الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله ( وإن قبلها بعد الموت : ثبت الملك حين القبول . في الصحيح ) وهو المذهب . قاله المصنف ، وغيره . وأومأ إليه الإمام أحمد رحمه الله تعالى . ونصره القاضي ، وأصحابه . وقدمه في الفروع . قال الشارح ، وابن منجا : هذا الصحيح من المذهب . ونصره الشارح . ويحتمل أن يثبت الملك حين الموت . وقدمه في الرعايتين ، والحاوي الصغير ، والخلاصة ، والمحرر ، والفائق . قال في العمدة : ولو وصى بشيء ، فلم يأخذه الموصى له زمانا : قوم وقت الموت . لا وقت الأخذ . انتهى . وقال في الوجيز : ويثبت الملك بالقبول عقب الموت . وأطلقهما في الهداية ، والمذهب ، والمستوعب وقيل : الخلاف روايتان . [ ص: 207 ] واختار أبو بكر في الشافي : أن الملك مراعى . فإذا قبل : تبينا أن الملك ثبت له من حين الموت . وهو رواية عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى . وحكى الشريف عن شيخه ، أنه قال : هذا ظاهر كلام الخرقي . قلت : ويحتمله كلام الوجيز المتقدم ، بل هو ظاهر في ذلك . قال في المستوعب : وهذا هو الوجه الذي قبله بعينه . وهو كما قال . وحكي وجه : بأنه من حين الموت بمجرده . نقله الحارثي . فعلى الأول : يكون ( قبل القبول للورثة ) على الصحيح من المذهب . كما صرح به المصنف هنا . واختاره هو وابن البنا ، والشيرازي ، والشارح . وقدمه في الفروع ، والرعايتين ، والحاوي الصغير ، والفائق . وقيل : يكون على ملك الميت . وهو مقتضى قول الشريف ، وأبي الخطاب ، في خلافيهما .

قال الحارثي : والقول بالبقاء للميت : قال به أبو الخطاب ، والشريف أبو جعفر ، والقاضي أبو الحسين ، وغيرهم . انتهى . وأطلقهما الزركشي ، وصاحب القواعد فيها . وقال : وأكثر الأصحاب قالوا : يكون للموصى له . وهو قول أبي بكر ، والخرقي ، ومنصوص الإمام أحمد رحمه الله تعالى . انتهى .

تنبيه : لهذا الخلاف فوائد كثيرة ذكرها الأصحاب . وذكر المصنف هنا بعضها : منها : حكم نمائه بين الموت والقبول . فإن قلنا : هو على ملك الموصى له : فهو له يحتسب عليه من الثلث . إن قلنا : هو على ملك الميت : فتتوفر به التركة فيزداد به الثلث . [ ص: 208 ] فعلى هذا : لو وصى بعبد لا يملك غيره ، وثمنه عشرة . فلم تجز الورثة . فكسب بين الموت والقبول خمسة : دخله الدور . فتجعل الوصية شيئا . فتصير التركة عشرة ونصف شيء ، تعدل الوصية والميراث ، وهما ثلاثة أشياء . فيخرج الشيء أربعة بقدر خمس العبد . وهو الوصية . وتزداد التركة من العبد درهمين . فأما بقيته : فزادت على ملك الورثة . وجها واحدا . قاله في المحرر ، وغيره . وإن قلنا : هو على ملك الورثة : فهو لهم خاصة . وذكر القاضي في خلافه : أن ملك الموصى له لا يتقدم القبول ، وأن النماء قبله للورثة ، مع أن العين باقية على حكم ملك الميت . فلا يتوفر الثلث . وذكر أيضا إذا قلنا : إنه مراعى ، وأنا نتبين بقبول الموصى له ملكه له من حين الموت . فإن النماء يكون للموصى له معتبرا من الثلث . فإن خرج من الثلث مع الأصل فهما له . وإلا كان له بقدر الثلث . فإن فضل شيء من الثلث كان له من النماء .

وقال في القاعدة الثانية والثمانين : إذا نما الموصى وقفه بعد الموت ، وقبل إيقافه : فأفتى الشيخ تقي الدين رحمه الله : أنه يصرف مصرف الوقف . لأن نماءه قبل الوقف كنمائه بعده . وأفتى به الشيخ عماد الدين السكري الشافعي . قال الدميري : وهو الظاهر . وأجاب بعضهم بأنه للورثة . قلت : قد تقدم في كتاب الزكاة عند السائمة الموقوفة ما يشابه ذلك . وهو إذا أوصى بدراهم في وجوه البر ، أو ليشتري بها ما يوقف . فاتجر بها الوصي . فقالوا : ربحه مع أصل المال فيما وصى به . وإن خسر ضمن النقص . نقله الجماعة . وقيل : ربحه إرث . [ ص: 209 ]

ومنها : لو نقص الموصى به في سعر أو صفة . فقال في المحرر : إن قلنا يملكه بالموت : اعتبرت قيمته من التركة بسعره يوم الموت على أدنى صفاته من يوم الموت إلى القبول . وإن قلنا : يملكه من حين القبول . اعتبرت قيمته يوم القبول سعرا وصفة . انتهى .

