الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وأما المعصية في العوض فله ، أيضا درجات ;

الدرجة العليا التي تشتد الكراهة فيها أن يشتري شيئا في الذمة ، ويقضي ثمنه من غصب أو مال حرام فينظر فإن سلم إليه البائع الطعام قبل قبض الثمن بطيب قلبه فأكله قبل قضاء الثمن فهو حلال وتركه ليس بواجب بالإجماع أعني قبل قضاء الثمن ولا هو أيضا من الورع المؤكد ، فإن قضى الثمن بعد الأكل من الحرام ، فكأنه لم يقض الثمن ولو لم يقضه أصلا لكان متقلدا للمظلمة بترك ذمته مرتهنة بالدين ولا ينقلب ذلك حراما .

فإن قضى الثمن من الحرام وأبرأه البائع مع العلم بأنه حرام ، فقد برئت ذمته ولم يبق عليه إلا مظلمة تصرفه في الدراهم الحرام بصرفها إلى البائع وإن أبرأه على ظن أن الثمن حلال ، فلا تحصل البراءة لأنه يبرئه مما أخذه إبراء استيفاء ولا يصلح ذلك للإيفاء .

هذا حكم المشتري والأكل منه وحكم الذمة وإن لم يسلم إليه بطيب قلب ولكن أخذه فأكله حرام سواء أكله قبل توفية الثمن من الحرام أو بعده لأن الذي تومئ الفتوى به ثبوت حق الحبس للبائع حتى يتعين ملكه بإقباض النقد كما تعين ملك المشتري ، وإنما يبطل حق حبسه إما بالإبراء أو الاستيفاء ولم يجر شيء منهما ولكنه أكل ملك نفسه وهو عاص به عصيان الراهن للطعام إذا أكله بغير إذن المرتهن وبينه وبين أكل طعام الغير فرق ولكن أصل التحريم شامل هذا كله إذا قبض قبل توفية الثمن إما بطيبة قلب البائع أو من غير طيبة قلبه .

فأما إذا وفى الثمن الحرام أولا ثم قبض فإن كان البائع عالما بأن الثمن حرام ومع هذا أقبض المبيع بطل حق حبسه ، وبقي له الثمن في ذمته إذ ما أخذه ليس بثمن ولا يصير أكل المبيع حراما بسبب بقاء الثمن فأما إذا لم يعلم أنه حرام وكانت بحيث لو علم لما رضي به ولا أقبض المبيع فحق حبسه لا يبطل بهذا التلبيس فأكله حرام تحريم أكله المرهون إلى أن يبرئه أو يوفى من حلال أو يرضى هو بالحرام ويبرئ فيصح إبراؤه ولا يصح رضاه بالحرام ، فهذا مقتضى الفقه وبيان الحكم في الدرجة الأولى من الحل والحرمة ، فأما الامتناع عنه فمن الورع المهم ; لأن المعصية إذا تمكنت من السبب الموصل إلى الشيء تشتد الكراهية فيه كما سبق وأقوى الأسباب الموصلة الثمن ، ولولا الثمن الحرام لما رضي البائع بتسليمه إليه ، فرضاه لا يخرجه عن كونه مكروها كراهية شديدة ، ولكن العدالة لا تنخرم به وتزول به درجة التقوى والورع .

ولو اشترى سلطان مثلا ثوبا أو أرضا في الذمة وقبضه برضا البائع قبل توفية الثمن وسلمه إلى فقيه أو غيره صلة أو خلعة وهو شاك في أنه سيقضي ثمنه من الحلال أو الحرام ، فهذا أخف إذ وقع الشك في تطرق المعصية إلى الثمن وتفاوت خفته بتفاوت كثرة الحرام وقلته في مال ذلك السلطان ، وما يغلب على الظن فيه وبعضه أشد من بعض والرجوع ، فيه إلى ما ينقدح في القلب .

