الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
فأما الدعاء بالحراسة وطول البقاء وإسباغ النعمة مع الخطاب بالمولى وما في معناه فغير جائز ، قال صلى الله عليه وسلم : من دعا لظالم بالبقاء ، فقد أحب أن يعصي الله في أرضه .

فإن جاوز الدعاء إلى الثناء فسيذكر ما ليس فيه فيكون به كاذبا ومنافقا ومكرما لظالم وهذه ثلاث معاص .

وقد قال صلى الله عليه وسلم : إن الله ليغضب إذا مدح الفاسق .

وفي خبر آخر : من أكرم فاسقا فقد أعان على هدم الإسلام .

فإن جاوز ذلك إلى التصديق له فيما يقول والتزكية والثناء على ما يعمل كان عاصيا بالتصديق والإعانة ، فإن التزكية والثناء إعانة على المعصية وتحريك للرغبة فيه كما أن التكذيب والذم والتقبيح زجر عنه وتضعيف لدواعيه .

والإعانة على المعصية معصية ولو بشطر كلمة .

ولقد سئل سفيان الثوري رضي الله عنه عن ظالم أشرف على الهلاك في برية هل يسقى شربة ماء ؟ فقال : لا دعه حتى يموت فإن ذلك إعانة له .

وقال غيره : يسقى إلى أن تثوب إليه نفسه ثم يعرض عنه .

فإن جاوز ذلك إلى إظهار الحب والشوق إلى لقائه وطول بقائه فإن كان كاذبا عصى معصية الكذب والنفاق ، وإن كان صادقا عصى بحبه بقاء الظالم ، وحقه أن يبغضه في الله ويمقته .

فالبغض في الله واجب ومحب المعصية والراضي بها عاص ومن أحب ظالما فإن أحبه لظلمه فهو عاص لمحبته وإن أحبه لسبب آخر فهو عاص من حيث إنه لم يبغضه وكان الواجب عليه أن يبغضه .

وإن اجتمع في شخص خير وشر وجب أن يحب لأجل ذلك الخير ويبغض لأجل ذلك الشر وسيأتي في كتاب الإخوة والمتحابين في الله وجه الجمع بين البغض والحب .

فإن سلم من ذلك كله وهيهات ، فلا يسلم من فساد يتطرق إلى قلبه ، فإنه ينظر إلى توسعه في النعمة ويزدري نعم الله عليه ويكون مقتحما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال : يا معشر المهاجرين لا تدخلوا على أهل الدنيا ، فإنها مسخطة للرزق .

وهذا مع ما فيه من اقتداء غيره به في الدخول ومن تكثيره سواد الظلمة بنفسه وتجميله إياهم إن كان ممن يتجمل به ، وكل ذلك إما مكروهات أو محظورات .

دعي ، سعيد بن المسيب إلى البيعة للوليد وسليمان ابني عبد الملك بن مروان فقال لا أبايع اثنين ما اختلف الليل والنهار ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيعتين .

فقال : ادخل من الباب واخرج من الباب الآخر فقال لا ، والله لا يتقدي بي أحد من الناس فجلد مائة وألبس المسوح .

ولا يجوز الدخول عليهم إلا بعذرين ; أحدهما أن يكون من جهتهم أمر إلزام لا أمر إكرام وعلم أنه لو امتنع أوذي أو أفسد عليهم طاعة الرعية واضطرب عليهم أمر السياسة ، فيجب عليه الإجابة لا طاعة لهم بل مراعاة لمصلحة الخلق حتى لا تضطرب الولاية .

والثاني أن يدخل عليهم في دفع ظلم عن مسلم سواه ، أو عن نفسه ، إما بطريق الحسبة أو بطريق التظلم فذلك رخصة بشرط أن لا يكذب ولا يثني ولا يدع نصيحة يتوقع لها قبولا فهذا حكم الدخول .

التالي السابق


(وأما الدعاء بالحراسة وطول البقاء وإسباغ النعمة ) وإتمامها ودوامها عليه (مع الخطاب بالمولى وما في معناه) من ألفاظ التعظيم، (فغير جائز، قال صلى الله عليه وسلم: من دعا لظالم بالبقاء، فقد أحب أن يعصي الله في أرضه ) تقدم الكلام عليه في آخر كتاب الكسب، وسيأتي له في آفات اللسان أنه من قول الحسن وهو الصواب، (فإن جاوز الدعاء إلى الثناء فذكر ما ليس فيه) من تلك الأوصاف التي يستحق بها الثناء، (كان بذلك كاذبا ومنافقا ومكرما لظالم) ، أما كذبه فظاهر، وأما نفاقه فلأنه يظهر له خلاف ما يضمره في باطنه، وأما إكرامه فلأنه ما اختار الكذب والنفاق إلا استجلاب رضاه، فهو إكرام له، (وهذه ثلاثة معاص) ظاهرة .

