الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وبالجملة فينبغي أن تكون حاجة أخيك مثل حاجتك أو أهم من حاجتك وأن تكون متفقدا لأوقات الحاجة غير غافل عن أحواله كما لا تغفل عن أحوال نفسك وتغنيه عن السؤال وإظهار الحاجة إلى الاستعانة بل تقوم بحاجته كأنك لا تدري أنك قمت بها ولا ترى لنفسك حقا بسبب قيامك بها بل تتقلد منه بقبوله سعيك في حقه وقيامك بأمره .

ولا ينبغي أن تقتصر على قضاء الحاجة بل تجتهد في البداية بالإكرام في الزيادة والإيثار والتقديم على الأقارب والولد .

كان الحسن يقول إخواننا أحب إلينا من أهلنا وأولادنا لأن أهلنا يذكروننا بالدنيا وإخواننا يذكروننا بالآخرة .

وقال الحسن من شيع أخاه في الله بعث الله ملائكة من تحت عرشه يوم القيامة يشيعونه إلى الجنة .

وفي الأثر : ما زار رجل أخا في الله شوقا إلى لقائه إلا ناداه ملك من خلفه : طبت وطابت لك الجنة .

وقال عطاء تفقدوا إخوانكم بعد ثلاث فإن كانوا مرضى فعودوهم أو مشاغيل فأعينوهم أو كانوا نسوا فذكروهم .

وروي أن ابن عمر كان يلتفت يمينا وشمالا بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عن ذلك فقال أحببت رجلا فأنا أطلبه ولا أراه فقال إذا أحببت أحدا فسله عن اسمه واسم أبيه وعن منزله ، فإن كان مريضا عدته وإن كان مشغولا أعنته .

وفي رواية وعن اسم جده وعشيرته .

وقال الشعبي في الرجل يجالس الرجل فيقول : أعرف وجهه ولا أعرف اسمه ، تلك معرفة النوكى .

وقيل لابن عباس من أحب الناس إليك ؟ قال : جليسي وقال : ما اختلف رجل إلى مجلسي ثلاثا من غير حاجة له إلي فعلمت ما مكافأته من الدنيا .

وقال سعيد بن العاص لجليسي علي ثلاث : إذا دنا رحبت به ، وإذا حدث أقبلت عليه ، وإذا جلس أوسعت له .

وقد قال تعالى: رحماء بينهم إشارة إلى الشفقة والإكرام .

ومن تمام الشفقة أن لا ينفرد بطعام لذيذ أو بحضور في مسرة دونه بل يتنغض لفراقه ويستوحش بانفراده عن أخيه .

التالي السابق


(وبالجملة فينبغي أن تكون حاجة أخيك مثل حاجتك أو أهم من حاجتك وأن تكون متفقد الأوقات الحاجة غير غافل عن أحواله كما لا تغفل عن أحوال نفسك وتغنيه عن السؤال) ابتداء منه (وإظهار الحاجة إلى الاستعانة) بك (بل تقوم لحاجتك كأنك لا تدري أنك قمت بها ولا ترى لنفسك حقا) عليه (بسبب قيامك) بتلك الحاجة (بل تتقلد منه بقبوله سعيك في حقه وقيامك بأمره) وأنه له الفضل في ذلك (ولا ينبغي أن تقتصر على قضاء الحاجة) فقط (بل تجتهد في البداية بالإكرام في الزيارة) وفي نسخة بالزيادة (والإيثار والتقديم على الأقارب والولد، كان الحسن) البصري رحمه الله تعالى (يقول إخواننا) في الله تعالى (أحب إلينا من أهلينا وأولادنا لأن أهلينا) وأولادنا (يذكروننا بالدنيا وإخواننا يذكروننا بالآخرة) كذا في القوت، ولفظه: وكان الحسن وأبو قلابة يقولان: إخواننا أحب إلينا من أهلينا وأولادنا إلى آخره .