التالي السابق


(وأما المعصية في العوض، فلها أيضا درجات ; الدرجة الأولى وهي العليا التي تشتد الكراهة فيها) ، وهو (أن يشتري شيئا في الذمة، ويقضي ثمنه) بعد (من غصب أو مال حرام فينظر) في هذه الصورة، (فإن سلم البائع إليه الطعام قبل قبض الثمن بطيب قلب) وانشراح صدر، (فأكله قبل قضاء الثمن فهو حلال) لعدم طرق شيء يحرمه عليه، (وتركه ليس بواجب بالإجماع) أي: إجماع الفقهاء (أعني قبل قضاء الثمن ولا هو أيضا من الورع المؤكد، فإن قضى الثمن بعد الأكل من) مال هو من جملة (الحرام، فكأنه لم يقض الثمن) أي: حكمه حكم من لم يقض الثمن، (ولو لم يقضه أصلا) لا من حلال ولا من حرام (لكان متقلدا للمظلمة بترك ذمته مرتهنة بالدين) مشغولة به، (ولا ينقلب ذلك حراما فإن قضى الثمن من الحرام وأبرأه البائع مع العلم بأنه) ، أي: الثمن (حرام، فقد برئت ذمته) من طرفه، (ولم يبق عليه إلا مظلمة تصرفه في الدراهم الحرام) أي: بصرفها إلى البائع، (وإن أبرأه على ظن أن الثمن حلال، فلا تحصل به البراءة لأنه يبرئه مما أخذه إبراء استيفاء) بحيث تستوفى الحقوق كلها، (ولا يصلح ذلك للاستيفاء) ; لأنه قد بقي عليه ما يخالف البراءة، (فهذا حكم المشتري والآكل منه) ، وحكم الذمة (وإن لم يسلم إليه بطيب قلب) وانشراح صدر، (ولكن أخذه) بالمحاباة، (فأكله حرام سواء أكله قبل توفية الثمن من) المال (الحرام أو بعده) أي: بعد أن يوفي له الثمن; (لأن الذي تومئ الفتوى به ثبوت حق الحبس للبائع حتى يتعين ملكه بقبض) وفي نسخة: بإقباض (اليد كما يتعين ملك المشتري، وإنما يبطل حق الحبس) للبائع (إما بالإبراء أو الاستيفاء ولم يجر شيء منهما) أي: من الإبراء والاستيفاء، (ولكن أكل ملك نفسه وهو عاص به) ، أي: بفعله مثل، (عصيان الراهن للطعام) ، وفي نسخة: بالطعام (إذا أكله بغير إذن المرتهن) أي: إذا رهن الإنسان طعاما عند غيره، فلا يجوز لذلك الإنسان التصرف فيه بالأكل أو غيره إلا إن أذن له المرتهن، (وبينه وبين أكل طعام الغير [ ص: 62 ] فرق) إذ هو كالوديعة عنده، (ولكن أصل التحريم شامل) لكونه تصرف بغير إذن (هذا كله إذا قبض) المشتري المبيع (قبل توفية الثمن) للبائع (إما بطيب قلب البائع أو من غير طيب قلبه، فأما إذا وفى الثمن الحرام أولا ثم قبض) المبيع، (فإن كان البائع عالما بأن الثمن) المدفوع إليه (حرام ومع هذا) أي: عمله بذلك (أقبض المبيع) للمشتري (بطل حق حبسه، وبقي له الثمن في ذمته إذ ما أخذه) في عوض المبيع (ليس بثمن) شرعا، (ولا يصير أكل المبيع حراما) في حق المشتري (بسبب بقاء الثمن) في الذمة، (فأما إذا لم يعلم أنه حراما وكان بحيث لو علم) به (لما رضي به ولا أقبض المبيع فحق حبسه لا يبطل بهذا التلبيس) الذي عمله المشتري، (فأكله حرام تحريم أكل المرهون) من غير إذن المرتهن (إلى أن يبرئه أو يوفي له) (من) وجه (حلال أو يرضى هو) أي: البائع (بالحرام) لنفسه (ويبرئ فيصبح إبراؤه) شرعا، (ولا يصح رضاه بالحرام، فهذا مقتضى) قواعد (الفقه وبيان الحكم في الدرجة الأولى من الحل والحرمة، فأما الامتناع عنه فمن الورع المهم; لأن المعصية إذا تمكنت في السبب الموصل إلى الشيء تشتد الكراهة فيه كما سبق) قريبا، (وأقوى الأسباب الموصلة الثمن، ولولا الثمن الحرام لما رضي البائع بتسليم المبيع إليه، فرضاه به لا يخرجه عن كونه مكروها كراهية شديدة، ولكن العدالة لا تنخرم به) أي: لا يكون به ساقط العدالة (وتزول به درجة التقوى والورع) أي: لا يعد من المتقين الورعين .

