الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. (112) قوله تعالى: والخوف : العامة على جر "الخوف" نسقا على "الرجوع"، وروي عن أبي عمرو نصبه، وفيه أوجه، أحدها: أن يعطف على ""لباس".الثاني: أن يعطف على موضع الجوع";لأنه مفعول في المعنى للمصدر. التقدير: "أن ألبسهم الجوع والخوف"، قاله أبو البقاء، وهو بعيد; لأن اللباس اسم ما يلبس، وهو استعارة بليغة كما سأنبهك عليه. الثالث: أن ينتصب بإضمار فعل قاله أبو الفضل الرازي. [الرابع: أن يكون على حذف مضاف، أي:] ولباس [ ص: 294 ] الخوف، ثم حذف وأقيم [المضاف إليه] مقامه قاله الزمخشري .

                                                                                                                                                                                                                                      ووجه الاستعارة ما قاله الزمخشري ، فإنه قال: فإن قلت: الإذاقة واللباس استعارتان فما وجه صحتهما؟ والإذاقة المستعارة موقعة على اللباس المستعار فما وجه صحة إيقاعها عليه؟ قلت: الإذاقة جرت عندهم مجرى الحقيقة لشيوعها في البلايا والشدائد وما يمس الناس منها، فيقولون، ذاق فلان البؤس والضر، وإذاقه العذاب، شبه ما يدرك من أثر الضرر والألم بما يدرك من طعم المر والبشع، وأما اللباس فقد شبه به لاشتماله على اللابس ما غشي الإنسان والتبس به من بعض الحوادث. وأما إيقاع الإذاقة على لباس الجوع والخوف فلأنه لما وقع عبارة عما يغشى منهما ويلابس، فكأنه قيل: فأذاقهم ما غشيهم من الجوع والخوف. ولهم في هذا طريقان، أحدهما: أن ينظروا فيه إلى المستعار له كما نظر إليه ههنا، ونحوه قول كثير:


                                                                                                                                                                                                                                      3020 - غمر الرداء إذا تبسم ضاحكا غلقت لضحكته رقاب المال

                                                                                                                                                                                                                                      استعار الرداء للمعروف لأنه يصون عرض صاحبه صون الرداء لما يلقى عليه، ووصفه بالغمر الذي هو وصف المعروف والنوال، لا وصف الرداء، نظرا إلى المستعار له. والثاني: أن ينظروا فيه إلى المستعار كقوله: [ ص: 295 ]

                                                                                                                                                                                                                                      3021 - ينازعني ردائي عبد عمرو     رويدك يا أخا عمرو بن بكر


                                                                                                                                                                                                                                      لي الشطر الذي ملكت يميني     ودونك فاعتجر منه بشطر

                                                                                                                                                                                                                                      أراد بردائه سيفه، ثم قال: "فاعتجر منه بشطر" فنظر إلى المستعار في لفظ الاعتجار، ولو نظر إليه فيما نحن فيه لقال: "فكساهم لباس الجوع والخوف"، ولقال كثير: "ضافي الرداء إذا تبسم". انتهى. وهذا نهاية ما يقال في الاستعارة.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن عطية: "لما باشرهم ذلك صار كاللباس"، وهذا كقول الأعشى:


                                                                                                                                                                                                                                      3022 - إذا ما الضجيع ثنى جيدها     تثنت عليه فكانت لباسا

                                                                                                                                                                                                                                      ومثله قوله تعالى: هن لباس لكم وأنتم لباس لهن ، ومثله قول الشاعر:


                                                                                                                                                                                                                                      3022 - وقد لبست بعد الزبير مجاشع     لباس التي حاضت ولن تغسل الدما

                                                                                                                                                                                                                                      كأن العار لما باشرهم ولصق بهم كأنهم لبسوه.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: "فأذاقهم" نظير قوله تعالى: ذق إنك أنت العزيز الكريم [ ص: 296 ] ونظير قول الشاعر:


                                                                                                                                                                                                                                      3023 - دونك ما جنيته فاحس وذق

                                                                                                                                                                                                                                      وفي قراءة عبد الله "فأذاقها الله الخوف والجوع"، وفي مصحف أبي "لباس الخوف والجوع".

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: بأنعم الله أتى بجمع القلة، ولم يقل: "بنعم الله" جمع كثرة تنبيها بالأدنى على الأعلى; لأن العذاب إذا كان على كفران الشيء القليل فكونه على النعم الكثيرة أولى.

                                                                                                                                                                                                                                      و "أنعم" فيها قولان، أحدهما: أنها جمع "نعمة" نحو: شدة: أشد. قال الزمخشري : جمع "نعمة" على ترك الاعتداد بالتاء كدرع وأدرع. وقال قطرب: هي جمع نعم، والنعم: النعيم، يقال: "هذه أيام طعم ونعم". وفي الحديث: نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالموسم بمنى: "إنها أيام طعم ونعم فلا تصوموا".

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: بما كانوا يجوز أن تكون مصدرية، أو بمعنى الذي، والعائد [ ص: 297 ] محذوف، أي: بسبب صنعهم أو بسبب الذي كانوا يصنعونه. والواو في "يصنعون" عائدة على أهل المعذب. قيل: قرية، وهي نظيرة قوله: أو هم قائلون بعد قوله: وكم من قرية أهلكناها .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية