الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وأما الاكتفاء بالجهة عند تعذر المعاينة فيدل عليه الكتاب والسنة وفعل الصحابة رضي الله عنهم والقياس .

أما الكتاب فقوله تعالى وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره أي : نحوه .

ومن قابل جهة الكعبة يقال : قد ولى وجهه شطرها .

وأما السنة فما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لأهل المدينة : ما بين المغرب والمشرق قبلة. .

والمغرب يقع على يمين أهل المدينة والمشرق على يسارهم .

فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم جميع ما يقع بينهما قبلة ومساحة الكعبة لا تفي بما بين المشرق والمغرب ، وإنما يفي بذلك جهتها .

وروي هذا اللفظ أيضا عن عمر وابنه رضي الله عنهما .

وأما فعل الصحابة رضي الله عنهم فما روي أن مسجد قباء كانوا في صلاة الصبح بالمدينة مستقبلين لبيت المقدس مستدبرين الكعبة ; لأن المدينة بينهما ، فقيل لهم الآن : قد حولت القبلة إلى الكعبة .

فاستداروا في أثناء الصلاة من غير طلب دلالة .

ولم ينكر عليهم .

وسمي مسجدهم ذا القبلتين ومقابلة العين من المدينة إلى مكة لا تعرف إلا بأدلة هندسية يطول النظر فيها فكيف أدركوا ذلك على البديهة في أثناء الصلاة وفي ظلمة الليل ويدل أيضا من فعلهم أنهم بنوا المساجد حوالي مكة وفي سائر بلاد الإسلام ولم يحضروا قط مهندسا عند تسوية المحاريب ومقابلة العين لا تدرك إلا بدقيق النظر الهندسي .

وأما القياس فهو أن الحاجة تمس إلى الاستقبال وبناء المساجد في جميع أقطار الأرض ولا يمكن مقابلة العين إلا بعلوم هندسية لم يرد الشرع بالنظر فيها بل ربما يزجر عن التعمق في علمها فكيف ينبني أمر الشرع عليها فيجب الاكتفاء بالجهة للضرورة .

التالي السابق


(وأما الاكتفاء بالجهة عند تعذر المعاينة فيدل عليه الكتاب والسنة وفعل الصحابة -رضي الله عنهم- والقياس أما الكتاب فقوله تعالى: وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره أي: نحوه) هكذا فسره البيضاوي قال وقيل: الشطر في الأصل لما انفصل عن الشيء من شطر إذا انفصل ودار شطور أي: منفصلة عن الدور، ثم استعمل الشطر لجانب وإن انفصل كالقطر، وكذا قوله تعالى: فول وجهك شطر المسجد الحرام .

(ومن قابل جهة الكعبة يقال: قد ولى وجهه شطره) قال البيضاوي: إنما ذكر المسجد دون الكعبة لأنه -صلى الله عليه وسلم- كان في المدينة والبعيد يكفيه مراعاة الجهة فإن استقبال عينها حرج عليه بخلاف القريب، (وأما السنة فما روي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال لأهل المدينة: ما بين المغرب والمشرق قبلة. والمغرب يقع على يمين أهل المدينة والمشرق على يسارهم فجعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جميع ما يقع بينهما قبلة ومساحة الكعبة لا تفي بما بين المشرق والمغرب، وإنما يفي بذلك جهتها) .

قال العراقي: رواه الترمذي وصححه النسائي وقال: منكر وابن ماجه من حديث أبي هريرة . اهـ .

قلت: ورواه الحاكم كذلك وقال هو على شرطهما وأقره الذهبي ولفظهم جميعا ما بين المشرق والمغرب قبلة، وزاد الديلمي في مسند [ ص: 446 ] الفردوس مفردا للترمذي بزيادة: لأهل المشرق فليحرر، قال المناوي في شرحه على الجامع أي: ما بين مشرق الشمس في الشتاء وهو مطلع قلب العقرب ومغرب الشمس في الصيف، وهو مغرب السماك الرامح قبلة أهل المدينة، فإنها واقعة بين المشرق والمغرب وهي إلى طرف المغرب أميل فيجعلون المشرق عن يمينهم والمغرب عن يسارهم .

(وروي هذا اللفظ أيضا عن عمر) بن الخطاب (وابنه) عبد الله بن عمر (رضي الله عنهما) أما حديث ابن عمر فأخرجه الحاكم من طريق شعيب بن أيوب عن عبد الله بن نمير عن عبد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر.

وأما حديث عمر فأخرجه الدارقطني في العلل وقال: الصواب عن نافع عن عبد الله بن عمر عن عمر، ورواه البيهقي كذلك ولفظه بعدما أورد الحديث المراد - والله أعلم-: أهل المدينة ومن كانت قبلته على سمتهم فيما بين المشرق والمغرب تطلب قبلتهم ثم يطلب عينها، فقد روى نافع بن أبي نعيم عن نافع عن ابن عمر عن عمر قال: ما بين المشرق والمغرب قبلة إذا توجهت قبل البيت، وفيه ثلاثة أمور: الأول: أن نافع ابن أبي نعيم قال: فيه أحمد ليس بشيء في الحديث حكاه عنه ابن عدي في الكامل وحكى عنه الساجي أنه قال: هو منكر الحديث، والثاني: أن هذا الأثر اختلف فيه عن نافع فرواه ابن أبي نعيم كما مر، ورواه مالك في الموطأ عن ابن عمر قال. الثالث: قوله: إذا توجهت قبل البيت. يحتمل أن يراد به طلب الجهة فيحمل على ذلك حتى لا يخالف أول الكلام وهو قوله ما بين المشرق والمغرب قبلة فتأمل .

ورواه عبد الرزاق في المصنف عن عمر موقوفا وعن ابن عمر موقوفا ثم هذا الحديث بظاهرة معارض لما فيه المتفق عليه من حديث أسامة، ومن حديث ابن عمر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- دخل البيت ودعا في نواحيه ثم خرج وركع ركعتين في قبل الكعبة وقال: هذه القبلة. واختلف في تأويله فقال الخطابي: قوله: هذه القبلة. معناه أن أمرها استقر على هذه البنية فلا ينسخ أبدا فصلوا إليها فهي قبلتكم، وقال النووي: يحتمل أن يريد: هذه الكعبة هي المسجد الحرام الذي أمرتم باستقباله لا كل الحرم ولا مكة ولا المسجد الذي حولها بل نفسها فقط .

قال الحافظ: وهو احتمال حسن بديع ويحتمل أن يكون تعليما للإمام أن يستقبل البيت من وجهه وإن كانت الصلاة إلى جميع جهاته جائزة، وقد روى البزار عن عبد الله بن [حبشي] قال: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصلي إلى باب الكعبة وهو يقول: أيها الناس إن الباب قبلة البيت. لكن إسناده ضعيف .

وروى البيهقي عن ابن عباس مرفوعا: البيت قبلة لأهل المسجد، والمسجد قبلة لأهل الحرم، والحرم قبلة لأهل الأرض في مشارقها ومغاربها لأمتي. وإسناده ضعيف أيضا، قال صاحب الكشف والتحقيق، وهو عبد العزيز النجاري: هذا على التقريب وإلا فالتحقيق أن الكعبة قبلة العالم .

(وأما فعل الصحابة -رضي الله عنهم- فما روي أن أهل مسجد قباء كانوا في صلاة الصبح مستقبلين لبيت المقدس مستدبرين الكعبة; لأن المدينة بينهما، فقيل لهم: ألا قد حولت القبلة إلى الكعبة، فاستداروا في أثناء الصلاة من غير طلب دلالة، ولم ينكر عليهم، وسمي مسجدهم ذا القبلتين) .

قال العراقي: رواه مسلم من حديث أنس واتفقا عليه من حديث ابن عمر مع اختلاف . اهـ .

قلت: لفظ حديث ابن عمر: بينما الناس يصلون في صلاة الصبح بقباء إذ جاءهم آت فقال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد أنزل عليه وقد أمر أن يستقبل القبلة فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة. وهو متفق عليه من حديثه هكذا .