(ولو اشترى سلطان مثلا ثوبا) بعينه، (أو أرضا في الذمة وقبضه برضا البائع قبل توفية الثمن وسلمه إلى فقيه أو غيره صلة) أي: من باب الصلة (أو خلعه) عليه (وهو شاك في أنه سيقضي ثمنه من الحلال أو) من (الحرام، فهذا أخف) مما قبله (إذ وقع الشك في تطرق المعصية إلى الثمن ) ، ولم يحصل الترجيح لأحد الطرفين، (وتفاوت خفته بتفاوت كثرة الحرام وقلته في مال ذلك السلطان، وما يغلب على الظن فيه) ، فإن كان ممن يغزو في سبيل الله ولا يظلم أحدا من الرعية، فالغالب أن ماله من الغنائم وهو حلال له بعد صرفه على المستحقين، وإن كان ممن يظلم ويستوفي من رعاياه أكثر مما هو له، فالغالب على ماله الحرمة، (وبعضه أشد من بعض، فالرجوع فيه إلى ما ينقدح في القلب) ويطمئن إليه ولا ينفر منه، (والرتبة الوسطى أن لا يكون العوض غصبا وحراما) لعينه، (ولكن) يكون (سببا) موصلا (لمعصية) ظاهرة، (كما لو سلم عوضا عن الثمن عنبا والآخذ شارب خمر ) عادة، (أو سيفا وهو) أي: الآخذ (قاطع طريق) أو غلاما وسيما والآخذ ممن ينبذ بالفجور بالغلمان، (فهذا لا يوجب تحريما في بيع اشتراه في الذمة، ولكن يقتضي فيه كراهية دون الكراهة التي في الغصب) ونحوه (وتتفاوت درجات هذه الرتبة أيضا بتفاوت غلبة المعصية على قابض الثمن وندورها) أي: قلتها، (ومهما كان العوض عملا حراما، فبذله حرام، فإن احتمل تحريمه) ، أي: فإن كان تحريمه محتملا، (ولكن أبيح بظن فبذله مكروه، وعليه ينزل عندي النهي) الوارد (في كسب الحجام وكراهته) .

قال العراقي : حديث النهي عن كسب الحجام وكراهته رواه ابن ماجه من حديث ابن مسعود الأنصاري ، والنسائي من حديث أبي هريرة بإسنادين صحيحين: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كسب الحجام" . وللبخاري من حديث أبي جحيفة : نهى عن ثمن الدم . ولمسلم من حديث رافع بن خديج : كسب الحجام خبيث . اهـ .

قلت: ورواه أيضا أحمد من حديث أبي هريرة كسياق النسائي قال الهيتمي : رجاله رجال الصحيح، ولفظ البخاري من حديث أبي جحيفة في باب ثمن الكلب: نهى عن ثمن الكلب، وثمن الدم وكسب البغي ، وانفرد به الستة أي: لم يخرجه هكذا بجملته غيره وعزاه بعضهم لمسلم وهو خطأ [ ص: 63 ] ولفظ مسلم من حديث رافع بن خديج : "ثمن الكلب خبيث، ومهر البغي خبيث، وكسب الحجام خبيث" . وكذا رواه أيضا أحمد وأبو داود والترمذي (إذ) قد (نهى) عليه الصلاة و (السلام عنه مرات، ثم أمر بأن يعلف الناضح) ، وهو في الأصل البعير الذي يحمل الماء من النهر، أو البشر يستقى به، ثم استعمل في كل بعير، وإن لم يحمل الماء .