وقال أحدهما: لأن الأهل والولد من الدنيا والإخوان في الله من آلة الآخرة وفي موضع آخر فينبغي أن يؤثر أخاه بنفسه وماله إن احتاج إلى ذلك، فإن لم يكن هناك فيساويه منه، وهذا أقل منازل الأخوة، وهو من أخلاق المؤمنين، وإنما آخى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين الغني والفقير ليساوي الغني الفقير فيعتدلان، وينبغي أن يقدمه على أهله وولده وأن يحبه فوق محبتهم؛ لأن محبة أولئك من الدنيا وللنفس والهوى، ومحبة الإخوان من الآخرة ولله تبارك وتعالى وفي الدين، وأمور الدين والآخرة مقدمة عند المتقين .

وكان عبد الله بن الحسن البصري يصرف إخوان الحسن إذا جاءوا لطول لبثهم عنده ولشدة شغله بهم فيقول لهم: لا تملوا الشيخ، فكان الحسن إذا علم ذلك يقول: دعهم يا لكع؛ فإنهم أحب إلي منكم، هؤلاء يحبونني لله -عز وجل- وأنتم تريدونني للدنيا، وقال أبو معاوية الأسود: إخواني كلهم خير مني، قيل: وكيف ذاك؟ قال: كلهم يرى لي الفضل عليه، ومن فضلني على نفسه فهو خير مني، (وقال الحسن) البصري -رحمه الله تعالى-: (من شيع أخاه في الله بعث الله له ملائكة من تحت عرشه يوم القيامة يشيعونه إلى الجنة) كذا في القوت، ومعنى التشييع أن يتبعه عند رحيله إكراما له (وفي الأثر: ما زار رجل أخاه شوقا إلى لقائه) ولفظ القوت: شوقا إليه ورغبة في لقائه (إلا ناداه ملك من خلفه: طبت وطاب ممشاك وطابت لك الجنة) . تقدم في الباب الذي قبله وسيأتي في حقوق المسلك ما يقرب منه (وقال) عطاء بن أبي [ ص: 210 ] رباح المكي، ثقة فقيه فاضل مات سنة أربعة عشرة (تفقدوا إخوانكم بعد ثلاث فإن كانوا مرضى فعودوهم أو) كانوا (مشاغيل فأعينوهم أو كانوا نسوا فذكروهم) نقله صاحب القوت؛ أي: إذا لم يأتك أخوك بعد مضي ثلاث ليالي وجب عليك تفقده فإنه لا يخلو من إحدى الحالات الثلاث: إما مريض أو مشغول أو نسي الصحبة والأخوة، فالمريض يعاد والمشغول يعان والناسي يذكر، وقد روي هذا في المرفوع من حديث أنس: كان النبي - صلى الله عليه وسلم- إذا فقد الرجل من إخوانه ثلاثة أيام سأل عنه، فإن كان غائبا دعا له وإن كان شاهدا زاره وإن كان مريضا عاده. أخرجه أبو يعلى في مسنده من طريق عباد بن كثير عن ثابت عن أنس.

وأخرج البيهقي في الشعب عن الأعمش قال: كنا نقعد في المجلس فإذا فقدنا الرجل ثلاثة أيام سألنا عنه فإن كان مريضا عدناه، (وذكر) في بعض الأخبار (أن ابن عمر) -رضي الله عنهما- (كان يلتفت يمينا وشمالا بين يدي النبي -صلى الله عليه وسلم-) ولفظ القوت: وقد روينا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه رأى ابن عمر يلتفت يمينا وشمالا فسأله فقال: يا رسول الله أحببت رجلا فأطلبه ولا أراه، فقال: يا عبد الله (إذا أحببت أحدا فسله عن اسمه واسم أبيه وعن منزله، فإن كان مريضا عدته وإن كان مشغولا أعنته) كذا في القوت، (وفي رواية عن اسم جده وعشيرته) .

قال العراقي: رواه الخرائطي في مكارم الأخلاق والبيهقي في شعب الإيمان بسند ضعيف، ورواه الترمذي من حديث يزيد بن نعامة وقال: غريب ولا نعلم ليزيد بن نعامة سماعا من النبي -صلى الله عليه وسلم-. انتهى .

