الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ومنها أن يجتنب مخالطة الأغنياء ويختلط بالمساكين ويحسن إلى الأيتام كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول : اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا واحشرني في زمرة المساكين .

وقال كعب الأحبار كان سليمان عليه السلام في ملكه إذا دخل المسجد فرأى مسكينا جلس إليه وقال مسكين جالس مسكينا .

وقيل : ما كان من كلمة تقال لعيسى عليه السلام أحب إليه من أن يقال له : يا مسكين .

وقال كعب الأحبار ما في القرآن من " يا أيها الذين آمنوا " فهو في التوراة " يا أيها المساكين " وقال عبادة بن الصامت .

إن للنار سبعة أبواب ثلاثة للأغنياء وثلاثة للنساء وواحد للفقراء والمساكين وقال الفضيل بلغني أن نبيا من الأنبياء قال : يا رب كيف لي أن أعلم رضاك عني ؟ قال : انظر كيف رضا المساكين عنك .

وقال صلى الله عليه وسلم : إياكم ومجالسة الموتى قيل ومن الموتى : يا رسول الله ؟ قال : الأغنياء .

وقال موسى إلهي أين أبغيك قال عند المنكسرة قلوبهم .

وقال صلى الله عليه وسلم : لا تغبطن فاجرا بنعمة فإنك لا تدري إلى ما يصير بعد الموت فإن من ورائه طالبا حثيثا .

وأما اليتيم فقال صلى الله عليه وسلم : من ضم يتيما من أبوين مسلمين حتى يستغني فقد وجبت له الجنة ألبتة .

وقال صلى الله عليه وسلم : أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين وهو يشير بأصبعيه .

وقال صلى الله عليه وسلم : من وضع يده على رأس يتيم ترحما كانت له بكل شعرة تمر عليها يده حسنة .

وقال صلى الله عليه وسلم : خير بيت من المسلمين بيت فيه يتيم يحسن إليه وشر بيت من المسلمين بيت فيه يتيم يساء إليه .

التالي السابق


(ومنها أن يجتنب من مخالطة الأغنياء) أرباب الأموال (ويختلط بالمساكين) والفقراء ويعاشرهم ويجالسهم (ويحسن إلى الأيتام) وهم الذين لا أب لهم ولا أم (كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: اللهم أحيني مسكينا وأمتني) وفي لفظ: وتوفني (مسكينا واحشرني في زمرة المساكين) أي: اجمعني في جماعتهم، قال اليافعي: وناهيك بهذا شرفا للمساكين، ولو قال: واحشر المساكين في زمرتي لكفاهم شرفا فكيف وقد قال: واحشرني في زمرتهم، ثم إنه لم يسأل مسكنة ترجع للقلة بل إلى الإخبات والتواضع، ذكره البيهقي وعليه جرى المصنف كما سيأتي له فيما بعد ومنه أخذ السبكي، قوله: المراد استكانة القلب لا المسكنة التي هي نوع من الفقر فإنه أغنى الناس بالله، وسئل القاضي زكريا عن معنى هذا الحديث فقال: معناه التواضع والخضوع وأن لا يكون من الجبابرة المتكبرين والأغنياء المترفين .

قال العراقي: رواه ابن ماجه والحاكم من حديث أبي سعيد وصححه والترمذي من حديث عائشة وقال: غريب. اهـ .

قلت: رواه ابن ماجه من طريق أبي خالد الأحمر عن يزيد بن سنان عن ابن المبارك عن عطاء بن أبي رباح عن أبي سعيد الخدري قال: "أحبوا المساكين؛ فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يقول في دعائه وذكره" ورواه الطبراني في الدعاء من طريق أبي فروة يزيد بن محمد بن يزيد بن سنان الرهاوي حدثني أبي عن أبيه هو يزيد ابن سنان عن عطاء بدون واسطة بين يزيد وعطاء وبدون قول أبي سعيد وبلفظ: توفني، ويزيد بن سنان ضعيف عندهم لكن قد رواه الطبراني أيضا من طريق خالد بن يزيد بن أبي مالك عن أبيه عن عطاء بلفظ: "اللهم توفني إليك فقيرا ولا توفني إليك غنيا واحشرني إليك في زمرة المساكين يوم القيامة" وخالد، الأكثر على تضعيفه .