قال العراقي : رواه أبو داود والترمذي وحسنه، وابن ماجه من حديث محيصة : "أنه استأذن النبي صلى الله عليه وسلم في إجارة الحجام فنهاه عنها، فلم يزل يسأله ويستأذنه حتى قال: أعلفه ناضحك وأطعمه رقيقك" . وفي رواية لأحمد : لأنه زجر عن كسبه فقال: ألا أطعمه أيتاما لي؟ قال: لا، قال: أفلا أتصدق به؟ قال: لا، فرخص له، أن يعلفه ناضحه اهـ .

قلت: ورواه ابن منده في كتاب المعرفة من طريق حرام بن سعد بن محيصة عن أبيه، عن جده محيصة بن مسعود أنه كان له غلام يقال له: أبو طيبة ، فكسب كسبا كثيرا، فلما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كسب الحجام استشار رسول الله فيه، فأبى عليه، فلم يزل يكلمه ويذكر له الحاجة حتى قال: ليكن كسبه في بطن بهيمتك ، (وما يسبق إلى الوهم من أن سببه) أي: النهي (مباشرة النجاسة والقذر) الذي هو الدم (فاسد و) لو صح لكان (يجب طرده في الدباغين) الذين يدبغون الجلود في المدابغ (والكنافين) الذين يشتغلون بتنظيف الكنف، وهي بيوت الأخلية، (ولا قائل بذلك فإن قيل به) قياسا، (فلا يمكن طرده في القصاب) أي: الجزار (إذ كيف يكون كسبه مكروها وهو بدل عن اللحم، واللحم في نفسه غير مكروه ومخامرة القصاب للنجاسة أكثر منه للحجام والفصاد، فإن الحجام يأخذ الدم) ويمصه (بالمحجمة) ، وهي آلة الحجامة (ويمسح) موضع الدم (بالقطنة) ، وكذلك الفصاد يضرب الريشة على العرق المطلوب، ثم يسد عليه بالقطن ويربط، بخلاف القصاب فإنه يباشر الدم واللحم بيديه، (ولكن السبب أن الحجامة والفصد كل منهما جراحة ) بالحديد (هي تخريب لبنية الحيوان وإخراج لدمه وبه) أي: بالدم (قوام حياته) وعماد بدنه، (والأصل فيه التحريم، وإنما يحل) إخراجه (بضرورة) دعت وهي تبوغ الدم فقد رخص في إخراجه عنده (وتعلم الحاجة والضرورة بحدس) أي: تخمين (واجتهاد وربما يظن نافعا ويكون) في نفس الأمر (ضارا) به (فيكون حراما عند الله، ولكن حكم بحله بالظن والحدس) والرأي المجتهد، (ولذلك لا يجوز للفصاد فصد عبد ) مملوك للغير (ولا) فصد (صبي و) لا (معتوه) به شبه الجنون (إلا بإذن ولي) لهم (وقول طبيب) حاذق ماهر (ولولا أنه حلال في الظاهر لما أعطى صلى الله عليه وسلم أجرة الحجام) .

قال العراقي : متفق عليه من حديث ابن عباس (ولولا أنه محتمل للتحريم لما نهى عنه صلى الله عليه وسلم) كما تقدم في الأخبار الواردة، (ولا يمكن الجمع بين إعطائه ونهيه إلا باستنباط هذا المعنى) الدقيق، (وهذا كان ينبغي أن نذكره في القرائن المقرونة بالسبب، فإنه أقرب إليه) عند التأمل .




الخدمات العلمية