي بأعلى صوته: يا معشر" الخ .

وروي وذلك أيضا من حديث ابن عباس ولفظه: "يا معشر من آمن بلسانه ولم يخلص الإيمان إلى قلبه ولا تؤذوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم؛ فإنه من يتبع عورة أخيه يتبع الله عورته حتى يخرقه الله عليه في بطن بيته" هكذا رواه العقيلي وابن مردويه، وروى ابنه من حديث عبد الله بن بريدة عن أبيه، ولفظه: يا معشر من أسلم بلسانه ولم يفض الإيمان إلى قلبه لا تذموا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم؛ فإن من يطلب عورة أخيه المسلم هتك الله ستره وأبدى عورته، ولو كان في سر بيته. هكذا رواه الطبراني في الكبير ورواه كذلك ابن مردويه بزيادة: "صلينا الظهر خلف نبي الله -صلى الله عليه وسلم- فلما انفتل أقبل علينا غضبان مسفرا ينادي بأعلى صوت أسمع العواتق في جوف الخدور: يا معشر" الخ. وأما حديث ابن عمر الذي أشار إليه العراقي فلفظه: "يا معشر من أسلم بلسانه ولم يفض الإيمان إلى قلبه لا تؤذوا المسلمين ولا تعيروهم ولا تتبعوا عوراتهم، فمن يتبع عورة أخيه المسلم يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله" هكذا ساقه الترمذي وقال: حسن غريب، رواه ابن حبان كذلك، ورواه الترمذي في الكبير من حديث ابن عباس، ويروى أيضا من مرسل جبير بن نفير ولفظه "يا معشر الذين آمنوا بألسنتهم ولم يدخل الإيمان إلى قلوبهم، لا تؤذوا المسلمين ولا تعيروهم ولا تتبعوا عثراتهم؛ فإنه من يتبع عثرة أخيه المسلم يتبع الله عثرته ومن يتبع الله عثرته يفضحه وهو في قعر بيته" الحديث بطوله هكذا أخرجه الحكيم الترمذي في نوادر الأصول .

(وقال أبو بكر الصديق -رضي الله عنه-: لو رأيت أحدا على حد من حدود الله تعالى ما أخذته ولا دعوت له أحدا حتى يكون مع غيري) أي: فالحاكم وحده لا يجوز له أن يهتك ستر عبده وقد ستره الله تعالى .

(وقال بعضهم: كنت قاعدا مع عبد الله بن مسعود) -رضي الله عنه- (إذ جاءه رجل تاجر فقال: هذا نشوان) أي: سكران (فقال عبد الله بن مسعود) -رضي الله عنه- (استنكهوه) أي: شموه (ففعلوا به) ذلك (فوجدوه نشوانا) كما قال (فحبسه حتى ذهب سكره ثم دعا بسوط فكسر ثمرته ثم قال للجلاد: اجلد وارفع يدك وأعط كل عضو حقه فجلده وعليه قباء أو مرط) بكسر الميم كساء من صوف وفي نسخة أو قرطق وهو بضم القاف وفتح الطاء معرب كرته، وهو قميص صغير على الجسد .

(فلما فرغ) الجلاد (قال للذي جاء به: ما أنت منه؟ قال:) أنا (عمه) في النسب (فقال له عبد الله) -رضي الله عنه- (ما أدبت فأحسنت الأدب ولا سترت الخزية) أي: الفضيحة والمذلة الحاصلة من تلك الفعلة (إنه ينبغي للإمام إذا انتهى إليه حد) من حدود الله (أن يقيمه) كما أمر الله تعالى (وإن الله عفو ويحب العفو ثم قرأ) قوله تعالى: ( وليعفوا وليصفحوا ) قال: ثم شرع يحدثنا فقال: (إني لأذكر أول رجل قطعه النبي -صلى الله عليه وسلم- أتي بسارق فقطعه) أي: قطع يده (فكأنما أسف وجهه) أي: تغير من الإسفاف (فقالوا: يا رسول الله، كأنك كرهت قطعه؟ فقال: ما يمنعني) عن الكراهة (لا تكونوا عونا للشيطان على أخيكم) أي: لا تتبعوا الشيطان ولا تكونوا عونا له فإنه يفرح في إخوانكم المسلمين إذا أصيبوا بمثل ذلك (فقالوا: ألا عفوت) يا رسول الله (فقال: إنه ينبغي للسلطان إذا انتهى إليه حد) من حدود الله (أن يقيمه، إن الله عفو يحب العفو) وهذه الجملة أعني: قوله "إن الله" هنا حديث مستقل رواه الحاكم عن ابن مسعود ورواه ابن عدي من حديث عبد الله بن جعفر (وقرأ وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم ) .

