الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. (16) قوله تعالى: أمرنا : قرأ العامة بالقصر والتخفيف وفيه وجهان، أحدهما: أنه من الأمر الذي هو ضد النهي. ثم اختلف القائلون بذلك في متعلق هذا الأمر: فعن ابن عباس في آخرين: أنه أمرناهم بالطاعة ففسقوا، وقد رد هذا الزمخشري ردا شديدا وأنكره إنكارا بليغا في كلام [ ص: 326 ] طويل، حاصله: أنه حذف ما لا دليل عليه، وقدر هو متعلق الأمر: الفسق، أي: أمرناهم بالفسق قال: "أي: أمرناهم بالفسق، فعملوا، والأمر مجاز; لأن حقيقة أمرهم بالفسق أن يقول لهم: افسقوا، وهذا لا يكون، فبقي أن يكون مجازا. ووجه المجاز: أنه صب عليهم النعمة صبا، فجعلوها ذريعة إلى المعاصي واتباع الشهوات، فكأنهم مأمورون بذلك لتسبب إيلاء النعمة فيه، وإنما خولهم فيها ليشكروا".

                                                                                                                                                                                                                                      ثم قال: "فإن قلت: فهلا زعمت أن معناه: أمرناهم بالطاعة ففسقوا. قلت: لأن حذف ما لا دليل عليه غير جائز، فكيف حذف ما الدليل قائم على نقيضه؟ وذلك أن المأمور به إنما حذف لأن "ففسقوا" يدل عليه، وهو كلام مستفيض يقال: "أمرته فقام"، و "أمرته فقرأ"، لا يفهم منه إلا أن المأمور به قيام أو قراءة، ولو ذهبت تقدر غيره رمت من مخاطبك علم الغيب، ولا يلزم [على] هذا قولهم: و "أمرته فعصاني" أو "فلم يمتثل" لأن ذلك مناف للأمر مناقض له، ولا يكون ما يناقض الأمر مأمورا به، فكان محالا أن يقصد أصلا حتى يجعل دالا على المأمور به، فكان المأمور به في هذا الكلام غير منوي ولا مراد; لأن من يتكلم بهذا الكلام لا ينوي لآمره مأمورا به، فكأنه يقول: كان مني أمر فكان منه طاعة، كما أن من يقول: ["فلان] يأمر وينهى ويعطي ويمنع"، لا يقصد مفعولا. فإن قلت: هلا كان ثبوت العلم بأن الله لا يأمر بالفحشاء دليلا على أن المراد: أمرناهم بالخير، قلت: لأن قوله [ ص: 327 ] "ففسقوا" يدافعه، فكأنك أظهرت شيئا وأنت تضمر خلافه، ونظير "أمر": "شاء" في أن مفعوله استفاض حذف مفعوله لدلالة ما بعده عليه. تقول: لو شاء لأحسن إليك، ولو شاء لأساء إليك، تريد: لو شاء الإحسان، ولو شاء الإساءة، ولو ذهبت تضمر خلاف ما أظهرت، وقلت: قد دلت حال من أسندت إليه المشيئة أنه من أهل الإحسان أو من أهل الإساءة فاترك الظاهر المنطوق وأضمر ما دلت عليه حال المسند إليه المشيئة، لم تكن على سداد".

                                                                                                                                                                                                                                      وتتبعه الشيخ في هذا فقال: "أما ما ارتكبه من المجاز فبعيد جدا"، وأما قوله: "لأن حذف ما لا دليل عليه غير جائز"، فتعليل لا يصح فيما نحن بسبيله، بل ثم ما يدل على حذفه.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: "فكيف يحذف ما الدليل على نقيضه قائم" إلى "علم الغيب" فنقول: حذف الشيء تارة يكون لدلالة موافقه عليه، ومنه ما مثل به في قوله: "أمرته فقام"، وتارة يكون لدلالة خلافه أو ضده أو نقيضه كقوله تعالى: وله ما سكن في الليل والنهار ، أي: ما سكن وتحرك، وقوله: سرابيل تقيكم الحر ، أي: والبرد، وقول الشاعر:


