الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القسم الثالث تعارض الأشباه في الصفات التي تناط بها الأحكام .

مثاله أن يوصى بمال للفقهاء فيعلم أن الفاضل في الفقه داخل فيه وأن الذي ابتدأ التعلم من يوم أو شهر لا يدخل فيه وبينهما درجات لا تحصى يقع الشك فيها ، فالمفتي يفتي بحسب الظن والورع الاجتناب وهذا أغمض مثارات الشبهة ، فإن فيها صورا يتحير المفتي فيها تحيرا لازما لا حيلة له فيه إذ يكون المتصف بصفة في درجة متوسطة بين الدرجتين المتقابلتين لا يظهر له ميله إلى أحدهما .

وكذلك الصدقات المصروفة إلى المحتاجين ، فإن مما لا شيء له معلوم أنه محتاج ، ومن له مال كثير معلوم أنه غني ويتصدى ، بينهما مسائل غامضة كمن له دار وأثاث وثياب وكتب فإن قدر الحاجة منه لا يمنع من الصرف إليه والفاضل يمنع والحاجة ليست محدودة وإنما تدرك بالتقريب ويتعدى منه النظر في مقدار سعة الدار وأبنيتها ومقدار قيمتها لكونها في وسط البلد ووقوع الاكتفاء بدار دونها وكذلك في نوع أثاث البيت إذا كان من الصفر لا من الخزف ، وكذلك في عددها ، وكذلك في قيمتهما ، وكذلك فيما لا يحتاج إليه كل يوم ، وما يحتاج إليه كل سنة من آلات الشتاء وما لا يحتاج إليه إلا في سنين ، وشيء من ذلك لا حد له .

والوجه في هذا ما قاله عليه السلام : دع ما يريبك إلى ما لا يريبك .

كل ذلك في محل الريب إن توقف المفتي فلا وجه إلا التوقف وهو ، أهم مواقع الورع .

وكذلك ما يجب بقدر الكفاية من نفقة الأقارب وكسوة الزوجات وكفاية الفقهاء والعلماء على بيت المال إذ فيه طرفان يعلم أن أحدهما قاصر ، وأن الآخر زائد ، وبينهما أمور متشابهة تختلف باختلاف الشخص والحال .

والمطلع على الحاجات هو الله تعالى وليس للبشر وقوف على حدودها ، فما دون الرطل المكي في اليوم قاصر عن كفاية الرجل الضخم وما فوق ثلاثة أرطال زائد على الكفاية وما بينهما لا يتحقق له حد .

فليدع الورع ما يريبه وهذا جار في كل حكم نيط بسبب يعرف ذلك بلفظ العرب إذ العرب وسائر أهل اللغات لم يقدروا متضمنات اللغات بحدود محدودة تنقطع أطرافها عن مقابلاتها كلفظ الستة فإنه ، لا يحتمل ما دونها وما فوقها من الأعداد وسائر ألفاظ الحساب والتقديرات ، فليست الألفاظ اللغوية كذلك ، فلا لفظ في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ويتطرق الشك إلى أوساط في مقتضياتها تدور بين أطراف متقابلة فتعظم الحاجة إلى هذا الفن في الوصايا والأوقاف ، على الصوفية مثلا مما يصح ومن الداخل تحت موجب هذا اللفظ هذا من الغوامض فكذلك سائر الألفاظ .

وسنشير إلى مقتضى لفظ الصوفي على الخصوص ليعلم به طريق التصرف في الألفاظ ، وإلا فلا مطمع في استيفائها فهذه اشتباهات تثور من علامات متعارضة تجذب إلى طرفين متقابلين ، وكل ذلك من الشبهات يجب اجتنابها إذا لم يترجح جانب الحل بدلالة تغلب على الظن ، أو باستصحاب بموجب قوله صلى الله عليه وسلم : " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك " وبموجب سائر الأدلة التي سبق ذكرها .