قال العراقي: رواه الحاكم وقال: صحيح الإسناد .

(وفي رواية أخرى: كأنه سفي في وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رماد) هكذا رواه الخرائطي في مكارم الأخلاق (لشدة تغيره) وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وأبو داود وابن المنذر وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن زيد بن وهب قال: أتي ابن مسعود فقيل: هذا فلان تقطر لحيته خمرا، فقال عبد الله: إنا قد نهينا عن التجسس ولكن إن يظهر لنا شيء نأخذ به. والأقرب إلى سياق المصنف ما رواه الإمام أبو حنيفة عن يحيى بن عبد الله الجائر عن أبي [ ص: 271 ] ماجد الحنفي عن ابن مسعود قال: أتاه رجل بابن أخ له نشوان قد ذهب عقله، فقال: ترتروه ومزمزوه واستنكهوه، فترتر ومزمز واستنكه، فوجد منه رائحة شراب، فأمر بحبسه، فلما صحا دعاه ودعا بسوط فقطع ثمرته ثم رقه، ثم دعا جلادا فقال: اجلد وارفع يدك في جلدك ولا تبعد ضبعيك، فقال: ثم أنشأ عبد الله يعد حتى إذا كمل ثلاثين جلدة خلى سبيله، فقال الشيخ: يا أبا عبد الرحمن إنه ابن أخي وما لي ولد غيره، فقال: بئس العم -والله- وإلى اليتيم أنت كنت، ما أحسنت أدبه صغيرا ولا سترته كبيرا .

قال: ثم أنشأ يحدثنا قال: إن أول حد أقيم في الإسلام لسارق أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فلما قامت عليه البينة قال: انطلقوا به فاقطعوه، فلما انطلق به يقطع نظر إلى وجه النبي -صلى الله عليه وسلم- كأنما أسفي الرماد، فقال بعض جلسائه: والله يا رسول الله كأن هذا اشتد عليك؟ قال: وما يمنعني ألا يشتد علي؟ لا تكونوا أعوان الشيطان على أخيكم، قالوا: فلولا خليت سبيله؟ قال: أفلا كان هذا قبل أن تؤتوني به، فإن الإمام إذا انتهى إليه حد فليس له أن يعطله" فقال: ثم تلا هذه الآية وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم
هكذا رواه أبو محمد الحارثي الحافظ في مسنده من طريق حمزة بن حبيب الزيات وأبي يوسف والحسن بن الفرات وسعيد ابن أبي الجهم ومحمد بن يسر الصغاني كلهم عن الإمام أبي حنيفة لكن ليس في روايتهم "فقال: ترتروه" إلى قوله "شراب" وإنما روى هذه الزيادة طلحة العدل من طريق حمزة بن حبيب خاصة، ورواه ابن خسرو من طريق الحسن بن زياد عن أبي حنيفة ورواه الكلاعي من طريق محمد بن خالد الموهبي عن أبي حنيفة.

وقد رواه سفيان وزهير بن معاوية وجرير بن عبد الحميد وابن عيينة وغيرهم، وقد اختلف فيه من دون أبي حنيفة، فروى بعضهم عن يحيى بن الحارث عن عبد الله بن أبي ماجد عن عبد الله، وأخرجه إسحاق بن راهويه والطبراني من طريق أبي ماجد الحنفي بلفظ: "جاء رجل بابن أخيه سكران إلى ابن مسعود، فقال: ترتروه واستنكهوه، ففعلوا، فرفعه إلى السجن ثم دعا به من الغد فجلده"، وأخرجه عبد الرزاق من حديث سفيان الثوري عن يحيى بدون ذكر العدد .

وأخرجه أبو يعلى من قوله "فأنشأ يحدثنا" إلخ. من طريق زهير بن حرب عن جرير ابن يحيى.

وأخرجه يمامة الحميدي وابن عمر في مسندهما .

(وروي أن عمر -رضي الله عنه- كان يعس بالمدينة من الليل) أي: يدور طائفا وذلك كان في أيام خلافته (فسمع صوت رجل في بيت يتغنى فتسور عليه) أي: اطلع على سور جدار فنزل عليه (فوجده وعنده امرأة وعنده خمر، فقال) له: (يا عدو الله، أظننت أن الله يسترك وأنت على معصيته؟ قال: وأنت يا أمير المؤمنين فلا تعجل إن كنت عصيت الله تعالى في واحدة عصيت الله في) أي: في حقي (ثلاثا، قال الله تعالى: ولا تجسسوا فتجسست، وقال تعالى: وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ) ولكن البر أن تأتوا البيوت من أبوابها (وقد تسورت علي، وقال الله تعالى: لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ) (الآية، فقد دخلت بيتي بغير إذن ولا سلام، فقال عمر) -رضي الله عنه- (هل عندك من خير إن عفوت عنك؟ قال: نعم، والله يا أمير المؤمنين، لئن عفوت عني لن أعود لمثلها أبدا، فعفا عنه وخرج وتركه) هكذا بطوله. أخرجه الخرائطي في مكارم الأخلاق عن ثور الكندي أن عمر كان يعس فساقه .

(وقال رجل لعبد الله بن عمر) بن الخطاب -رضي الله عنه- (يا أبا عبد الرحمن، كيف سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول في النجوى يوم القيامة؟ قال: سمعته يقول: إن الله تعالى ليدني) أي: ليقرب (منه المؤمن فيضع عليه كنفه ويستره من الناس فيقول له: أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟) يعدد الذنوب عليه (فيقول: نعم يا ربي، حتى إذا قرره بذنوبه ورأى في نفسه أنه قد هلك قال له: يا عبدي إني لم أسترها عليك في الدنيا إلا وأنا أريد أن أغفرها لك اليوم فيعطى كتاب حسناته، وأما الكافرون والمنافقون فيقول الأشهاد) أي: الملائكة الشهود وهم الحفظة ( هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين ) .

قال العراقي: متفق عليه .

قلت: وأخرج الحكيم الترمذي من مرسل جبير بن نفير في أثناء حديث "قيل يا رسول الله وهل على المؤمن من ستر؟ قال: ستور الله على المؤمن أكثر من أن تحصى، إن المؤمن يعمل بالذنوب فيهتك عنه سترا سترا حتى لا يبقى عليه من شيء [ ص: 272 ] فيقول الله للملائكة: استروا على عبدي من الناس فإنهم يعيرون ولا يغيرون، فتحف الملائكة بأجنحتها يسترونهم عن الناس، فإن تاب قبل الله منه ورد عليه ستوره، ومع كل ستر تسعة أستار، فإن تتابع في الذنوب قالت الملائكة: يا ربنا إنه قد غلبنا وأقذرنا، فيقول الله: استروا عبدي من الناس؛ فإن الناس يعيرون ولا يغيرون، فتحف به الملائكة بأجنحتها يسترونه من الناس، فإن تاب قبل الله منه، وإن عاد تقول الملائكة: ربنا إنه غلبنا وأقذرنا، فيقول الله للملائكة: تخلوا عنه، فلو عمل ذنبا في بيت مظلم في ليلة مظلمة في حجر أبدى الله عنه وعن عورته".




الخدمات العلمية