قلت: قد وقع لنا حديث مسلسل بقولهم: لقيت فلانا فسألني عن اسمي ونسبي وكنيتي وعن الموضع الذي أنا ساكنه. من طريق أبي الحسين محمد بن النضر الموصلي عن هدبة بن خالد عن حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس رفعه: "يا أنس أكثر من الأصدقاء فإنكم شفعاء بعضكم في بعض" هكذا أورده ابن ناصر الدين في مسلسلاته، ورواه كذلك أبو جعفر محمد بن علي الهمداني وأبو الحسين المبارك ابن عبد الجبار الصيرفي وأبو مسعود سليمان بن إبراهيم الأصبهاني الحافظ في مسلسلاتهم من طرق مدارها على هدبة (وقال) عامر بن شراحيل (الشعبي) رحمه الله تعالى (في الرجل يجالس الرجل فيسأله عنه فيقول: أعرف وجهه ولا أعرف اسمه، تلك معرفة النوكى) أي: الحمقى. كذا في القوت (و) يروى عن الضحاك (قيل لابن عباس) رضي الله عنهما (من أحب الناس إليك؟ قال: جليسي) كذا في القوت .

(وقال) ابن عباس أيضا ولفظ القوت (وكان يقول: ما اختلف رجل إلى مجلسي ثلاثا من غير حاجة) تكون (له إلي فعلمت ما مكافأته من الدنيا) كذا في القوت، وذكر في ترجمة ابن شبرمة أنه كان إذا اختلف إليه الرجل ثلاثة أيام دعاه فقال له: أراك قد لزمتنا منذ ثلاثة أيام عليك خراج نتكلم فيه .

(وقال سعيد بن العاص) بن سعيد بن العاصي بن أميمة القرشي الأموي أبو عثمان ويقال أبو عبد الرحمن المدني والد عمر والأشدق ويحيى، وهو سعيد بن العاصي الأصغر قتل أبوه يوم بدر مشركا، ولجده أبي أحيحة سعيد بن العاصي ذكر في فتح خيبر، قال محمد بن سعد: قبض النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو ابن تسعة سنين، وقال ابن عبد البر: كان من أشراف قريش جمع السخاء والفصاحة، وهو أحد الذين كتبوا المصحف لعثمان، واستعمله عثمان على الكوفة وغزا طبرستان فافتتحها وكذا جرجان في خلافة عثمان، واستعمله معاوية أيضا على المدينة، قال البخاري: قال مسدد: مات سعيد وأبو هريرة وعائشة وعبد الله بن عامر سنة سبع أو ثمان وخمسين .

وروى له مسلم والترمذي والنسائي (لجليسي علي ثلاث: إذا دنا رحبت به، وإذا حدث أقبلت عليه، وإذا جلس أوسعت له) نقله صاحب القوت .

ويحكى عن سعيد هذا أنه كان يدعو إخوانه وجيرانه في كل جمعة فيصنع لهم الطعام ويخلع لهم الثياب الفاخرة ويأمر لهم بالجوائز الواسعة ويبعث إلى عيالاتهم بالبر الكثير، وكان يوجه مولى له في كل ليلة جمعة فيدخل المسجد ومعه صرر فيها دنانير فيضعها بين يدي المصلين، وكان قد كثر المصلون في كل ليلة جمعة في مسجد الكوفة (وقد قال تعالى) في معرض الوصف والمدح لأصحاب حبيبه -صلى الله عليه وسلم-: أشداء على الكفار رحماء بينهم (إشارة إلى الشفقة) على الإخوان (والإكرام) لهم (ومن تمام الإشفاق أن لا ينفرد بطعام لذيذ) شهي عن أخيه (أو بحضور في مسرة [ ص: 211 ] دونه بل يتنغص لفراقه ويتوحش بانفراده عن أخيه) ولفظ القوت: وقال بعض الأدباء: ائتلف بعض الإخوان جماعة ثم اجتمع بعضهم على لذة وقعد البعض نقص من اللذة بمقدار من نقص منهم .




الخدمات العلمية