فهذه مثارات الشبهات وبعضها أشد من بعض ، ولو تظاهرت شبهات شتى على شيء واحد كان الأمر أغلظ مثل أن يأخذ طعاما مختلفا فيه عوضا عن عنب باعه من خمار بعد النداء يوم الجمعة والبائع قد خالط ماله حرام وليس هو أكثر ماله ، ولكنه صار مشتبها به فقد يؤدي ترادف الشبهات إلى أن يشتد الأمر في اقتحامها فهذه مراتب عرفنا طريق الوقوف عليها وليس في قوة البشر حصرها فما اتضح من هذا الشرح أخذ به وما التبس فليجتنب ، فإن الإثم حزاز القلب .

وحيث قضينا باستفتاء القلب أردنا به حيث أباح المفتي أما حيث حرمه فيجب الامتناع .

ثم لا يعول على كل قلب ، فرب موسوس ينفر عن كل شيء ، ورب شره متساهل يطمئن إلى كل شيء ولا اعتبار بهذين القلبين وإنما الاعتبار بقلب العالم الموفق المراقب لدقائق الأحوال وهو ، المحك الذي يمتحن به خفايا الأمور وما أعز هذا القلب في القلوب فمن لم يثق بقلب نفسه فليلتمس النور من قلب هذه الصفة ، وليعرض عليه واقعته وجاء في الزبور أن الله تعالى أوحى إلى داود عليه السلام : قل لبني إسرائيل إني لا أنظر إلى صلاتكم ولا صيامكم ، ولكن أنظر إلى من شك في شيء فتركه لأجلي فذاك الذي أنظر إليه وأؤيده بنصري وأباهي به ملائكتي .

التالي السابق


(القسم الثالث تعارض الأسباب في الصفات التي بها تناط الأحكام ) ، أي: تعلق (مثال ذلك أن يوصي بمال) خاص (للفقهاء) خاصة، (فيعلم أن الفاضل في الفقه) أي: الكامل فيه (داخل فيه) ، ومصروف إليه، (وإن الذي ابتدأ التعلم) فيه (من مدة يوم أو شهر) أو أقل أو أكثر، (لا يدخل) فيه، (وبينهما درجات) متوسطة (لا تحصى) لكثرتها (يقع الشك فيها، فالمفتي بحسب الظن) والاجتهاد (والورع الاجتناب) عنه، (وهذا أغمض مثارات الشبهة، فإن فيها صورا يتحير المفتي فيها تحيرا لازما) البتة (لا حيلة فيه) ، ولا مخرج منه (إذ يكون المتصف) له فيه (بالصفة في درجة متوسطة بين الدرجتين المقابلتين لا يظهر له ميله إلى أحدهما، وكذلك الصدقات) ، والحبوس (المصروفة إلى المحتاجين، فإن من لا شيء له معلوم أنه محتاج، ومن له مال كثير معلوم أنه غني، ويتصدى بينهما مسائل غامضة) ، [ ص: 76 ] دقيقة (كمن له دار) يسكنها، (وأثاث) هو متاع البيت، (وثياب) اللبس، (وكتب) العلم الشرعي، (فإن قدر الحاجة منه لا يمنع من الصرف إليه) ، بل يعطى على قدر احتياجه، ولا يكون وجود ما ذكر مانعا له من الصرف إليه، (والفاضل) عن الحاجة (يمنع والحاجة) المذكورة (ليست محدودة) بحد خاص يقع به الاعتبار، (وإنما تدرك بالتقريب) والتمثيل، (ويتصدى منه النظر في مقدار سعة الدار وأبنيتها) هل: هي واسعة أم ضيقة؟ وهل هي عالية لبنيان مشيدته أم لا؟ (ومقدار قيمتها) هل هي غالية (لكونها في وسط البلد) لتوفر رغبات الناس إلى مثله، أم رخيصة لكونها في الأطراف؟ فإنها غالبا لا تخلو من المخاوف، (و) ينظر كذلك (في الاكتفاء بدار دونها) أي: أقل منها في السعة والبنيان وكثرة المنافع، (وكذلك) ينظر (في نوع أثاث البيت) يريد به الأواني المستعملة بدليل قوله: (إذا كان من الصفريات) أي: من معادن النحاس الأصفر أو الأحمر (لا من الخزف، وكذلك في عددها، وكذلك في قيمتها، وكذلك فيما يحتاج كل يوم، وما يحتاج إليه كل سنة كآلة الشتاء) ، في وقته من الفرش والغطاء، (وما لا يحتاج إليه إلا في سنين، وشيء من ذلك لا حد له) يوقف عليه، فيعتبر، (والوجه في مثل هذا ما قاله صلى الله عليه وسلم إذ قال: دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ) ، تقدم في الباب قبله، وفي كتاب العلم، (وكل ذلك) أي: مما ذكرنا (في محل الريب) والشك، (فإن توقف المفتي) في شيء من ذلك (فلا وجه إلا التوقف) فيه، (فإن أفتى المفتي بظن وتخمين ) وحدس، (فالورع التوقف، وهو أهم مواضع الورع، وكذلك ما يجب بقدر الكفاية من نفقة الأقارب) ، والأهلين (وكسوة الزوجات) على مال الإنسان، (وكفاية الفقهاء والعلماء على بيت المال) يصرف عليهم المتولي على ذلك (إذ فيه طرفان يعلم أن أحدهما قاصر، وأن الآخر زائد، وبينهما أمور متشابهة يختلف باختلاف الشخص و) باختلاف (الحال والمطلع على الحاجات) كلها، (هو الله تعالى وليس للبشر) أي: في قوته (وقوف) أي: اطلاع، (على حدودها، فما دون الرطل المكي في اليوم) الواحد (قاصر عن كفاية الرجل الضخم) ، أي: الجسم الأكول، والرطل بالكسر والفتح، معيار يوزن به أو يكال، والفقهاء إذا أطلقوا الرطل في الفروع فإنما يعنون الرطل البغدادي، وهو تسعون مثقالا، (وما فوق ثلاثة أرطال) بالرطل المذكور (زائد على الكفاية) من حاجته، (وما بينهما لا يتحقق له حد) محدود، (فليدع) أي: ليترك (الورع) ، أي: صاحب الورع (ما يريبه إلى ما لا يريبه) عملا بالخبر .