                                                                                                                                                                                                                                      3041 - وما أدري إذا يممت أرضا أريد الخير أيهما يليني


                                                                                                                                                                                                                                      أالخير الذي أنا أبتغيه     أم الشر الذي هو يبتغيني

                                                                                                                                                                                                                                      أي: وأجتنب الشر، وتقول: "أمرته فلم يحسن" فليس المعنى: أمرته بعدم الإحسان، بل المعنى: أمرته بالإحسان فلم يحسن، والآية من هذا [ ص: 328 ] القبيل، يستدل على حذف النقيض بنقيضه كما يستدل على حذف النظير بنظيره، وكذلك: "أمرته فأساء إلي" ليس المعنى: أمرته بالإساءة بل أمرته بالإحسان. وقوله: ولا يلزم هذا قولهم: "أمرته فعصاني". نقول: بل يلزم. وقوله: "لأن ذلك مناف"، أي: لأن العصيان مناف. وهو كلام صحيح. وقوله: "فكان المأمور به غير مدلول عليه ولا منوي" لا يسلم بل مدلول عليه ومنوي لا دلالة الموافق بل دلالة المناقض، كما بينا. وقوله: "لا ينوي مأمورا به" لا يسلم. وقوله: "لأن ففسقوا يدافعه، إلى آخره"، قلنا: نعم نوى شيئا ويظهر خلافه، لأن نقيضه يدل عليه. وقوله: ونظير "أمر" "شاء" ليس نظيره; لأن مفعول "أمر" كثر التصريح به. قال الله [تعالى]: إن الله لا يأمر بالفحشاء ، أمر ألا تعبدوا إلا إياه ، يأمر بالعدل ، أمر ربي بالقسط ، أم تأمرهم أحلامهم بهذا وقال الشاعر:


                                                                                                                                                                                                                                      3042 - أمرتك الخير فافعل ما أمرت به      ... ... ... ...

                                                                                                                                                                                                                                      قلت: والشيخ رد عليه رد مستريح من النظر، ولولا خوف السآمة على الناظر لكان للنظر في كلامهما مجال. [ ص: 329 ] والوجه الثاني: أن "أمرنا" بمعنى كثرنا، ولم يرتض الزمخشري في ظاهر عبارته فإنه قال: وفسر بعضهم "أمرنا" ب "كثرنا"، وجعله من باب: فعلته ففعل، كثبرته فثبر. وفي الحديث: "خير المال سكة مأبورة ومهرة مأمورة"، أي: كثيرة النتاج. قلت: وقد حكى أبو حاتم هذه اللغة، يقال: أمر القوم، وأمرهم الله، ونقله الواحدي أيضا عن أهل اللغة، وقال أبو علي: "الجيد في "أمرنا" أن يكون بمعنى كثرنا".

                                                                                                                                                                                                                                      واستدل أبو عبيدة بما جاء في الحديث فذكره. يقال: أمر الله المهرة، أي: كثر ولدها. قال: "ومن أنكر "أمر الله القوم"، أي: كثرهم لم يلتفت إليه لثبوت ذلك لغة.

                                                                                                                                                                                                                                      ويكون مما لزم وتعدى بالحركة المختلفة; إذ يقال: أمر القوم كثروا، وأمرهم الله كثرهم، وهو من باب المطاوعة: أمرهم الله فأتمروا، كقولك: شتر الله عينه فشترت، وجدع أنفه فجدع، وثلم سنه فثلمت.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ الحسن ويحيى بن يعمر وعكرمة: "أمرنا" بكسر الميم بمعنى "أمرنا" بالفتح. حكى أبو حاتم عن أبي زيد أنه يقال: "أمر الله ماله، [ ص: 330 ] وأمره" بفتح الميم وكسرها، وقد رد الفراء هذه القراءة، ولا يلتفت لرده لثبوتها لغة بنقل العدول، وقد نقلها قراءة عن ابن عباس أبو جعفر وأبو الفضل الرازي في "لوامحه" فكيف ترد؟

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ علي بن أبي طالب وابن أبي إسحاق وأبو رجاء في آخرين "آمرنا" بالمد، ورويت هذه قراءة عن ابن كثير وأبي عمرو وعاصم ونافع، واختارها يعقوب، والهمزة فيه للتعدية؟

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ علي أيضا وابن عباس وأبو عثمان النهدي: "أمرنا" بالتشديد. وفيه وجهان، أحدهما: أن التضعيف للتعدية، عداه تارة بالهمزة وأخرى بتضعيف العين، كأخرجته وخرجته. والثاني: أنه بمعنى جعلناهم أمراء، واللازم من ذلك "أمر". قال الفارسي: "لا وجه لكون "أمرنا" من الإمارة; لأن رئاستهم لا تكون إلا لواحد بعد واحد، والإهلاك إنما يكون في مدة واحدة. وقد رد على الفارسي: بأنا لا نسلم أن الأمير هو الملك حتى يلزم ما قلت، بل الأمير عند العرب من يأمر ويؤتمر به. ولئن سلم ذلك لا يلزم ما قال; لأن المترف إذا ملك ففسق ثم آخر بعده ففسق، ثم كذلك كثر الفساد، ونزل بهم على الآخر من ملوكهم.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية