الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
آفات العزلة .

اعلم أن من المقاصد الدينية والدنيوية ما يستفاد بالاستعانة بالغير ولا يحصل ذلك إلا بالمخالطة .

فكل ما يستفاد من المخالطة يفوت بالعزلة وفواته من آفات العزلة .

فانظر إلى فوائد المخالطة والدواعي إليها ما هي وهي التعليم والتعلم والنفع والانتفاع والتأديب والتأدب والاستيناس والإيناس ونيل الثواب وإنالته في القيام بالحقوق واعتياد التواضع واستفادة التجارب من مشاهدة الأحوال والاعتبار بها .

فلنفصل ذلك فإنها من فوائد المخالطة وهي سبع .

الفائدة الأولى .

التعليم والتعلم وقد ذكرنا فضلهما في كتاب العلم وهما أعظم العبادات في الدنيا .

ولا يتصور ذلك إلا بالمخالطة
إلا أن العلوم كثيرة وعن بعضها مندوحة وبعضها ضروري في الدنيا .

فالمحتاج إلى التعلم لما هو فرض عليه عاص بالعزلة .

وإن تعلم الفرض وكان لا يتأتى منه الخوض في العلوم ورأى الاشتغال بالعبادة فليعتزل .

وإن كان يقدر على التبرز في علوم الشرع والعقل فالعزلة في حقه قبل التعلم غاية الخسران؛ .

ولهذا قال النخعي وغيره تفقه ثم اعتزل فمن اعتزل قبل التعلم فهو في الأكثر مضيع أوقاته بنوم أو فكر في هوس وغايته أن يستغرق الأوقات بأوراد يستوعبها ولا ينفك في أعماله بالبدن والقلب عن أنواع من الغرور يخيب سعيه ويبطل عمله بحيث لا يدري ولا ينفك اعتقاده في الله وصفاته عن أوهام يتوهمها ويأنس بها وعن خواطر فاسدة تعتريه فيها فيكون في أكثر أحواله ضحكة للشيطان وهو يرى نفسه من العباد .

فالعلم هو أصل الدين فلا خير في عزلة العوام والجهال أعني من لا يحسن العبادة في الخلوة ولا يعرف جميع ما يلزم فيها .

فمثال النفس مثال مريض يحتاج إلى طبيب متلطف يعالجه فالمريض الجاهل إذا خلا بنفسه عن الطبيب قبل أن يتعلم الطب تضاعف لا محالة مرضه .

فلا تليق العزلة إلا بالعالم وأما التعليم ففيه ثواب عظيم مهما صحت نية المعلم والمتعلم .

ومهما كان القصد إقامة الجاه والاستكثار بالأصحاب والأتباع فهو هلاك الدين .

وقد ذكرنا وجه ذلك في كتاب العلم .

وحكم في العالم في هذا الزمان أن يعتزل إن أراد سلامة دينه .

فإنه لا يرى مستفيدا يطلب فائدة لدينه بل لا طالب إلا لكلام مزخرف يستميل به العوام في معرض الوعظ أو الجدل معقد يتوصل به إلى إفحام الأقران ويتقرب به إلى السلطان ويستعمل في معرض المنافسة والمباهاة وأقرب علم مرغوب فيه المذهب ولا يطلب غالبا إلا للتوصل إلى التقدم على الأمثال وتولي الولايات واجتلاب الأموال .

فهؤلاء كلهم يقتضي الدين والحزم الاعتزال عنهم فإن صودف طالب لله ومتقرب بالعلم إلى الله فأكبر الكبائر الاعتزال عنه وكتمان العلم منه وهذا لا يصادف في بلدة كبيرة أكثر من واحد أو اثنين إن صودف .

ولا ينبغي أن يغتر الإنسان بقول سفيان تعلمنا العلم لغير الله فأبى العلم أن يكون إلا لله فإن الفقهاء يتعلمون لغير الله ثم يرجعون إلى الله .

وانظر إلى أواخر أعمار الأكثرين منهم واعتبرهم أنهم ماتوا وهم هلكى على طلب الدنيا ومتكالبون عليها أو راغبون عنها وزاهدون فيها وليس الخبر كالمعاينة .

واعلم أن العلم الذي أشار إليه سفيان هو علم الحديث وتفسير القرآن ومعرفة سير الأنبياء والصحابة فإن فيها التخويف والتحذير وهو ، سبب لإثارة الخوف من الله فإن لم يؤثر في الحال أثر في المآل .

وأما الكلام والفقه المجرد الذي يتعلق بفتاوى المعاملات وفصل الخصومات المذهب منه والخلاف لا يرد الراغب فيه للدنيا إلى الله بل لا يزال متماديا في حرصه إلى آخر عمره .

ولعل ما أودعناه هذا الكتاب إن تعلمه المتعلم رغبة في الدنيا فيجوز أن يرخص فيه إذ يرجى أن ينزجر به في آخر عمره فإنه مشحون بالتخويف بالله والترغيب في الآخرة والتحذير من الدنيا وذلك مما يصادف في الأحاديث وتفسير القرآن ولا يصادف في كلام ولا في خلاف ولا في مذهب .

فلا ينبغي أن يخادع الإنسان نفسه فإن المقصر العالم بتقصيره أسعد حالا من الجاهل المغرور أو المتجاهل المغبون وكل عالم اشتد حرصه على التعليم يوشك أن يكون غرضه القبول والجاه وحظه تلذذ النفس في الحال باستشعار الإدلال على الجهال والتكبر عليهم فآفة العلم الخيلاء كما قال صلى الله عليه وسلم .

ولذلك حكي عن بشر أنه دفن سبعة عشر قمطرا من كتب الأحاديث التي سمعها وكان لا يحدث ويقول إني أشتهي : أن أحدث؛ فلذلك لا أحدث ، ولو اشتهيت أن لا أحدث لحدثت ولذلك قال : حدثنا باب من أبواب الدنيا وإذا قال الرجل : حدثنا فإنما يقول : أوسعوا لي .

وقالت رابعة العدوية لسفيان الثوري نعم الرجل أنت لولا رغبتك في الدنيا ، قال وفيماذا : رغبت ? قالت : في الحديث .

ولذلك قال أبو سليمان الداراني من تزوج أو طلب الحديث أو اشتغل بالسفر فقد ركن إلى الدنيا .

التالي السابق


(آفات العزلة)

لما فرغ من بيان آفات الخلطة وما ينشأ منها، شرع في بيان ما ينشأ من آفات العزلة، فقال:

(اعلم أن من المقاصد الدينية والدنيوية ما يستفاد بالاستعانة بالغير ولا يحصل ذلك إلا بالمخالطة فكل ما يستفاد من المخالطة يفوت بالعزلة وفواته من آفات العزلة فانظر) أولا (إلى فوائد المخالطة و) الأسباب (الدواعي إليها ما هي وهي التعليم والتعلم والنفع) للغير (في القيام بالحقوق) الواجبة والمسنونة والمستحبة (واعتياد التواضع واستفادة التجارب من مشاهدة الأحوال والاعتبار بها من حيث التحقق والتخلق فلنفضل ذلك فإنها من فوائد الخلطة وهي سبعة فوائد) :

(الفائدة الأولى)

(التعليم والتعلم وقد ذكرنا فضلهما في كتاب العلم) مفصلا (وهما أعظم) وفي نسخة أفضل (العبادات في الدنيا ولا يتصور ذلك إلا بالمخالطة) مع الناس؛ فإن الإنسان لا يتعلم بنفسه فلا بد من شيخ يريه طريق العلم، وكذا التعليم يحتاج إلى تعديه للغير فلا بد من المخالطة (إلا أن العلوم كثيرة وعن بعضها مندوحة) أي: سعة لا يحتاج إليها غالبا (وبعضها ضروري في الدنيا) لا بد منه (فالمحتاج إلى تعلم ما هو فرض عليه) إما عينا أو كفاية (عاص بالعزلة) لفواته (وإن تعلم الفرض وكان لا يتأتى منه الخوض في العلوم ورأى الاشتغال بالعبادة فليعتزل) فإن ذلك القدر يكفيه .

(وإن كان يقدر على التبرز في علوم الشرع والعقل) ويتأتى منه تحصيلها (فالعزلة في حقه قبل التعلم غاية الخسران؛ لهذا قال) إبراهيم بن يزيد (النخعي وغيره) من أهل العلم: (تفقه) أي: حصل من علوم الشرع ما تؤدي به فرضك (ثم اعتزل) ليكون بناء أمرك على أساس محكم (ومن اعتزل قبل التعلم) لما هو لازم عليه (فهو في الأكثر مضيع أوقاته) إما (بنوم) في غالب أوقاته (أو [ ص: 363 ] فكر في هوس) واختلاط (وغايته أن يستغرق الأوقات بأوراد) من أذكار وأحزاب (يستوعبها فلا ينفك في أعماله بالبدن والقلب عن أنواع من الغرور) يغره الشيطان بها (يخيب سعيه ويبطل عمله من حيث لا يدري) ولا يشعر (ولا ينفك في اعتقاده بالله) عز وجل (وصفاته عن أوهام) وأباطيل (يتوهمها) في نفسه (ويأنس بها) ويألف إليها (وعن خواطر فاسدة تعتريه فيها) ولا يكاد يتخلص منها (فيكون في أكثر أحواله ضحكة للشيطان وهو يرى نفسه من العباد) ويتخيل إليه أنه في زمرتهم (فالعلم هو أصل الدين) وأساسه الذي لا يتم إلا به (فلا خير) إذا (في عزلة العوام والجهال) بل الأفضل في حقهم الاختلاط ومعاشرة أهل العلم ليتعلموا ما وجب عليهم .