(وقد قال صلى الله عليه وسلم: إن الله ليغضب إذا مدح الفاسق ) ، تقدم الكلام عليه أيضا في آخر كتاب الكسب، (وفي خبر آخر: من أكرم فاسقا فقد أعان على هدم الإسلام ) ، تقدم الكلام عليه أيضا في آخر كتاب الكسب، (فإن جاوز ذلك إلى التصديق له فيما يقوله كان عاصيا بالتصديق والإعانة، فإن التزكية والثناء إعانة على الظلم والمعصية) ، وإبقاء له عليها، (وتحريك للرغبة فيه كما أن التكذيب والمذمة والتقبيح) لما يفعله ويقوله (زجر عنها وتضعيف لدواعيها) وإماتة لبواعثها، (والإعانة على المعصية معصية) ، كما أن الإعانة على الطاعة طاعة، (ولو بشطر كلمة) ، فقد روى الديلمي من حديث أنس : "من أعان ظالما على ظلمه [ ص: 134 ] جاء يوم القيامة وعلى جبهته مكتوب آيس من رحمة الله .

وروى الحاكم في تاريخه من حديث ابن مسعود : "من أعان على الظلم فهو كالبعير المتردي في الركن ينزع بذنبه" .

وروى ابن ماجه والحاكم والرامهرمزي في الأمثال من حديث ابن عمر : "من أعان على خصومة بظلم أو معين على ظلم، لم يزل في سخط الله حتى ينزع" .

وروى ابن عساكر من حديث ابن مسعود : "من أعان ظالما سلطه الله عليه" ، (ولقد سئل سفيان) الثوري رحمه الله تعالى (عن ظالم أشرف على الهلاك في برية هل يسقى شربة ماء؟ فقال: لا، قيل له: يموت، فقال: دعه يموت) ، وإنما قال ذلك مع أن في كل كبد حار رطبة أجر; (لأن ذلك إعانة له على ظلمه) ، فهلاكه أولى، وهذا فيه تشديد، (قال غيره:) بل (يسقى إلى أن تثوب) أي: ترجع (إليه نفسه ثم يعرض عنه) ، وهذا أوفق بفتوى الظاهر، (فإن جاوز ذلك إلى إظهار الحب) والميل الباطني (والشوق إلى لقائه) من مدة (وطول بقائه) مع الصحة والعافية، (فإن كان) في ذلك (كاذبا عصى بمعصية الكذب والنفاق، وإن كان) فيه (صادقا عصى بحبه بقاء ظالم، وحقه أن يبغضه في الله تعالى ويمقته) ظاهرا وباطنا، (فالبغض في الله واجب) كما أن الحب في الله كذلك، (ومحب المعصية والراضي بها عاص) عند الله تعالى، (ومن أحب ظالما فقد أحبه لظلمه) ، أي: لأجل ظلمه، وإلا فليس للظالم ما يحب لأجله، (فهو عاص بمحبته) له، (وإن أحبه لسبب آخر) كأن أعانه في واقعة أو دفع عمن يلوذ به مظلمة، (فهو عاص من حيث إنه لم يبغضه) في الله عز وجل، (وكان الواجب عليه أن يبغضه) لأجل ظلمه، (وإن اجتمع في شخص واحد شر وخير وجب أن يحب لأجل ذلك الخير ويبغض لأجل ذلك الشر) ، وفي هذا المقام يجتمع الحب والبغض معا، (وسيأتي في كتاب الأخوة) الإلهية (والمتحابين في الله وجه الجمع بين البغض والحب، فإن ساعده التوفيق وسلم من ذلك كله، فلا يسلم من فساد يتطرق إلى قلبه، فإنه ينظر إلى توسعه في النعمة) الظاهرة وحسن تجمله في محفله وحشمه، (فيزدري) أي: يحتقر، (نعم الله عليه) ; لأن الإنسان غيور حسود بالطبع، فإذا نظر إلى ما أنعم الله به على غيره حملته الغيرة والحسد على الكفران والسخط، (ويكون مقتحما) أي: مرتكبا (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: يا معشر المهاجرين والأنصار لا تدخلوا على أهل الدنيا، فإنها مسخطة للرزق ) .

قال العراقي : رواه الحاكم من حديث عبد الله بن الشخير : "أقلوا الدخول على الأغنياء، فإنه أجد ولا تزدروا نعم الله عز وجل" ، وقال: صحيح الإسناد اهـ .