وكان الحاكم اعتمد توثيقه فإنه قد أخرج هذا الحديث من طريقه في الرقاق من المستدرك بزيادة: "وإن أشقى الأشقياء من اجتمع عليه فقر الدنيا وعذاب الآخرة" وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وأقره الذهبي في التلخيص، وكذا رواه البيهقي في الشعب بلفظ: "يا أيها الناس لا يحملنكم العسر على أن تطلبوا الرزق من غير حله فإني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول" وذكره بالزيادة وعند أبي الشيخ ومن طريقه الديلمي بدون قول أبي سعيد وله شواهد فرواه الترمذي في الزهد من جامعه والبيهقي في الشعب من طريق ثابت بن محمد العابد الكوفي، حدثنا الحارث بن النعمان الليثي عن أنس أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا واحشرني في زمرة المساكين يوم القيامة" فقالت عائشة: لم يا رسول الله؟ قال: "إنهم يدخلون الجنة قبل أغنيائهم بأربعين خريفا، يا عائشة لا تردي المسكين ولو بشق تمرة، يا عائشة أحبي المسكين فإن الله يقربك يوم القيامة" وقال: إنه غريب. اهـ. والحارث، قال البخاري وغيره: إنه منكر الحديث، وتردد فيه ابن حبان فذكره في الثقات وفي الضعفاء ورواه الطبراني في الدعاء من طريق بقية بن الوليد، حدثنا الثقل بن زياد عن عبيد الله بن زيادة سمعت جنادة بن أبي أمية يقول: حدثنا عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "اللهم أحيني مسكينا وتوفني مسكينا واحشرني في زمرة المساكين". [ ص: 290 ]

ورجاله موثقون، وبقية قد صرح بالتحديث ومع وجود هذه الطريق وغيرها، مما تقدم لا يحسن الحكم عليه بالوضع من ابن الجوزي وابن تيمية وقد رد عليهما الزركشي والحافظ ابن حجر والسيوطي، قال الأول: أساء ابن الجوزي بذكره له في الموضوعات، وقال الثاني: ليس كما قال: صححه الضياء في المختارة، وقال الثالث: أسرف ابن الجوزي بذكره في الموضوع، والله أعلم .

(وقيل: ما كان من كلمة تقال لعيسى -عليه السلام- أحب إليه من أن يقال له: يا مسكين) أي: إنه -عليه السلام- كان يفرح إذا خوطب بذلك ويجد له لذة لما أن المسكنة من أشرف أوصاف العبودية، وكذلك كان نبينا -صلى الله عليه وسلم- أحب ما إليه أن يقال له: يا عبد الله (وقال كعب الأحبار) -رحمه الله تعالى- (ما في القرآن) من ("يا أيها الذين آمنوا" فهو في التوراة "يا أيها المساكين") والمراد به مسكنة التواضع والإخبات لا ما يرجع إلى القلة (وقال عبادة بن الصامت) الأنصاري الأوسي -رضي الله عنه- تقدمت ترجمته (إن للنار سبعة أبواب ثلاثة) منها للأغنياء وثلاثة منها للنساء وواحد منها (للفقراء والمساكين) يشير إلى أنهم أقل الناس دخولا فيها؛ ولذلك جعل لهم باب واحد .

(وقال الفضيل) بن عياض -رحمه الله تعالى- (بلغني أن نبيا من الأنبياء قال: يا رب كيف لي أن أعلم رضاك عني؟ قال: انظر كيف رضا المساكين عنك) أخرجه أبو نعيم في الحلية .