(أعني) بهؤلاء (من لا يحسن العبادة في الخلوة ولا يعرف جميع ما يلزمه فيها) ولو بطريق التقليد (فمثال النفس مثال مريض يفتقر) أي: يحتاج (إلى طبيب متلطف) يوصل إليها الدواء بلطف (ليعالجه) حسبما يقتضيه نظره (فالمريض الجاهل إذا خلا بنفسه عن الطبيب قبل أن يتعلم الطب) الضروري (تضاعف لا محالة مرضه) وفي نسخة: ضرره بمرضه (فلا تليق العزلة إلا بالعالم الماهر) (وأما التعليم ففيه ثواب عظيم) وأمر جسيم (مهما صحت نية المتعلم والمعلم) عن الأغراض الفاسدة (ومهما كان القصد) من التعليم (إقامة الجاه) عند ذويه (والاستكثار بالأصحاب والأتباع) فهو هلاك الدين (وقد ذكرنا وجه ذلك في كتاب العلم) فراجعه إن شئت .

(وحكم العالم في هذا الزمان أن يعتزل إن أراد السلامة في دينه) فإنه الأرفق بحاله (فإنه لا يرى مستفيدا يطلب فائدة لدينه بل لا طالب إلا لكلام مزخرف) مموه (يستميل به) طائفة (العوام في معرض الوعظ) والتدريس (أو الجدال معقد يتوصل به إلى إفحام) أي: إسكات (الأقران) في المجالس (ويتقرب به إلى السلطان) ومن دونه من ذوي المال (ويستعمل في معرض المنافسة والمباهاة) والمفاخرة (وأقرب علم مرغوب فيه المذهب) أي: المسائل المتعلقة بمذهبه (فلا يطلب غالبا إلا للتوصل إلى التقدم على الأمثال) والنظراء (وتولي الولايات) كالإفتاء والقضاء والاحتساب ومشيخة المدارس والتحدث على أرباب الوظائف (واجتلاب الأموال) من هنا ومن هنا (وهؤلاء كلهم ممن يسمعون في نقض الدين) وهدم أركانه (والحزم) كل الحزم (الاعتزال عنهم) مهما أمكن .

(فإن صودف) مرة (طالب) علما (لله) تعالى (ومتقرب في العلم إلى الله) تعالى ويعرف ذلك بالقرائن ثم بنور الفراسة بالنظر إلى أحواله (فأكبر الكبائر الاعتزال عنه وكتمان العلم منه) فإن منع العلم عن أهله ظلم، وعليه يحمل ما ورد في الأخبار من الوعيد على الكتمان (وهذا لا يصادف في بلد كبير) آهل بأهله (أكثر من واحد واثنين) ولا زيادة لعزة المقصد (إن صودف ولا ينبغي أن يغتر الإنسان بقول سفيان) بن سعيد الثوري (تعلمنا العلم لغير الله فأبى العلم إلا أن يكون لله) والمعنى (أن الفقهاء يتعلمون) العلم (لغير الله ثم يرجعون إلى الله) في الأواخر (فانظر إلى أواخر أعمار الأكثرين منهم واعتبرهم أنهم ماتوا وهم هلكى على طلب الدنيا ومتكالبون عليها) أي: على تحصيلها (أو راغبين عنها وزاهدين فيها وليس الخبر كالمعاينة) وهو حديث مرفوع رواه أحمد وابن منيع والعسكري من طريق جعفر بن أبي وحشية عن سعيد بن جبير عن ابن عباس وأورده الدارقطني في الأفراد من طريق غندر عن شعبة، والطبراني في الأوسط من طريق محمد بن عيسى الطباع كلاهما عن هشيم عن ابن أبي وحشية أخرجه ابن [ ص: 364 ] حبان والعسكري أيضا وقد صحح هذا الحديث ابن حبان والحاكم وغيرهما وأورده الضياء في المختارة، وممن روى عن هشيم أيضا أحمد وزياد بن أيوب والنضر بن طاهر والمأمون وأبو القاسم البغوي، قال الحافظ السخاوي: وقول ابن عدي أن هشيما لم يسمعه من ابن أبي وحشية وإنما سمعه من أبي عوانة عنه فدلسه لا يمنع صحته؛ لاسيما وقد رواه الطبراني وابن عدي وأبو يعلى الخليلي في الإرشاد من حديث ثمامة عن أنس ومن هذا الوجه أيضا أورده الضياء في المختارة وفي لفظ: ليس المعاين كالمخبر .

