الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
فصل في بيان الوسائل إلى المصالح يختلف أجر وسائل الطاعات باختلاف فضائل المقاصد ومصالحها ، فالوسيلة إلى المقاصد أفضل من سائر الوسائل ، فالتوسل إلى معرفة الله تعالى ومعرفة ذاته وصفاته أفضل من التوسل إلى معرفة أحكامه ، والتوسل إلى معرفة أحكامه أفضل من التوسل إلى معرفة آياته ، والتوسل بالسعي إلى الجهاد أفضل من التوسل بالسعي إلى الجمعات ، والتوسل بالسعي إلى الجمعات أفضل من التوسل بالسعي إلى الجماعات في الصلوات المكتوبات ، والتوسل بالسعي إلى الصلوات المكتوبات أفضل من التوسل بالسعي إلى المندوبات التي شرعت فيها الجماعات كالعيدين والكسوفين ، وكلما قويت الوسيلة في الأداء إلى المصلحة ، كان أجرها أعظم من أجر ما نقص عنها ، فتبليغ رسالات الله من أفضل الوسائل ، لأدائه إلى جلب كل صلاح دعت إليه الرسل ، وإلى درء كل فاسد زجرت عنه الرسل ، والإنذار وسيلة إلى درء مفاسد [ ص: 124 ] الكفر والعصيان ، والتبشير وسيلة إلى جلب مصالح الطاعة والإيمان .

وكذلك المدح والذم ، وكذلك الأمر بالمعروف وسيلة إلى تحصيل ذلك المعروف المأمور به ، رتبته في الفضل والثواب مبنية على رتبة مصلحة الفعل المأمور به في باب المصالح ، فالأمر بالإيمان أفضل أنواع الأمر بالمعروف .

وكذلك الأمر بالفرائض أفضل من الأمر بالنوافل ، والأمر بإماطة الأذى عن الطريق من أدنى مراتب الأمر بالمعروف ، قال صلى الله عليه وسلم : { الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله ، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق } ; فمن قدر على الجمع بين الأمر بمعروفين في وقت واحد ، لزمه ذلك ، لما ذكرناه من وجوب الجمع بين المصلحتين ، وإن تعذر الجمع بينهما أمر بأفضلهما ; لما ذكرناه من تقديم أعلى المصلحتين على أدناهما ، مثال الجمع بين الأمر بمعروفين فما زاد ، أن يرى جماعة قد تركوا الصلاة المفروضة حتى ضاق وقتها بغير عذر فيقول لهم بكلمة صلوا أو قوموا إلى الصلاة ، فإن أمر كل واحد منهم واجب على الفور .

وكذلك تعليم ما يجب تعليمه ، وتفهيم ما يجب تفهيمه ، يختلف باختلاف رتبه وهذان قسمان : أحدهما : وسيلة إلى ما هو مقصود في نفسه ، كتعريف التوحيد وصفات الإله ; فإن معرفة ذلك من أفضل المقاصد والتوسل إليه من أفضل الوسائل .

القسم الثاني : ما هو وسيلة إلى وسيلة كتعليم أحكام الشرع ، فإنه وسيلة إلى العلم بالأحكام التي هي وسيلة إلى إقامه الطاعات ، التي هي وسائل إلى المثوبة والرضوان ، وكلاهما من أفضل المقاصد .

ويدل على فضل التوسل إلى الجهاد قول الله تعالى : { ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ، ولا يطئون موطئا يغيظ الكفار ، ولا ينالون [ ص: 125 ] من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح } . وإنما أثيبوا على الظمأ والنصب وليسا من فعلهم ، لأنهم تسببوا إليهما بسفرهم وسعيهم . وعلى الحقيقة فالتأهب للجهاد بالسفر إليه ، وإعداد الكراع والسلاح والخيل ، وسيلة إلى الجهاد الذي هو وسيلة إلى إعزاز الدين ، وغير ذلك من مقاصد الجهاد ، فالمقصود ما شرع الجهاد لأجله ، والجهاد وسيلة إليه ، وأسباب الجهاد كلها وسائل إلى الجهاد الذي هو وسيلة إلى مقاصده ، فالاستعداد له من باب وسائل الوسائل . ويدل على فضل التوسل إلى الجمعات والجماعات قوله صلى الله عليه وسلم : { من تطهر في بيته ، ثم راح إلى بيت من بيوت الله ليقضي فريضة من فروض الله ، كانت خطواته إحداهما تحط خطيئة والأخرى ترفع درجة } .

وتتفاوت الحسنات المكتوبة والسيئات المحطوطة ، بتفاوت رتب الصلاة التي يمشي إليها ، وقد جاء في التنزيل : { من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها } .

وتتفاوت رتب تلك الأعشار بتفاوت رتب الحسنات في أنفسها ، فمن تصدق بتمرة فله عشر حسنات ، ومن تصدق ببدرة فله عشر حسنات ، لا نسبة لشرف حسنات التمرة إليها .

وكذلك الولايات تختلف رتبها باختلاف ما تجلبه من المصالح وتدرؤه من المفاسد ، فالولاية العظمى أفضل من كل ولاية ، لعموم جلبها المنافع ، ودرئها المفاسد ، وتليها ولاية القضاء لأنها أعم من سائر الولايات ، والولاية على الجهاد أفضل من الولاية على الحج ، لأن فضيلة الجهاد أكمل من فضيلة الحج ، وتختلف رتب الولايات بخصوص منافعها وعمومها فيما وراء ذلك من جلب المصالح ودرء المفاسد ، ولا شك بأن الوسائل تسقط بسقوط المقاصد فمن فاتته الجمعات والجماعات أو الغزوات سقط عنه السعي إليها ، لأنه استفاد الوجوب من وجوبهن .

وكذلك تسقط وسائل المندوبات بسقوطهن لأنها استفادت الندب منهن ، فمن نسي صلاة من صلاتين مكتوبتين لزمه قضاؤهما ، فيقضي [ ص: 126 ] إحداهما : لأنها المفروضة ، ويقضي .

الثانية : فإنها وسيلة إلى تحصيل مصلحة المفروضة ، فإن ذكر في الثانية أن الأولى هي المفروضة سقط وجوبها بسقوط المتوسل إليه ، وهل تبطل أو تبقى نفلا ؟ فيه خلاف مبني على أن من نوى صلاة مخصوصة فلم تحصل له فهل تبطل أو تبقى نفلا ؟ فيه قولان ، وإن ذكر في الأولى أنها فرضه استمر عليها وسقطت الثانية ، وإن ذكر أن فرضه الثانية سقط وجوب الأولى وفي بقائها نفلا خلاف . فإن قيل : كيف صحت النية مع التردد في وجوب كل واحدة من الصلاتين ؟ قلنا : صحت لأن الأصل وجوب كل واحدة منهما في ذمته فصحت لذلك نيته ، لظنه بقاءها في ذمته ، فأشبه من وجبت عليه صلاة معينة فشك في أدائها ، فإنها تجزئه مع شكه ، لاستناد نيته إلى أن الأصل بقاؤها في ذمته ، وقد استثنى في سقوط الوسائل بسقوط المقاصد ، أن الناسك الذي لا شعر على رأسه مأمور بإمرار الموسى على رأسه ، مع أن إمرار الموسى على رأسه وسيلة إلى إزالة الشعر فيما ظهر لنا ، فإن ثبت أن الإمرار مقصود في نفسه لا لكونه وسيلة ، كان هذا من قاعدة من أمر بأمرين فقدر على أحدهما وعجز عن الآخر .

التالي السابق


الخدمات العلمية