قلت: وأخره الذهبي .

وقد رواه أيضا أحمد وأبو داود والنسائي وعبر بأقلوا، ولم يقل: لا تدخلوا; لأنه قد تدعو الحاجة إلى الدخول عليهم .

قال ابن عون : صحبت الأغنياء فلم أجد أكثر هما مني، أرى دابة خيرا من دابتي وثوبا خيرا من ثوبي، وصحبت الفقراء فاسترحت" . وقوله: فإنها مسخطة، أي: يحملكم على السخط والكفران، (هذا مع ما فيه من اقتداء غيره به في الدخول) لا سيما إن كان معتقدا، (ومن يكثر سواد الظلمة بنفسه) ، فمن كثر سواد قوم فهو منهم، (وتجميله إياهم إن كان ممن يتجمل به، وكل ذلك إما مكروه، وإما محظور، ودعي سعيد بن المسيب ) رحمه الله (إلى البيعة للوليد وسليمان بن عبد الملك بن مروان) بن الحكم بن أبي العاص الأموي بعد أبيهما على وجه الاشتراك، وكان الداعي له هو والدهما عبد الملك، (فقال) سعيد: (لا أبايع اثنين ما اختلف الليل والنهار، فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيعتين، فقال: ادخل من الباب واخرج من الباب الآخر، قال) عبد الملك : (والله لا يقتدي بك أحد من الناس) أي: في الامتناع عن البيعة، وفي نسخة: لا يقتدي بي، فيكون ضميرا راجعا إلى سعيد ، (فجلد مائة وألبس المسوح) جمع مسح بالكسر، وهو الكساء الأسود، قال العراقي : رواه أبو نعيم في الحلية بإسناد صحيح اهـ .

قلت: وحديث: نهى عن بيعتين، رواه الترمذي والنسائي في البيوع المنهية من حديث أبي هريرة بزيادة: في بيعة، وقوله: بيعتين بالكسر نظرا للهيئة، وبالفتح نظرا للمرة، ورجح الزركشي الكسر، فإن كان الذي ذكره سعيد هو هذا الحديث فلا يدل على المطلوب; لأن المقصود النهي عن بيعة الخليفتين، لا أن يبيع رجلا شيئا على أن يشتري منه شيئا آخر، فتأمل ذلك، مات سعيد في خلافة [ ص: 135 ] الوليد سنة أربع وتسعين، وقرأت في كتاب خلاصة التواريخ سنة خمس وثمانين فيها عزم عبد الملك على خلع عبد العزيز أخيه وتصيير العهد لابنيه الوليد وسليمان بعده، فهو في ذلك إذ أتاه نعي عبد العزيز من بلاد مصر في جمادى هذه السنة، فحزن عليه وشاور الناس في البيعة لابنيه فأشاروا بعقدها لهما، وأخذ البيعة لهما بحضرته، وكتب إلى سائر الأمصار فأخذها، فبويع لهما في سائر بلدان الإسلام إلا سعيد بن المسيب ، فإنه امتنع من البيعة لهما وقال: لا أبايعهما وعبد الملك حي، فأخذه هشام بن إسماعيل ، وكان عامل عبد الملك بالمدينة فضربه ستين صوتا وحبسه، فبلغ ذلك عبد الملك فقال: قبح الله هشاما ، كان ينبغي أن يعرض عليه البيعة إن امتنع أن يضرب عنقه أو يصرفه، ثم أمره بإطلاقه.

(فلا يجوز الدخول عليهم إلا من عذرين; أحدهما أن يكون من جهتهم أمر إلزام) منهم (لا أمر إكرام وعلم) ، ومع ذلك إنه (لو امتنع) من الذهاب إليهم (أوذي) في الحال أو في المآل، (أو) رأى امتناعه (يفسد طاعة الرعية واضطراب أمر السياسة، فيجب عليه حينئذ الإجابة) لداعيه، (لا طاعة لهم) لكونهم أولياء الأمر، (بل مراعاة لمصلحة الخلق حتى لا تضطرب الولاية) بسببه. (الثاني أن يدخل عليهم في دفع ظلم عن مسلم سواه، أو عن نفسه، إما بطريق الحسبة) ، أي: احتسابا لله تعالى، (أو بطريق التظلم) ، أي: التشكي عن الظلم، (ففي ذلك رخصة) شرعية، ولكن بشرط (أن لا يكذب) في حديثه، (ولا يثني) عليه ما ليس فيه، (ولا يدع نصيحة يتوقع لها قبولا) بالأمارات الظاهرة من أحواله، (فهذا حكم الدخول) عليهم .




الخدمات العلمية