(وقال - صلى الله عليه وسلم-: إياكم ومجالسة الموتى قيل: ومن الموتى يا رسول الله؟ قال: الأغنياء) .

قال العراقي: رواه الترمذي وضعفه والحاكم وصحح إسناده من حديث عائشة: إياك ومجالسة الأغنياء، قلت: وتعقب تصحيح الحاكم ورواه ابن سعد في الطبقات أيضا، ولفظهم: "يا عائشة إن أردت اللحوق بي فليكفك من الدنيا كزاد الراكب وإياك ومجالسة الأغنياء ولا تستخلفي ثوبا حتى ترقعيه (وقال موسى عليه السلام) في مناجاته: (إلهي أين أبغيك) أي: أطلبك (قال) ابغني (عند المنكسرة قلوبهم) أخرجه أبو نعيم في الحلية فقال: حدثنا أبو حامد، حدثنا محمد، حدثنا هارون، حدثنا سيار، حدثنا جعفر، حدثنا مالك بن دينار قال: قال موسى -عليه السلام-: يا رب أين أبغيك؟ فذكره. وقد ذكر المصنف في بداية الهداية أنه في الخبر "أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي" قلت: وكأنه من الإسرائيليات ولم يثبت رفعه عند أئمة الحديث .

(وقال -صلى الله عليه وسلم-: لا تغبطن فاجرا بنعمة) أي: لا تفرح بمثلها ولا ترج أن يكون ذلك لك (فإنك لا تدري إلى ما يصير بعد الموت) هل ينجو أم لا (فإن من ورائه طلبا حثيثا) أي: مجدا .

قال العراقي: رواه البخاري في التاريخ والطبراني في الأوسط والبيهقي في الشعب من حديث أبي هريرة بسند ضعيف اهـ .

قلت: لفظ البيهقي في الشعب: "لا تغبطن فاجرا بنعمة إن له عند الله قاتلا لا يموت" وله شاهد عند الحاكم من حديث ابن عباس "لا تغبطن جامع المال من غير حله فإنه إن تصدق لم يقبل وما بقي كان زاده في النار".

(وأما اليتيم فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: من ضم يتيما من) بين (أبوين مسلمين) أي: تكفل بمؤنته وما يحتاجه (حتى يستغني فقد وجبت له الجنة البتة) نصب على المصدر والمراد به القطع بالشيء، والمراد أنه لا بد له من الجنة وإن تقدم عذابه لا أن المراد أنه يدخلها بلا عذاب البتة، قال العراقي: رواه أحمد والطبراني من حديث مالك بن عمرو وفيه علي بن زيد بن جدعان متكلم فيه اهـ .

قلت: مالك بن عمرو هو القشيري، وقيل: الكلابي، وقيل: العقيلي، ويقال: الأنصاري، انفرد بحديثه علي بن زيد بن جدعان واختلف عليه فيه، رواه عن زرارة بن أوفى عنه، وبعض الناس فرق بينهم، وعلي بن زيد روى له مسلم مقرونا بثابت البناني والباقون إلا البخاري، وقد مات علي وثابت في سنة واحدة، ولفظ حديث مالك بن عمرو: "ومن ضم يتيما إلى طعامه وشرابه حتى يستغنى عنه وجبت له الجنة، ومن أدرك والديه أو أحدهما فدخل النار فأبعده الله" الحديث. هكذا رواه أحمد بطوله ورواه الباوردي، عن أبي بن مالك العامري.

وروى الطبراني في الأوسط من حديث عدي بن حاتم رفعه "من ضم يتيما له أو لغيره حتى يغنيه الله عنه وجبت له الجنة" وفيه المسيب بن شريك وهو متروك .