(وهذا جار في كل أمر نيط) أي: علق (بسبب) خاص (يعرف ذلك السبب بلفظ) دال عليه، (إذ العرب) ، بل (وسائر أهل اللغات) من الفرس والترك والروم وغيرهم (لم يقدروا متضمنات اللغات بحدود محدودة تنقطع أطرافها عن مقابلاتها كلفظ الستة مثلا، فإنها) ، أي: الستة (لا تحتمل ما دونها) كالخمسة والأربعة والثلاثة، (وما فوقها) كالسبعة والثمانية والتسعة (من الأعداد) ، وأصل الستة السدس، فأبدل وأدغم; لأنك تقول في التصغير: سديس، وعندي ستة رجال ونسوة إذا كان من كل ثلاثة، (و) كذا (سائر ألفاظ الحساب والتقديرات، فليست الألفاظ اللغوية كذلك، فلا لفظ في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم إلا ويتطرق الشك إلى أوساط في مقتضياتها تدور) تلك الأوساط (بين أطراف متقابلة) ، كما يعرف ذلك من مارس (وتعظم الحاجة إلى هذا الفن في) مسائل (الوصايا والأوقاف، فالوقف على الصوفية مثلا مما يصح) شرعا، والصوفية جماعة الصوفي، وهل الصوفي منسوب إلى الصوفة أو الصفة أو الصفا أو غير ذلك، أقوال سيأتي ذكرها في محلها بتفصيلها، (ومن الداخل تحت موجب هذا اللفظ) بفتح الجيم (هذا من الغوامض) والدقائق، (وكذلك سائر الألفاظ) كالفقهاء والعلماء [ ص: 77 ] والطلبة وغيرهم، (وسنشير) إن شاء الله تعالى (إلى مقتضى معنى لفظ الصوفية على الخصوص ليعلم به طريق التصرف في الألفاظ، وإلا فلا مطمع في استيفائها) على وجه الاستقصاء، (فهذه اشتباهات تثور من علامات) مختلفة (متعارضة تجذب إلى طرفين متقابلين، وكل ذلك من الشبهات التي يجب اجتنابها إذا لم يترجح جانب الحل بدلالة) معينة (تغلب على الظن، أو باستصحاب) حال (بموجب قوله صلى الله عليه وسلم: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" ) ، تقدم في الباب قبله وفي كتاب العلم، (وبموجب سائر الأدلة التي سبق ذكرها، فهذه مثارات الشبهات) إجمالا وتفصيلا، (وبعضها أشد من بعض، ولو تظاهرت شبهات شتى) من وجوه مختلفة وتواردت (على شيء واحد لكان الأمر أغلظ) وأشد، (مثل أن يأخذ طعاما مختلفا فيه) ، فهذه شبهة (عوضا من عنب باعه من خمار) ، فهذه شبهة ثانية (بعد النداء) أي: الأذان بعد الزوال (يوم الجمعة) ، فهذه شبهة ثالثة، (والبائع قد خالط ماله حرام وليس هو) أي: ذلك المال الذي خالطه (أكثر ماله، ولكنه صار مشتبها به) ، فهذه شبهة رابعة، وإنما قيده بما ذكر، فإنه إذا تحقق حرمة ماله، فإنه يكون حراما لا شبهة وكلامنا في الشبهات (فقد يؤدي ترادف الشبهات إلى أن يشتد الأمر في اقتحامه) أي: الدخول فيه، وفي بعض النسخ في اقتحامها، والضمير يعود على الشبهات، (فهذه مراتب عرفنا طرق الوقوف عليها) ، وفي نسخة: طريق الوقوف عليها، (وليس في قوة البشر حصرها) وضبطها، (فما اتضح من هذا الشرح أخذ به) ، وعمل به، (وما التبس) واختلط ولم يتبين أمره، (فليجتنب، فإن الإثم حزاز القلوب) يحز في الصدر ويحك فيه، (وحيث قضينا) في التقرير الذي أسلفناه (باستفتاء القلب) ، وهو الذي دل عليه حديث: استفت قلبك ، (أردنا به ما أباح المفتي) بفتواه، (أما حيث حرم فيجب الامتناع، ثم) إذا علمت ذلك فاعلم أنه (لا يعول على كل قلب، فرب موسوس ينفر عن كل شيء، ورب شره) حريص (متساهل) مسترسل (يطمئن إلى كل شيء) .

