الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الدرجة الرابعة : النظر فيه من حيث أنه محرك للقلب ومهيج لما هو الغالب عليه .

فأقول لله تعالى سر في مناسبة النغمات الموزونة للأرواح حتى إنها لتؤثر فيها تأثيرا عجيبا .

فمن الأصوات ما يفرح ومنها ما يحزن ومنها ما ينوم ومنها ما يضحك ويطرب ومنها ما يستخرج من الأعضاء حركات على وزنها باليد والرجل والرأس .

ولا ينبغي أن يظن أن ذلك لفهم معاني الشعر بل جار في الأوتار حتى قيل من لم يحركه الربيع وأزهاره والعود وأوتاره فهو فاسد المزاج ليس له علاج .

وكيف يكون ذلك لفهم المعنى وتأثيره مشاهد في الصبي في مهده ، فإنه يسكنه الصوت الطيب عن بكائه وتنصرف نفسه عما يبكيه إلى الإصغاء إليه .

والجمل مع بلادة طبعه يتأثر بالحداء تأثرا يستخف معه الأحمال الثقيلة .

ويستقصر لقوة نشاطه في سماعه المسافات الطويلة وينبعث فيه من النشاط ما يسكره ويولهه فتراها إذا طالت عليها البوادي واعتراها الإعياء والكلال تحت المحامل والأحمال إذا سمعت منادي الحداء تمد أعناقها وتصغي إلى الحادي ناصية آذانها وتسرع في سيرها حتى تتزعزع عليها أحمالها ومحاملها وربما تتلف أنفسها من شدة السير وثقل الحمل وهي لا تشعر به لنشاطها .

فقد حكى أبو بكر محمد بن داود الدينوري المعروف بالرقي رضي الله عنه قال : كنت بالبادية فوافيت قبيلة من قبائل العرب فأضافني رجل منهم وأدخلني خباءه فرأيت في الخباء عبدا أسود مقيدا بقيد ورأيت جمالا قد ماتت بين يدي البيت وقد بقي منها جمل وهو ناحل ذابل كأنه ينزع روحه فقال لي الغلام أنت ضيف ولك حق فتشفع في إلى مولاي فإنه مكرم لضيفه فلا يرد شفاعتك في هذا القدر فعساه يحل القيد عني قال .

فلما أحضروا الطعام امتنعت وقلت : لا آكل ما لم أشفع في هذا العبد فقال إن : هذا العبد قد أفقرني وأهلك جميع مالي ، فقلت : .

ماذا فعل ? فقال : .

إن له صوتا طيبا وإني كنت أعيش من ظهور هذه الجمال فحملها أحمالا ثقالا وكان يحدو بها حتى قطعت مسيرة ثلاثة أيام في ليلة واحدة من طيب نغمته ، فلما حطت أحمالها ماتت كلها إلا هذا الجمل الواحد ولكن أنت ضيفي فلكرامتك قد وهبته لك قال فأحببت أن أسمع صوته فلما أصبحنا أمره أن يحدو على جمل يستقى الماء من بئر هناك فلما رفع صوته هام ذلك الجمل وقطع حباله ووقعت أنا على وجهي فما أظن أني سمعت قط صوتا أطيب منه .

فإذن .

التالي السابق


(الدرجة الرابعة: النظر فيه من حيث إنه محرك للقلب ومهيج لما هو الغالب عليه فأقول لله -عز وجل- سر خفي) في (مناسبة النغمات الموزونة للأرواح حتى أنها لتؤثر فيها تأثيرا عجيبا) وقد أشار كشاجم إلى ذلك في تأليفه في السماع والسهروردي في العوارف (فمن الأصوات ما يفرح) أي: يورث الفرح والسرور، (ومنها ما يحزن) أي: يورث الحزن والغم (ومنها ما ينوم) أي: يستجلب النوم والسكرة (ومنها ما يطرب) أي: يورث الطرب الزائد (ومنها ما يضحك) أي: يورث الضحك، (ومنها ما يبكي) أي: يورث البكاء (ومنها ما يستخرج من الأعضاء حركات على وزنها) وإيقاعها (باليد والرجل والرأس) فتضطرب له (ولا ينبغي أن ذلك لفهم معاني الشعر) المقول به (بل هذا جار في الأوتار) بدون أصوات (حتى قيل من لم يحركه) ، وفي نسخة: من لم يهيجه (الربيع وأزهاره والعود وأوتاره فهو فاسد المزاج) مختل التركيب (ليس له علاج) وفي نسخة: لا ينفع فيه علاج. وفي هذا المعنى قيل:


فإن كنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى فكن حجرا صلبا يدق بك النوى

وكلما لطف المزاج وخفت الروح وشرفت النفس حركتها الألحان وهزها الوجد، وكذلك الكلام الحسن والمعنى الرقيق يحرك الجسم وقد ينتهي إلى أن يصير الإنسان مغلوبا على الحركة، قال أبو منصور المتعالي في بعض كتبه: كان أبو الطيب سهل بن أبي سهل الصعلوكي يقول: ما كنت أعرف سبب رقص الصوفية حتى سمعت قول أبي الفتح البستي الكاتب فكنت أرقص طربا وعلمت أن الكلام الحسن يرقص وذلك قوله:


يقولون ذكر المرء يحيا بنسله وليس له ذكر إذا لم يكن نسل
فقلت: لهم نسلي بدائع حكمتي فإن فاتنا نسل فإنا به نسلو



(وكيف يكون ذلك لفهم المعنى وتأثيره مشاهد في الصبي وهو في مهده، فإنه يسكته الصوت الطيب عن بكائه) ويستلذ به وتنصرف النفس عما يبكيه إلى الإصغاء إليه، (و) كذلك في (في الجمل مع بلادة طبعه) وغلظ خلقته (يتأثر بالحداء تأثيرا يستخف معه الأحمال الثقيلة ويستقصر بقوة نشاطه في سماعه المسافات الطويلة)في المفاوز البعيدة (وينبعث فيه من النشاط ما يسكره ويؤلمه فترات إذا طالت عليها البراري اعتراها الإعياء) والكلال (تحت) تلك (المحامل) والشقادف والأحمال الثقيلة، (وإذا سمعت منادي الحداء تمد أعناقها وتصغي إلى) ذلك (الحادي ناصبة آذانها وتسرع في سيرها) وتخرج شقاشق جريها (حتى تتزعزع عليه محاملها) وأثقالها (وربما تتلف أنفسها في شدة السير وثقل الحمل وهي لا تشعر لنشاطها) .

وقد تكلم الطرطوشي في كتابه: الحوادث والبدع على السماع، وذكر في الإنكار أن شجنهم في السماع الجمال والأطفال، قال: فإنهم يحتجون بهم، قال صاحب الإمتاع: وهذا الذي ذكره كلام عجيب ساقط، فإن القوم لم يجعلوا ذلك حجة على الجواز دائما أبدوه شاهدا لما ذكروه من أن الاستلذاذ ليس من حيث المعنى المفهوم واحتجوا بأن من لا يفهم لا يطرب، وسبب هذا الاعتراض والإنكار ما ذكره الغافقي المالكي المقري في مصنفه في السماع من كلام ذكره وقال: إنما هم مثل البراغيث يأكلون ويرقصون، وهذه الألفاظ كلها عبارات مزوقة ومقالات غير محققة، وقد ادعى أبو هلال العسكري في كتابه "الأوائل" أن في الألحان لحنا يسمى القمي يطرب كل من يسمعه سواء فهمه أم لا، وقال كشاجم في آداب النديم: إن الغناء شيء يخص النفس دون الجسم كما أن المأكول شيء يخص الجسم دون النفس، قال: وقال العلماء: الغناء فضيلة في المنطق أشكلت على النفس وقصدت عن تبيين كنهها فأخرجتها ألحانا، قال: فأقول إنها إلى الألحان أشد إصغاء مما ظهر عندنا من سائر منطقها حرصا على معرفة غامضها وشوقا إلى استقباح متعلقها وهي [ ص: 484 ] إلى تعرف ما لا يعرف أشوق منها إلى ما عرفت، وكذلك المثل العجيب النادر من الشعر كلما دق معناه ولطف حتى يحتاج في استخراجه إلى غوار الفكر وإجالة الذهن تكون النفس إذا ظهر لها أكثر استلذاذا وأشد إصغاء منها إلى ما يفهمه أول وهلة ولا يحتاج فيه إلى نظر وفكر، وليس ذلك إلا لشرفها وبعد غايتها .

