الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وكل من خالط الناس داراهم ومن داراهم راءاهم ومن راءاهم وقع فيما وقعوا فيه وهلك كما هلكوا .

وأقل ما يلزم فيه النفاق فإنك إن خالطت متعاديين ولم تلق كل واحد منهما بوجه يوافقه صرت بغيضا إليهما جميعا وإن جاملتهما كنت من شرار الناس .

وقال صلى الله عليه وسلم : تجدون من شرار الناس ذا الوجهين يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه .

وقال صلى الله عليه وسلم إن من شر الناس ذا الوجهين يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه .

وأقل ما يجب في مخالطة الناس إظهار الشوق والمبالغة فيه ولا يخلو ذلك عن كذب إما في الأصل وإما في الزيادة وإظهار الشفقة بالسؤال عن الأحوال بقولك : كيف أنت وكيف أهلك ? وأنت في الباطن فارغ القلب من همومه وهذا نفاق محض .

قال سري : لو دخل أخ لي فسويت لحيتي بيدي لدخوله لخشيت أن أكتب في جريدة المنافقين .

وكان الفضيل جالسا وحده في المسجد الحرام فجاء إليه أخ له فقال له ما جاء بك ? قال : المؤانسة يا أبا علي فقال : هي والله بالمواحشة أشبه هل تريد إلا أن تتزين لي وأتزين لك وتكذب لي وأكذب لك إما أن تقوم عني أو أقوم عنك .

وقال بعض العلماء : ما أحب الله عبدا إلا أحب أن لا يشعر به .

ودخل طاوس على الخليفة هشام فقال : كيف أنت يا هشام ؟ فغضب عليه وقال : لم لم تخاطبني بأمير المؤمنين ؟! فقال : لأن جميع المسلمين ما اتفقوا على خلافتك؛ فخشيت أن أكون كاذبا .

فمن أمكنه أن يحترز هذا الاحتراز فليخالط الناس وإلا فليرض بإثبات اسمه في جريدة المنافقين .

فقد كان السلف يتلاقون ويحترزون في قولهم : كيف أصبحت ? وكيف أمسيت ? وكيف أنت وكيف حالك ? وفي الجواب عنه .

فكان ، سؤالهم عن أحوال الدين لا عن أحوال الدنيا .

قال حاتم الأصم لحامد اللفاف كيف أنت في نفسك ? قال سالم معافى فكره حاتم جوابه وقال : يا حامد ، السلامة من وراء الصراط والعافية في الجنة .

وكان إذا قيل لعيسى صلى الله عليه وسلم : كيف أصبحت ? قال أصبحت : لا أملك تقديم ما أرجو ولا أستطيع دفع ما أحاذر وأصبحت مرتهنا بعملي ، والخير كله في يد غيري ولا فقير أفقر مني .

وكان الربيع بن خثيم إذا قيل له : كيف أصبحت ? قال أصبحت من ضعفاء مذنبين نستوفي أرزاقنا وننتظر آجالنا .

وكان أبو الدرداء إذا قيل له : كيف أصبحت ? قال : أصبحت بخير إن نجوت من النار .

وكان سفيان الثوري إذا قيل له : كيف أصبحت يقول ؟ : أصبحت أشكر ذا إلى ذا ، وأذم ذا إلى ذا ، وأفر من ذا الى ذا ، وقيل لأويس القرني كيف أصبحت قال ؟ : كيف يصبح رجل إذا أمسى لا يدري أنه يصبح وإذا أصبح لا يدري أنه يمسي ? وقيل : لمالك بن دينار كيف أصبحت قال ؟ : أصبحت في عمر ينقص وذنوب تزيد. .

وقيل : لبعض الحكماء كيف أصبحت؟ قال أصبحت لا أرضى حياتي لمماتي ولا نفسي لربي .

وقيل لحكيم كيف أصبحت؟ قال ؟ : أصبحت آكل رزق ربي وأطيع عدوه إبليس .

وقيل لمحمد بن واسع كيف أصبحت قال : ما ظنك برجل يرتحل كل يوم إلى الآخرة مرحلة .

؟ وقيل لحامد اللفاف : كيف أصبحت قال ؟ : أصبحت أشتهي عافية يوم الى الليل ، فقيل له : ألست في عافية في كل الأيام ? فقال : العافية يوم لا أعصي الله تعالى فيه .

وقيل لرجل وهو يجود بنفسه ما حالك ? فقال : وما حال من يريد سفرا بعيدا بلا زاد ويدخل قبرا موحشا بلا مؤنس وينطلق إلى ملك عدل بلا حجة .