وروى الترمذي من حديث ابن عباس بسند ضعيف "من قبض يتيما من بين المسلمين إلى طعامه وشرابه أدخله الله الجنة البتة إلا أن يعمل ذنبا لا يغفر" (وقال صلى الله عليه وسلم: أنا وكافل اليتيم) أي: القائم بأمره ومصالحه هبة من مال نفسه أو من مال اليتيم كان ذا قرابة أم لا [ ص: 291 ] (في الجنة كهاتين وأشار بأصبعيه) السبابة والوسطى وفرج بينهما؛ أي: إن الكافل في الجنة مع النبي لا أن درجته تقارب درجة النبي، وفي الإشارة إشارة إلى أن بين درجته والكافل قدر تفاوت ما بين المشار به، ويحتمل أن المراد قرب المنزلة حال دخول الجنة أو المراد في سرعة الدخول؛ وذلك لما فيه من حسن الخلافة للأبوين ورحمة الصغير، وذلك مقصود عظيم في الشريعة، ومناسبة التشبيه أن النبي شأنه أن يبعث لقوم لا يعقلون أمر دينهم فيكون كافلا لهم ومرشدا ومعلما، وكافل اليتيم يقوم بكفالة من لا يعقل فيرشده ويعلمه، وهذا تنويه عظيم بفضل قبول وصية من يوصى إليه، ومحل كراهة الدخول في الوصايا أن يخاف تهمة أو ضعفا عن القيام بحقها .

قال العراقي: رواه البخاري من حديث سهل بن سعد ومسلم من حديث أبي هريرة. اهـ .

قلت: ورواه كذلك أحمد وأبو داود والترمذي من حديث سهل، ولفظهم في الجنة وهكذا ورواه مسلم أيضا من حديث عائشة وابن عمر بزيادة له أو لغيره بعد قوله: اليتيم .

(وقال -صلى الله عليه وسلم-: من وضع يده على رأس يتيم ترحما كانت له بكل شعرة تمر يده عليها حسنة) .

قال العراقي: رواه أحمد والطبراني بإسناد ضعيف من حديث أبي أمامة دون قوله: ترحما، ولابن حبان في الضعفاء من حديث ابن أبي أوفى: "من مسح يده على رأس يتيم رحمة له" الحديث اهـ .

قلت: وبلفظ المصنف: رواه ابن المبارك في الزهد عن ثابت بن عجلان بلاغا وأما حديث أبي أمامة عند أحمد والطبراني فلفظه: من مسح رأس يتيم لا يمسحه إلا لله؛ فإن له بكل شعرة مرت على يده حسنة، ومن أحسن إلى يتيمه أو يتيم غيره كنت أنا وهو في الجنة كهاتين، وفرق بين أصبعيه. وهكذا رواه ابن المبارك أيضا والحاكم وأبو نعيم في الحلية وروى الحكيم من حديث أنس بالجملة الأخيرة فقط: من أحسن إلى يتيم أو يتيمة كنت أنا وهو في الجنة كهاتين .

(وقال -صلى الله عليه وسلم-: خير بيت من) وفي رواية في (المسلمين بيت فيه يتيم) لا أبوان له ذكر أو أنثى (يحسن إليه) بالبناء للمفعول؛ أي: بالقول أو بالفعل أو بهما (وشر بيت من) وفي رواية في (المسلمين بيت فيه يتيم يساء إليه) أي: بقول أو بفعل أو بهما .

قال العراقي: رواه ابن ماجه من حديث أبي هريرة وفيه ضعف اهـ .

قلت: وكذا رواه ابن المبارك والبخاري في الأدب المفرد وأبو نعيم في الحلية بزيادة: "أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا" وقال الحافظ ابن حجر: رواه ابن ماجه من طريق زيد بن أبي عشير عن أبي هريرة، وزيد وثقه يحيى بن معين والباقون من رجال الصحيح إلا شيخ ابن ماجه وهو ثقة .

وروى العقيلي والخرائطي في مكارم الأخلاق وأبو نعيم في الحلية وابن النجار من حديث عمر بن الخطاب: خير بيوتكم بيت فيه يتيم مكرم.




الخدمات العلمية