ومن حديث البراء بن عازب نحوه، ومسلم من حديث أنس نحوه، وللبزار من طريق ثمامة عن أنس: فصلوا الركعتين الباقيتين إلى الكعبة. وذكر البيضاوي في تفسيره أنه -صلى الله عليه وسلم- قدم للمدينة فصلى نحو بيت المقدس ستة عشر شهرا ثم وجه إلى الكعبة في رجب بعد الزوال قبل قتال بدر بشهرين، وقد صلى بأصحابه في مسجد بني سلمة ركعتين من الظهر فتحول في الصلاة واستقبل الميزاب وتبادل الرجال والنساء صفوفهم فسمي المسجد ذا القبلتين . اهـ .

وحديث البراء قال البخاري في صحيحه: حدثنا عمر بن خالد، حدثنا الزهير، حدثنا أبو إسحاق عن البراء أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان أول ما قدم [ ص: 447 ] المدينة نزل على أجداده أو قال أخواله من الأنصار، وأنه صلى قبل بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهرا، وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت، وأنه صلى أول صلاة صلاها صلاة العصر وصلى معه قوم، فخرج رجل ممن صلى معه فمر على أهل مسجد وهم راكعون فقال: أشهد بالله لقد صليت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبل مكة فداروا كما هم قبل البيت. الحديث .

قوله: على أهل مسجد بني سلمة ومر عليهم في صلاة العصر، وأما أهل قباء فما أتاهم إلا في صلاة الصبح. هكذا أخرجه في أول الصحيح وأيضا في التفسير عن أبي نعيم محمد بن المثنى، والنسائي عن محمد بن بشار ثلاثتهم عن يحيى بن سعيد عن الثوري عن أبي إسحاق عنه، وأخرجه ابن ماجه عن علقمة بن عمر، وعن أبي بكر بن عياش عن أبي إسحاق، وأخرجه الترمذي عن هناد عن وكيع عن إسرائيل بن يونس عن جده أبي إسحاق، وأخرجه البخاري أيضا في الصلاة عن عبد الله بن جابر، وفي خبر الواحد عن يحيى عن وكيع كلاهما عنه به، وأخرجه النسائي أيضا عن محمد بن إسماعيل بن إبراهيم عن إسحاق بن يوسف الأزرق عن زكريا بن أبي زائدة عن أبي إسحاق، وفيه جواز الصلاة الواحدة إلى جهتين وهو الصحيح عند أصحاب الشافعي، فمن صلى إلى جهة فتغير اجتهاده في أثنائها فإنه يستدير إلى الجهة الآخرة كما تقدم، وفيه دليل على قبول خبر الواحد وهو مجمع عليه، وفيه وجوب الصلاة إلى القبلة والإجماع على أنها الكعبة وبه يحتج على أن من صلى بالاجتهاد إلى غير القبلة ثم تبين له الخطأ لا تلزمه الإعادة; لأنه فعل ما عليه في ظنه مع مخالفة الحكم في نفس الأمر كما أن أهل قباء فعلوا ما وجب عليهم عند ظن بقاء الأمر فلم يؤمروا بالإعادة .

(ومقابلة العين من المدينة إلى مكة لا يعرف إلا بأداة هندسية) بترتيب آلات غريبة (يطول النظر فيها فكيف أدركوا على البديهة في أثناء الصلاة) إذ ورد عليهم الخبر وهم راكعون، (وفي ظلمة الليل) إذ كانوا يصلون الصبح بغلس (ويدل أيضا) من فعلهم (أنهم بنوا المساجد حول مكة وفي سائر بلاد الإسلام) كالكوفة والبصرة ومصر والشام ومرو وقرقيسيا وغيرها (ولم يحضروا قط مهندسا) ولا منجما (عند تسوية المحراب) ولما كانوا يعرفون الإسطرلاب (ومقابلة العين لا تدرك إلا بدقيق النظر في الهندسة) ومعرفة آلات الفن .

(وأما القياس فهو أن الحاجة إلى الاستقبال وبناء المساجد في جميع أقطار الأرض ولا يمكن مقابلة العين) في محاريبها (إلا بعلوم هندسية) وآلات فلكية وأرصاد الكواكب السبعة السيارة (لم يرد الشرع بالنظر فيها بل ربما يزجر عن التعمق) أي: غوص الذهن (في علمها فكيف يبنى أمر الشرع عليها فيجب الاكتفاء) في البلاد البعيدة (بالجهة للضرورة) الداعية .




الخدمات العلمية