? وقيل لحسان بن أبي سنان ما حالك قال ما ؟ : حال من يموت ثم يبعث ثم يحاسب .

التالي السابق


(وكل من خالط الناس) وعاشرهم (داراهم) أي: عاملهم بالمداراة (ومن داراهم راياهم) أي: عاملهم بالرياء (ومن راياهم وقع فيما وقعوا وهلك فيما هلكوا) نقله صاحب القوت عن الثوري وهو في الرسالة للقشيري عن يحيى بن أبي كثير إلى قوله راياهم (وأول ما يلزم فيه) أي: الرياء (النفاق) وهو إظهار ما في الباطن خلافه (فإنك إذا خالطت متعاديين) أي: شخصين كل منهما عدو للآخر (ولم تلق كل واحد منهما بوجه يوافقه) في رأيه وهواه (صرت بغيضا إليهما جميعا وإن جملتهما كنت من شرار الناس) واستثني من ذلك ما كان القصد فيه الإصلاح .

(وقال -صلى الله عليه وسلم-: تجدون من شرار الناس ذا الوجهين يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه) [ ص: 347 ] قال العراقي: متفق عليه من حديث أبي هريرة اهـ .

قلت: وكذا رواه أحمد، ولفظهم جميعا: تجدون الناس معادن فخيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا، وتجدون خير الناس في هذا الشأن أشدهم له كراهة قبل أن يقع فيه وتجدون شر الناس يوم القيامة ذا الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه يأتي هؤلاء بوجه.

(وقال -صلى الله عليه وسلم- إن من شرار الناس ذا الوجهين يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه) .

قال العراقي: رواه مسلم من حديث أبي هريرة وهو الذي قبله. اهـ. قلت: وقد تقدم ذلك في آخر كتاب قواعد العقائد وفي بعض النسخ بل أكثرها الاقتصار على الحديث الأخير (وأقل ما يجب في المخالطة للناس إظهار الشوق) لملاقاتهم (والمبالغة فيه) كأن يقول: لا أرتاح إلا برؤياك أو إني أتذكرك في كل ساعة وأمثال ذلك (ولا يخلو ذلك عن الكذب) صريح (إما في الأصل وإما في الزيادة وإظهار الشفقة في السؤال عن الأحوال) المتعلقة به (بقوله: كيف أنت وكيف أهلك؟) وربما سمى: كيف فلان وكيف فلانة (وأنت في الباطن فارغ القلب من همومه) لا تهتم له مطلقا (وهذا نفاق محض، وقال بعضهم:) هو سري السقطي -رحمه الله تعالى- (لو دخل علي رجل فسويت لحيتي) أي: أصلحتها بالمشط (لدخوله) أي: لأجله (لخشيت أن أكتب في جريدة المنافقين) أي: أحشر في زمرتهم، وقد وجد هنا في بعض النسخ زيادة، وقال ابن مسعود -رضي الله عنه-: إن الرجل منكم ليخرج من بيته فيلقى الرجل له إليه حاجة فيقول: ذيت وذيت، فيمدحه فعسى أن لا يحظى من حاجته بشيء فيرجع وقد أسخط الله عليه، ما معه من دينه شيء.

(وكان الفضيل بن عياض) -رحمه الله تعالى- (جالسا وحده في المسجد الحرام فجاء إليه أخ له) في الله تعالى (فقال له) الفضيل (ما جاء بك؟ قال: المؤانسة) أي: لأجلها (يا أبا علي) وكان الفضيل يكنى كذلك (قال: هي والله بالمواحشة أشبه) منه بالمؤانسة (هل تريد إلا أن تتزين لي) في كلامك (وأتزين لك) في كلامي (وتكذب لي وأكذب لك إما أن تقوم عني وإما أن أقوم عنك) وأخرج أبو نعيم نحوه في الحلية من طريق أحمد بن إبراهيم الدورقي، حدثنا علي بن الحسين قال: بلغ فضيلا أن جريرا يريد أن يأتيه، قال: فاقفل الباب من الخارج، فجاء جرير فرأى الباب مقفلا فرجع، قال علي: فبلغني ذلك فأتيته فقلت: جرير! فقال: ما يصنع بي يظهر لي محاسن كلامه وأظهر له محاسن كلامي فلا يتزين لي ولا أتزين له خير له.

(وقال بعض العلماء: ما أحب الله عبدا إلا أحب أن لا يشعر به) أي: لا يعلم به أي: بأن جعله خامل الذكر بين الناس لا يشار إليه بالبنان؛ فالخمول علامة حب الله للعبد .

(ودخل طاوس) بن كيسان اليماني (على الخليفة) يومئذ (هشام) بن عبد الملك الأموي (فقال: كيف أنت يا هشام؟ فغضب عليه وقال: لم لم تخاطبني بأمير المؤمنين؟! فقال: لأن جميع المسلمين لم يتفقوا على خلافتك؛ فخشيت أن أكون كذابا) تقدم نحو ذلك في الكتاب الذي قبله، وفيه: فغضب عليه هشام وقال: صرحت باسمي ولم تكنني فراجعه (فمن أمكن أن يحترز هذا الاحتراز فليخالط الناس) ويسوغ له الدخول على الملوك، وأنى له ذلك؟! (وإلا فليرض بإثبات اسمه في جريدة المنافقين) لأنه يظهر خلاف ما يبطنه .

(فقد كان السلف يتلاقون) مع بعضهم (ويحترزون في قولهم: كيف أصبحت؟ وكيف أمسيت؟) وكيف أنت؟ (وكيف حالك؟ وفي الجواب عنه، وكان سؤالهم عن أحوال الدين لا عن أحوال الدنيا) ومنهم فضيل بن عياض -رحمه الله تعالى- فقد أخرج أبو نعيم في الحلية من طريق إسحاق بن إبراهيم قال: قال رجل للفضيل: كيف أصبحت يا أبا علي؟ وكان يثقل عليه كيف أصبحت وكيف أمسيت؟ فقال: في عافية.

وفي القوت في آخر كتاب العلم ما نصه: كان الناس قديما إذا التقوا يقول أحدهم لصاحبه: ما خبرك وما حالك؟ يعنون بذلك ما خبر نفسك في مجاهدتها وصبرها؟ وما حال قلبك من مزيد الإيمان وعلم اليقين؟ ويريدون أيضا ما خبرك في المعاملة لمولاك وما حالك في أمور الدين والآخرة؟ هل ازدادت أم انتقصت؟ فيتذاكرون أحوال قلوبهم ويصفون أعمال علومهم ويذكرون ما وهب الله تعالى لهم من حسن المعاملة وما فتح لهم من غرائب الفهوم، فكان هذا من تقرير نعم الله عليهم ومن جميل شكرهم ويكون مزيدا لهم في المعرفة والمعاملة، وقد كان بعضهم يقول: أكثر علومنا ومواجيدنا يعرفه بعضنا من بعض [ ص: 348 ] وما يخبر به أحدنا أخاه إذا التقيا فقد جهل هذا اليوم فترك فهم إذا تساءلوا عن الخبر والحال إنما يريدون الدنيا وأسباب الهوى، ثم يشكو كل واحد مولاه الجليل إلى عبده الذليل، ويتسخط أحكامه ويتبرم بقضائه وينسى نفسه وما قدمت يداه فمثله، كما قال الله -عز وجل-: ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها ونسي ما قدمت يداه وكما قال تعالى: إن الإنسان لربه لكنود قيل: كفور بنعمه يعد المصائب وينسى النعم، كل ذلك جهالة بالله وغفلة عنه، ومنه قولهم الآن: كيف أمسيت؟ هذا محدث إنما كانوا إذا التقوا قالوا: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. اهـ .

(قال حاتم) بن علوان (الأصم) -رحمه الله تعالى- (لحامد اللفاف) له ذكر في الحلية في ترجمة حاتم، روى عنه فأكثر وعنه محمد بن الليث (كيف أنت في نفسك؟ قال) حامد (سالم معافى فكره حاتم جوابه) أي: لأنه على خلاف سنة السلف (وقال: يا حامد، السلامة من وراء الصراط) أي: إن نجوت من هذه العقبة (والعافية في الجنة) أراد به العافية الكاملة المقصودة بذاتها فعلى هذا كل من العافية والسلامة لا يتحصلان إلا بعد الخروج من هذا العالم .

(وكان إذا قيل لعيسى -عليه السلام-: كيف أصبحت؟ قال: لا أملك نفع ما أرجو ولا أستطيع دفع ما أحاذر وأصبحت مرتهنا بعملي، والخير كله في يد غيري فلا فقير أفقر مني) وقد ورد في المرفوع من كلام نبينا -صلى الله عليه وسلم- بلفظ: اللهم إني أصبحت لا أملك إلخ (وكان الربيع بن خثيم) بن عائذ الثوري الكوفي (إذا قيل له: كيف أصبحت؟ قال أصبحنا ضعفاء مذنبين نستوفي أرزاقنا وننتظر آجالنا، وكان أبو الدرداء) -رضي الله عنه- (إذا قيل له: كيف أصبحت؟ قال: أصبحت بخير إن نجوت من النار) وكان أيضا يقول: ما بت ليلة سلمت فيها لم أرم فيها بداهية إلا عرفتها عافية عظيمة. أخرجه أبو نعيم في الحلية .

(وكان سفيان) بن سعيد الثوري رحمه الله (إذا قيل له: كيف أصبحت؟ قال: أصبحت أشكو ذا إلى ذا، وأذم ذا إلى ذا، وأفر من ذا إلى ذا، وقيل لأويس) بن عامر (القرني) -رحمه الله تعالى- (كيف أصبحت؟ فقال: كيف يصبح رجل إذا أمسى لا يدري أنه يصبح وإذا أصبح لا يدري أنه يمسي؟ وقيل: لمالك بن دينار) أبي يحيى البصري -رحمه الله تعالى- (كيف أصبحت؟ فقال: أصبحت في عمر ينقص وذنوب تزيد. وقيل: لبعض الحكماء كيف أصبحت؟ فقال: أصبحت آكل رزق ربي وأطيع عدوه إبليس) أي: فيما يأمر من الهوى والمخالفات .

(وقيل لمحمد بن واسع) البصري -رحمه الله تعالى- (كيف أصبحت يا أبا عبد الله؟ فقال: ما ظنك برجل يرحل كل يوم إلى الآخرة مرحلة؟) أخرجه أبو نعيم في الحلية من طريق مخلد بن الحسين عن هشام بن حسان، قال: كان محمد بن واسع إذا قيل له: كيف أصبحت أبا عبد الله؟ قال: قريبا أجلي بعيدا أملي (وقيل لحامد اللفاف: كيف أصبحت؟ فقال: أصبحت أشتهي عافية يوم إلى الليل، فقيل له: ألست في عافية في كل الأيام؟ فقال: العافية يوم لا أعصي الله فيه) وهذا أخرجه أبو نعيم في ترجمة حاتم الأصم فقال: حدثنا محمد بن الحسين بن موسى قال سمعت سعيد بن أحمد البلخي يقول: سمعت خالي محمد بن الليث يقول: قال رجل لحاتم: ما تشتهي؟ قال: أشتهي عافية يوم إلى الليل، فقيل له: أليست الأيام كلها عافية؟ قال: إن عافية يومي أن لا أعصي الله فيه.

(وقيل لرجل وهو يجود بنفسه) أي: في سكرات الموت (ما حالك؟ فقال: وما حال من يريد سفرا بعيدا بلا زاد ويدخل قبرا موحشا بلا مؤنس وينطلق إلى ملك عدل بلا حجة؟ وقيل لحسان بن أبي سنان) البصري العابد الصدوق روى له البخاري في الصحيح تعليقا، وقد تقدم ذكره (ما حالك؟ فقال: وما حال من يموت ثم يبعث ثم يحاسب؟) وإليه يشير قول القائل:


ولو أنا إذا متنا تركنا لكان الموت راحة كل حي ولكنا إذا متنا بعثنا
ونسأل بعد ذا عن كل شي



وأخرج البيهقي في مناقب الشافعي من طريق الربيع بن سليمان قال: دخل المزني على الشافعي في مرضه [ ص: 349 ] الذي مات فيه فقال له: كيف أصبحت يا أستاذ؟ قال: أصبحت من الدنيا راحلا ولإخواني مفارقا ولكأس المنية شاربا وعلى الله واردا ولسوء عملي ملاقيا .

وقال أبو نعيم في الحلية: حدثنا محمد بن إبراهيم، حدثنا المفضل بن محمد، حدثنا إسحاق بن إبراهيم قال: قال رجل للفضيل: كيف أصبحت يا أبا علي؟ فقال: عن أي حال تسأل؟ عن حال الدنيا أو حال الآخرة؟ إن كنت تسأل عن حال الدنيا، قد مالت بنا وذهبت بنا كل مذهب، وإن كنت تسأل عن حال الآخرة، فكيف ترى حال من كثرت ذنوبه وضعف عمله وفني عمره ولم يتزود لمعاده ولم يتأهب للموت ولم يتضع للموت ولم يتشمر للموت ولم يتزين للموت وتزين للدنيا؟ ثم قال: هاه! وتنفس طويلا وجعل يقول: أما تذكر الموت؟ ويحك أما للموت في قلبك موضع؟ إلى آخر ما قال .




الخدمات العلمية