(واعلم أن العلم الذي أشار إليه سفيان هو علم الحديث) أي: سماعه وضبطه وإتقانه ثم العمل به (وتفسير القرآن ومعرفة سير الأنبياء والصحابة) ومن بعدهم (فإن فيها التخويف والتحذير، وهي سبب لإثارة الخوف من الله تعالى فإن لم يؤثر في الحال) لمانع (أثر في المآل) لا محالة (فأما الكلام والفقه المجرد الذي يتعلق بفتاوى المعاملات والخصومات) بين الفريقين (المذهب منه والخلاف لا يرد الراغب فيه للدنيا إلى الله بل لا يزال متماديا) متجرا (في حرصه) وطمعه وتهافته (إلى آخر عمره) ولا ينبئك مثل خبير .

(ولعل ما أودعناه هذا الكتاب) من مسائل الفقه وغيرها (إن تعلمه المتعلم رغبة في الدنيا) أي: لأجل تحصيلها (فيجوز أن يرخص فيه إذ يرجى) له (أن ينزجر به) بعد (في آخر عمره فإنه مشحون بالتخويف بالله والترغيب في الآخرة والتحذير من الدنيا) وغوائها (وذلك مما يصادف في الأحاديث والآثار وتفسير القرآن ولا يصادف في كلام ولا خلاف ولا في مذهب) ولا في معرفة المدارك منه (ولا ينبغي أن يخادع الإنسان نفسه) أي: لا يعاملها بالمخادعة (فإن المقصر العالم تقصيره أسعد حالا) وأسلم عاقبة (من الجاهل المغرور) بنفسه (أو المتجاهل المغبون) الذي غبن في رأيه (وكل عالم اشتد حرصه على التعليم والتدريس يوشك أن يكون غرضه القبول والجاه) عند أرباب الأموال (وحظه تلذذ النفس بالحال باستشعار الإدلال على الجهال) من العوام الطغام (والتكبر عليهم فآفة العلم الخيلاء كما قاله - صلى الله عليه وسلم-) .

قال العراقي: المعروف ما رواه مطين في مسنده من حديث علي بن أبي طالب بسند ضعيف: آفة العلم النسيان وآفة الجمال الخيلاء اهـ .

قلت: رواه البيهقي في الشعب وابن لال في مكارم الأخلاق بلفظ: آفة الظرف الصلف، وآفة الشجاعة البغي، وآفة السماحة المن، وآفة الجمال الخيلاء، وآفة العبادة الفترة، وآفة الحديث الكذب، وآفة العلم النسيان، وآفة الحلم السفه، وآفة الحسب الفخر، وآفة الجود السرف.

(ولذلك حكي عن بشر) بن الحارث الحافي قدس سره (أنه دفن سبعة عشر قطرا من كتب الأحاديث التي سمعها) من شيوخه وأثبتها في تلك الجرائد (وكان لا يحدث) إلا قليلا (ويقول: إني لأشتهي أن أحدث؛ فلذلك لا أحدث، ولو اشتهيت أن لا أحدث لحدثت) لأن مبنى الطريق عند القوم مخالفة النفس، وقد تقدم في كتاب العلم (ولذلك قال: حدثنا وأخبرنا باب من) أبواب (الدنيا وإذا قال الرجل: حدثنا فإنما يقول: أوسعوا لي) في المجلس وانظروا إلى كتاب العلم (وقالت رابعة) بنت إسماعيل (العدوية) البصرية من خيار النساء الصالحات ترجمها أبو نعيم في الحلية (لسفيان) بن سعيد (الثوري) حين جاء زائرا لها (نعم الرجل أنت لولا رغبتك في الدنيا، قال: وفي ماذا رغبت؟ قالت: في الحديث) أي: أكثرت فيه حتى اشتهرت به؛ فرغب إليك الناس ورغبت، ولفظ القوت: قالت رابعة لسفيان: نعم الرجل أنت لولا أنك تحب الدنيا يعني الحديث والمذاكرة به لأصحاب الحديث والتفرغ لهم (ولذا قال أبو سليمان الداراني) - رحمه الله تعالى-: (من تزوج أو طلب) وفي نسخة كتب (الحديث أو اشتغل بالسفر فقد ركن إلى الدنيا) تقدم في كتاب العلم .




الخدمات العلمية