قال في القواعد : والمنصوص عن الإمام أحمد رحمه الله في رواية ابن منصور . وذكره الخرقي : أنه تعتبر قيمته يوم الوصية . ولم يحك في المغني فيه خلافا . فظاهره : أنه تعتبر قيمته بيوم الموت على الوجوه كلها . قال الشيخ تقي الدين رحمه الله : هذا قول الخرقي ، وقدماء الأصحاب . قال : وهو أوجه من كلام المجد . انتهى . قلت : وهو الصحيح من المذهب . جزم به في الوجيز وغيره . وقدمه في الفروع وغيره . قال في الفروع : ويقوم بسعره يوم الموت . ذكره جماعة . ثم ذكر ما في المحرر . وقال في الترغيب وغيره : وقت الموت خاصة . انتهى . ويأتي ذلك في كلام المصنف في باب الموصى به في قوله " وإن لم يأخذه زمانا قوم وقت الموت لا وقت الأخذ " .

ومنها : لو كانت الوصية بأمة . فوطئها الوارث قبل القبول ، وأولدها : صارت أم ولد له . ولا مهر عليه . وولده حر . لا يلزمه قيمته . وعليه قيمتها للموصى له . هذا إن قلنا إن الملك لا يثبت إلا من حين القبول . ويملكها الورثة . وإن قلنا : لا يملكها الوارث لم تصر أم ولد .

ومنها لو وطئها الموصى له قبل القبول وبعد الموت . [ ص: 210 ] فإن قلنا : الملك له فهي أم ولده ، وإلا فلا .

ومنها : لو وصى له بزوجته . فأولدها قبل القبول : لم تصر أم ولد له . وولده رقيق للوارث . ونكاحه باق إن قلنا لا يملكها . وإن قلنا : يملكها بالموت ، فولده حر . وتصير أم ولده ، ويبطل نكاحه بالموت .

ومنها . لو وصى له بأبيه . فمات قبل القبول . فقبل ابنه ، وقلنا : يقوم الوارث مقامه في القبول : عتق الموصى به حينئذ . ولم يرث شيئا . إذا قلنا : إنما يملكه بعد القبول . وإن قلنا يملكه بالموت : فقد عتق به فيكون حرا عند موت أبيه . فيرث منه .

ومنها : لو كانت الوصية بمال في هذه الصورة . فإن قلنا : يثبت الملك بالموت ، فهو ملك للميت . فتوفى منه ديونه ووصاياه . وعلى الوجه الآخر : هو ملك للوارث الذي قبل . ذكره في المحرر .

قال في القواعد : ويتخرج وجه آخر : أنه يكون ملكا للموصى له على كلا الوجهين . لأن التمليك حصل له . فكيف يصح الملك ابتداء لغيره ؟ .

ومنها : لو وصى لرجل بأرض . فبنى الوارث فيها وغرس قبل القبول ، ثم قبل الموصى له . ففي الإرشاد : إن كان الوارث عالما بالوصية : قلع بناؤه وغرسه مجانا . وإن كان جاهلا : فعلى وجهين . قال في القواعد : وهو متوجه على القول بالملك بالموت . أما إن قيل هي قبل القبول على ملك الوارث : فهو كبناء المشتري الشقص المشفوع وغرسه . فيكون محترما ، يتملك بقيمته . قلت : وهو الصواب .

ومنها : لو بيع شقص في شركة الورثة ، والموصى له قبل قبوله . [ ص: 211 ] فإن قلنا : الملك له من حين الموت : فهو شريك للورثة في الشفعة ، وإلا فلا حق له فيها .

ومنها : جريانه من حين الموت في حول الزكاة . فإن قلنا : يملكه الموصى له : جرى في حوله . وإن قلنا : للورثة ، فهل يجري في حولهم ، حتى لو تأخر القبول سنة كانت زكاته عليهم أم لا ؟ لضعف ملكهم فيه ، وتزلزله ، وتعلق حق الموصى له به . فهو كمال المكاتب . قال في القواعد : فيه تردد . قلت : الثاني أولى .

التالي السابق


الخدمات العلمية