قال الشاعر يصف كلام امرأة:


وحديث ألذه وهو مما يشتهي السامعون يوزن وزنا
منطق بارع وتلحن ألحانا وأحلى الحديث ما كان لحنا



والمراد باللحن هنا المعنى الغامض اللطيف الذي يستخرج بالفطنة والذكاء، قال ويقال: إن الألحان أشرف المنطق فكذلك نفس الطروب أشرف النفوس، وكل ذي ذهن لطيف ونفس فاضلة أحرص على السماع والمشاكلة، قال كشاجم: وكتبت إلى بعض من كان يزهد في السماع وينكر فضله بهذه الأبيات:


إن كنت تنكر أن في الألحـ ـان فائدة ونفعا
انظر إلى الإبل اللوا تي هن أغلظ منك طبعا
تصغي لأصوات الحد اة فتقطع الفلوات قطعا
ومن العجائب أنهم يظمونها خمسا وربعا
وإذا توردت الحيا ض وحاولت في الماء كرعا
وتشوقت للصوت من حاد تصيخ إليه سمعا
ذهلت عن الماء الذي تلتذه بردا ونفعا
شوقا إلى النغم الذي أطربنها لحنا وسجعا



قال: وقد وجدناه يؤنس الوحيد ويهيج النفوس ويقوي الحس اهـ. وقالت الحكماء: السماع يستنهض العاجز ويستحلب الغائب من الأفكار، ويحيد الكلال عن الأذهان، قال ابن قتيبة: الغناء يروق الذهن ويلين العريكة ويهيج النفس ويجلي الدم ويلائم أصحاب العلل الغليظة، وينفعهم النفع التام ويزيد في فضائل النفس، قال: وكان الحكماء أهل الهند يصفونه لبعض الأمراض، وذكر أبو علي بن سينا في كليات القانون ما معناه أنه يجب في تربية الأطفال أن يؤخذوا بالألحان، وذكر مناسبة الأنغام والنقرات والقبض، وذكر ابن حزم في رسالته: إن الأوائل وصفوا أنها ثلاثة أنواع: منها نوع يشجع الجبان ونوع يسخي البخيل، ونوع يؤلف النفوس وينفر، وقال غيره: حلاوة الأنغام ولذتها يعرفها أرباب الأحوال وأهل اللطافة، وكلما كان حجاب النفس خفيفا كان أشد استلذاذا وأكثر تأثرا كلما كانت القلوب عامرة حركتها الأنغام، والله أعلم، هذا كله سياق صاحب الإمتاع .

(فقد حكى أبو بكر محمد بن داود الدينوري المعروف بالرقي) من كبار العارفين أصحاب الأحوال، أقام بالشام وعاش أكثر من مائة سنة، مات بعد الخمسين وثلاثمائة صحب ابن الجلاء والدقاق، ولفظ الرسالة: أخبرنا أبو حاتم السجستاني قال: أخبرنا عبد الله بن علي السراج قال: حكى أبو بكر محمد بن داود الدينوري الرقي (قال: كنت في البادية فوافيت قبيلة من قبائل العرب فأضافني رجل منهم وأدخلني خباء فرأيت في الخباء) أي: في طرفه (عبدا أسود مقيدا بقيد ورأيت جمالا قد ماتت بين يدي البيت) ، ولفظ الرسالة: بفناء البيت (وقد بقي منها جمل وهو ناهل ذابل) قد سقطت قوته (كأنه ينزع روحه) من شدة الضعف والكلال (فقال) لي (الغلام) وهو ذاك الأسود المقيد (أنت) الليلة (ضيف) عند مولاي (ولك حق) عليه (فاشفع في إلى مولاي فإنه مكرم لضيفه ولا يرد شفاعتك فعساه يحل القيد عني) ولفظ الرسالة: أنت الليلة ضيف وأنت على مولاي كريم، فتشفع لي فإنه لا يردك، (فلما أحضروا الطعام امتنعت وقلت: لا آكل ما لم أشفع في هذا العبد) ولفظ الرسالة: فقلت لصاحب البيت: لا آكل طعامك حتى تحل هذا العبد، (فقال: هذا العبد قد أفقرني وأهلك) ولفظ الرسالة: وأتلف (جميع مالي، فقلت: ماذا فعل؟) ولفظ الرسالة فقلت: فما فعل؟ (فقال: إن له صوتا طيبا وإني كنت أعيش) بما أكتسبه (من ظهور هذه الجمال فحملها أحمالا ثقيلة وكان يحدو بها) ولفظ الرسالة: ثقيلة وحدا بها (حتى قطع مسيرة ثلاث ليال في ليلة) واحدة [ ص: 485 ] ولفظ الرسالة: مسيرة ثلاثة أيام في يوم واحد (من طيب نغمته، فلما حملت أحمالها ماتت كلها إلا هذا الجمل الواحد) ولفظ الرسالة: فلما حطت عنها ماتت كلها، (ولكن أنت ضيفي فلكرامتك قد وهبته) أي: ذنبه (لك) وقبلت شفاعتك فيه. ولفظ الرسالة: ولكن قد وهبته لك وحل عنه القيد (قال فأحببت أن أسمع صوته فلما أصبحنا أمره) ولفظ الرسالة: فلما أصبحنا أحببت أن أسمع صوته فسألته ذلك فأصر الغلام أن يحدو (على جمل) كان (يستقي الماء في بئر هناك) ، ولفظ الرسالة: على جمل كان هناك على بئر يستقي عليه، (فلما رفع صوته هام الجمل) على وجهه (وقطع حباله ووقعت أنا على وجهي فما أظن أني سمعت صوتا قط أطيب منه) ، ولفظ الرسالة: فحدا فهام الجمل على وجهه وقطع حباله، ولم أظن أني سمعت صوتا أطيب منه فوقعت لوجهي حتى أشار عليه بالسكون. ونقضه القرطبي في كشف القناع فقال: إن كل ما ذكروه فلا ننكره فإنه ليس موضع الخلاف غير قولهم ولم يفرقوا في ذلك بين الأصوات المطربة ولا غيرها، فإنا نمنع ذلك ونسند المنع للأدلة المتقدمة ثم إن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد فرق بين المطرب وغيره حيث قال لأنجشة: رويدك سوقا بالقوارير، فقد منعه من الإطراب ونص على تعليل المنع وإن كانت القوارير المراد بها النساء، فنهاه مخافة الفتنة عليهن فإن الغناء رقية الزيادات كان كني به عن الإبل فنهاه مخافة إتلاف المال، وكيفما كان فقد منعه من التزيين المطرب الذي يؤثر فسادا، وهو الذي منعناه في أول المسألة .

وتحصل من هذا الجواب عن حكاية الرقي أن ذلك العبد عصى بإتلاف مال سيده ولا فرق بين إتلافها بالنحر بغير إذن سيده بل وأقول: إنه لا يحل سماع مثل ذلك الحداء فإنه يهلك الأموال ويتلف النفوس ويغيب العقول، فقد زاد هذا الخمر بإتلاف النفوس وهو أولى بالتحريم، وأما إنشاد الأشعار فما في ذلك منع ولا إنكار لكن على الوجه الصحيح فإن الشعر كلام حسنه حسن وقبيحه قبيح . اهـ. كلامه .



فصل

قد ذكر الشيخ شهاب الدين بن السهروردي في العوارف وجهين في التناسب فقال: اعلم أن الوجد يشعر بسابقة فقد، فمن لم يفقد لم يجد وإن كان الفقد لمزاحمة وجود العبد بوجود صفاته وبقاياه، فلو تمحض عبدا تمحض حرا، ومن تمحض حرا أفلت من شرك الوجد، فشرك الوجد يصطاد البقايا لتخلف شيء من العطايا .

قال الحصري -رحمه الله تعالى-: ما أدون حال من يحتاج إلى مزعج يزعجه، فالوجد في السماع في حق المحق كالوجد بالسماع في حق المبطل من حيث النظر إلى انزعاجه وتأثر الباطن وهو ظهور أثره على الظاهر وتغييره للعبد من حال إلى حال، وإنما يختلف الحال بين المحق والمبطل أن المبطل يجد لوجود هوى النفس، والمحق يجد لوجود إرادة القلب، فالمبطل محجوب بحجاب النفس والمحق محجوب بحجاب القلب، وحجاب النفس حجاب أرضي ظلماني وحجاب القلب حجاب سماوي نوراني، ومن لم يفقد بدوام التحقق بالشهوة فلا يتعثر بأذيال الوجود، ولا يجد ولا يسمع، ومن هذه المطالعة قال بعضهم:... أنا ردم كله لا ننقذ في قول .

ومر ممشاد الدينوري -رحمه الله تعالى- بقوم فيهم قوال، فلما رأوه أمسكوا فقال: ارجعوا إلى ما كنتم فيه فلو جمعت ملاهي الدنيا في أذني ما شغل همي ولا شفى بعض ما بي، فالوجد صراخ المبتلى بالنفس تارة في حق المبطل وبالقلب تارة في حق المحق، فمثار الوجد الروح الروحاني في حق المبطل والمحق يكون الوجد تارة من قبيل فهم المعاني تشارك النفس الروح في السماع، ولكن في حق المبطل تسترق النفس السمع، وفي حق المحق تسترق القلب السمع، ووجه استلذاذ الروح بالنغمات أن العالم الروحاني يجمع الحسن والجمال، ووجود التناسب في الهياكل والصور ميزان الروحانية فمتى سمع الروح النغمات اللذيذة والألحان المتناسبة تأثر به لوجود الجنسية ثم يتقيد ذلك بالشرع لمصالح عالم الحكمة، ورعاية الحدود للعبد عين المصلحة عاجلا وآجلا، ووجه آخر إنما تستلذ الروح النغمات; لأن النغمات بها تحادث النفس مع الروح بالإيماء الخفي إشارة ورمزا [ ص: 486 ] بين المتعاشقين، والنفوس والأرواح تعاشق أصلي ينزع ذلك إلى أنوثة النفس وذكورة الروح، والميل والتعاشق بين الذكر والأنثى بالطبيعة واقع، قال الله تعالى: وجعل منها زوجها ليسكن إليها وفي قوله: "منها" إشعار بتلازم وتلاصق موجب للائتلاف والتعاشق، والنغمات تستلذها الروح لأنها مناغات بين المتعاشقين، وكما أن في عالم الحكمة كونت حواء من آدم كذلك في عالم القدرة كونت النفس من الروح، فهذا التآلف من هذا الأصل، وذلك أن النفس روح حيواني تجنس بالقرب من الروح الروحاني وتجنسها بأن امتازت من أرواح جنس الحيوان بشرف القرب من الروح فصار نفسا، فإذا تكون النفس في الروح الروحاني في عالم القدرة لتكون حواء من آدم في عالم الحكمة، فهذا التآلف والتعاشق ونسبة الأنوثة والذكورة من ههنا ظهر، وبهذا الطريق استطاب الروح النغمات لأنها مراسلات بين المتعاشقين ومكالمة بينهما، وقد قال القائل:


تكلم منا في الوجود عيوننا ونحن سكوت والهوى يتكلم



فإذا استلذ الروح النغمة وتحركت بما فيها بحدوث الروح النغمة وجدت النفس المعادلة بالهوى وتحركت بما فيها الحدوث العوارض ووجد القلب المعلول بالإرادة وتحرك بما فيه لوجود العارض في الروح:

وللأرض من كان الكرام نصيب

فنفس المبطل أرض لسماء قلبه، وقلب المحق أرض لسماء روحه، فالبالغ مبلغ الرجال والمتجوهر المتجرد عن أغراض الأحوال خلع نعلي النفس والقلب بالوادي المقدس، وهو في مقعد صدق عند مليك مقتدر، استقر وغرس وأحرق بنور العيان أجرام الألحان، ولم تصغ روحه إلى مناغات عاشقة لشغله بمطالعة آثار محبوبه .

والهائم المشتاق لا يستكشف ظلامة العشاق، ومن هذا حاله لا يحركه السماع رأسا، وإذا كانت الألحان لا تلحق هذا الروح مع لطافة مناجاتها وخفي لطف مناغاتها كيف يلحقه السماع بطريق فهم المعاني وهو أكثف، ومن يضعف عن حمل لطيف الإشارات كيف يتحمل ثقل أعباء العبارات. اهـ. سياقه وهو حسن .




الخدمات العلمية