ولفظ القوت: فالحلال ما تبين وظهر وكنت فيه على يقين، واطمأن قلب المؤمن به، والحرام ضده، فهو أيضا ما تبين وانكشف وكنت على يقين، ونفر قلب المؤمن منه واشمأز، وقد يطمئن بعض القلوب إلى شيء لقلة ورعها، وقد ينفر بعض القلوب من شيء لقصور علمها، (ولا اعتبار بهذين القلبين) ، ولفظ القوت: وليس يقع بهذين القلبين اعتبار، (وإنما الاعتبار بقلب) المعيار الذي جعل كالمحك تختبر به معادن الملكوت وهو قلب (الموقن) العالم (المراقب لدقائق الأحوال، فهو المحك الذي تمتحن به خفايا) حقائق (الأمور) من عالم الملكوت، (وما أعز هذا القلب في القلوب) ، فهو كالذهب في سائر المعادن، وهو الذي رد إليه صلى الله عليه وسلم الاستفتاء، (فمن لم يثق بقلب نفسه فليلتمس النور من قلب) آخر يكون (بهذه الصفة، وليعرض عليه واقعته) ، ومن قصر علمه فليستعن بعلم غيره، فلما أخطأ حقيقته وراء ذلك، فهو معفو الخطأ، (وقيل في الزبور) وهو أحد الكتب الأربعة المنزلة، وكان نزوله بعد التوراة على سيدنا داود عليه السلام، ولفظ القوت: وروينا عن وهب بن منبه اليماني فيما نقل من الزبور: (إن الله تعالى أوحى إلى داود عليه السلام: قل لبني إسرائيل إني لا أنظر إلى صلاتكم ولا إلى صيامكم، ولكن أنظر إلى من شك في شيء فتركه لأجلي ذلك الذي أؤيده بنصري وأباهي به ملائكتي) ، أخرجه أبو نعيم في الحلية بنحوه .




الخدمات العلمية