الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. (18) قوله تعالى: مثل الذين كفروا : فيه أوجه، أحدها: وهو مذهب سيبويه أنه مبتدأ محذوف الخبر تقديره: فيما يتلى عليكم مثل الذين كفروا، وتكون الجملة من قوله: أعمالهم كرماد مستأنفة جوابا [ ص: 82 ] لسؤال مقدر، كأنه قيل: كيف مثلهم؟ فقيل: كيت وكيت. والمثل استعارة للصفة التي فيها غرابة كقولك، صفة زيد، عرضه مصون، وماله مبذول.

                                                                                                                                                                                                                                      الثاني: أن يكون "مثل" مبتدأ، و "أعمالهم" مبتدأ ثان، و "كرماد" خبر الثاني، والثاني وخبره خبر الأول. قال ابن عطية: "وهذا عندي أرجح الأقوال، وكأنك قلت: المتحصل في النفس مثالا للذين كفروا هذه الجملة المذكورة". وإليه نحا الحوفي. قال الشيخ: "وهو لا يجوز لأن الجملة التي وقعت خبرا للمبتدأ لا رابط فيها يربطها بالمبتدأ، وليست نفس المبتدأ فتستغني عن رابط". قلت: بل الجملة نفس المبتدأ، فإن نفس مثلهم هو نفس أعمالهم كرماد في أن كلا منها لا يفيد شيئا، ولا يبقى له أثر، فهو نظير قولك: "هجيرى أبي بكر لا إله إلا الله".

                                                                                                                                                                                                                                      الثالث: أن "مثل" مزيدة، قاله الكسائي والفراء: أي: الذين كفروا أعمالهم كرماد، فالذين مبتدأ "أعمالهم" مبتدأ ثان و "كرماد" خبره. وزيادة الأسماء ممنوعة.

                                                                                                                                                                                                                                      الرابع: أن يكون "مثل" مبتدأ، و "أعمالهم" بدل منه، على تقدير: مثل أعمالهم، و "كرماد" الخبر. قاله الزمخشري : وعلى هذا فهو بدل كل من كل، على حذف المضاف كما تقدم.

                                                                                                                                                                                                                                      الخامس: أن يكون "مثل" مبتدأ، و "أعمالهم" بدل منه بدل اشتمال، [ ص: 83 ] و "كرماد" الخبر، كقول الزباء:


                                                                                                                                                                                                                                      2874 - ما للجمال مشيها وئيدا أجندلا يحملن أم حديدا

                                                                                                                                                                                                                                      والسادس: أن يكون "مثل" مبتدأ، و "أعمالهم" خبره، أي: مثل أعمالهم، فحذف المضاف. و "كرماد" على هذا خبر مبتدأ محذوف، وقال أبو البقاء حين ذكر وجه البدل: "ولو كان في غير القرآن لجاز إبدال "أعمالهم" من "الذين" وهو بدل اشتمال"، يعني أنه كان يقرأ: "أعمالهم" مجرورة، لكنه لم يقرأ به.

                                                                                                                                                                                                                                      و "الرماد" معروف وهو ما سحقته النار من الأجرام، وجمعه في الكثرة على رمد، وفي القلة على أرمدة كجماد وجمد وأجمدة، وجمعه على "أرمداء" شاذ. والرماد: السنة أيضا، السنة: المحل، أرمد الماء، أي: صار بلون الرماد، والأرمد: ما كان على لون الرماد. وقيل للبعوض "رمد" لذلك، ويقال: رماد رمدد، أي: صار هباء.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: اشتدت به الريح في محل جر صفة لرماد، و "في يوم" متعلق بـ "اشتدت".

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "عاصف" فيه أوجه، أحدها: أنه على تقدير: عاصف ريحه، أو عاصف الريح، ثم حذف "الريح" وجعلت الصفة لليوم مجازا كقولهم: "يوم ماطر" و "ليل نائم". قال الهروي: فحذفت لتقدم ذكرها، كما قال: [ ص: 84 ]

                                                                                                                                                                                                                                      2875 - إذا جاء يوم مظلم الشمس كاسف      ... ... ... ...

                                                                                                                                                                                                                                      أي: كاسف الشمس.

                                                                                                                                                                                                                                      الثاني: أنه على النسب، أي: ذي عصوف كلابن وتامر.

                                                                                                                                                                                                                                      الثالث: أنه خفض على الجوار، أي: كان الأصل أن يتبع العاصف الريح في الإعراب فيقال: اشتدت به الريح العاصف في يوم، فلما وقع بعد اليوم أعرب بإعرابه، كقولهم: "جحر ضب خرب". وفي جعل هذا من باب الخفض على الجوار نظر، لأن من شرطه: أن يكون بحيث لو جعل صفة لما قطع عن إعرابه لصح كالمثال المذكور، وهنا لو جعلته صفة للريح لم يصح لتخالفهما تعريفا وتنكيرا في هذا التركيب الخاص.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق بإضافة "يوم" لـ "عاصف". وهي على حذف الموصوف، أي: في يوم ريح عاصف، فحذف لفهم المعنى الدال على ذلك. ويجوز أن يكون من باب إضافة الموصوف إلى صفته عند من يرى ذلك نحو: بقلة الحمقاء.

                                                                                                                                                                                                                                      ويقال: ريح عاصف ومعصف، وأصله من العصف، وهو ما يكسر من الزرع فقيل ذلك للريح الشديدة لأنها تعصف، أي: تكسر ما تمر عليه.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: لا يقدرون مستأنف، ويضعف أن يكون صفة ليوم على حذف العائد، أي: لا يقدرون فيه، و "مما كسبوا" متعلق بمحذوف، لأنه حال من "شيء" إذ لو تأخر لكان صفة. والتقدير: على شيء مما كسبوا.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية