إن قيل : قد ذهب رحمه الله إلى تفضيل مالك المدينة على مكة ، فما الدليل على تفضيل مكة عليها ؟ قلنا معنى ذلك أن الله يجود على عباده في مكة بما لا يجود بمثله في المدينة ، وذلك من وجوه : أحدها : وجوب قصدها للحج والعمرة وهذان واجبان لا يقع مثلهما في المدينة ، فالإثابة عليهما إثابة على واجب ، ولا يجب قصد المدينة بل قصدها بعد موت الرسول عليه السلام بسبب زيارته سنة غير واجبة . [ ص: 46 ]
الوجه الثاني : إن فضلت المدينة بإقامة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد النبوة ، كانت مكة أفضل منها ; لأنه أقام بها بعد النبوة ثلاث عشرة سنة أو خمس عشرة سنة وأقام بالمدينة عشرا .
الوجه الثالث : إن فضلت المدينة بكثرة الطارقين من عباد الله الصالحين ، فمكة أفضل منها بكثرة من طرقها من الصالحين والأنبياء والمرسلين ، وما من نبي إلا حجها آدم ومن دونه من الأنبياء والأولياء ، ولو كان لملك داران فضليان فأوجب على عبيده أن يأتوا إحدى داريه ، ووعدهم على ذلك بغفران سيئاتهم ورفع درجاتهم وإسكانهم في قربه وجواره في أفضل دوره ، لم يرتب ذو لب أن اهتمامه بهذا المكان أتم من اهتمامه بغيره من بيوته ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : { } . وقال : { من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه } ، وقال في الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة المدينة ، { } . من صبر على لأوائها وشدتها كنت له شفيعا أو شهيدا يوم القيامة
الوجه الرابع : أن التقبيل والاستلام ضرب من الاحترام وهما مختصان بالركنين اليمانيين ولم يوجد مثل ذلك في مسجد المدينة على ساكنها أفضل السلام .
الوجه الخامس : أن الله أوجب علينا استقبالها في الصلاة حيثما كنا من البلاد والفلوات ، فإن قيل إن دلت الصلاة إليها على فضلها فلتكن الصخرة أفضل منها لما وجبت الصلاة إليها ؟ فالجواب إن صلاته وصلاة أمته إلى الكعبة أطول زمانا ، فإنها قبلتهم إلى القيامة ، ولولا أن مصلحتها أكبر لما اختارها لهم على الدوام ، وكل فعل نسخ إيجابه إلى غيره كان كل واحد منهما في زمانه أفضل من الآخر أو مثله لقوله : { نأت بخير منها أو مثلها } ، وكونه أفضل في زمانه وجه ، لا يدل على فضله على ما هو أفضل من وجوه شتى . [ ص: 47 ]
الوجه السادس : أن الله حرم علينا استدبار الكعبة واستقبالها عند قضاء الحاجات .
الوجه السابع : أن الله حرمها يوم خلق السموات والأرض ، فلم تحل لأحد من الرسل والأنبياء إلا لنبينا صلى الله عليه وسلم ، فإنها أحلت له ساعة من نهار .
الوجه الثامن : أن الله بوأها لإبراهيم الخليل عليه السلام ، ولابنه إسماعيل عليه السلام ، وجعلها مبوأ ومولدا لسيد المرسلين وخاتم النبيين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين .
الوجه التاسع : أن الله جعلها حرما آمنا في الجاهلية والإسلام .
الوجه العاشر : أن مكة لا تدخل إلا بحج أو عمرة ، إما وجوبا أو ندبا ، وليس في المدينة مثل ذلك ولا بدل منه .
الوجه الحادي عشر : أن الله عز وجل قال في مكة : { إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا } ، عبر بالمسجد الحرام عن الحرم كله ، وهذا من مجاز التعبير بالبعض عن الكل ، كما يعبر بالوجه عن الجملة ، وبالرأس عن الجملة .
الوجه الثاني عشر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اغتسل لدخول مكة ، وهو مسنون ولم ينقل في المدينة مثل ذلك ، وفي هذا نظر من جهة أن اغتساله لأجل الحج لا لأجل دخول البلد كما في غسل الإحرام ، وقد أثنى الله على البيت في كتابه بما لم يثن على المدينة فقال : { إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين } ، وكيف لا نعتقد أن مكانا أوجب الله إتيانه على كل مستطيع أفضل من مكان لا يجب إتيانه ، ومن شرف مكة [ ص: 48 ] أن الصلاة لا تكره فيها في الأوقات المكروهات لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال . { جبير بن مطعم بني عبد مناف لا تمنعوا أحدا طاف بهذا البيت وصلى أية ساعة شاء من ليل أو نهار } . أخرجه يا أبو داود والترمذي والنسائي ، وقال وابن ماجه الترمذي حديث حسن صحيح
. وأما ما رواه من قوله عليه السلام : { } . فهذا حديث لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم اللهم إنك أخرجتني من أحب البقاع إلي فأسكني في أحب البقاع إليك
وإن صح فهو من المجاز الذي لا يعرفه كثير من الناس ، وهو من مجاز وصف المكان بصفة ما يقع فيه ، ولا يقوم به قيام العرض بالجوهر كقوله { بلدة طيبة } وصفها بالطيب الذي هو صفة لهوائها .
وكذلك الأرض المقدسة وصفت بالقدس الذي هو وصف لمن حل بها من الأنبياء والأولياء المقدسين من الذنوب والخطايا ، وكذلك الوادي المقدس وصف بقدس موسى عليه السلام وبقدس الملائكة الذين حلوا فيه .
وكذلك قوله عليه السلام { } ، أراد بمحبة المساجد محبة ما يقع فيها من ذكره وتلاوة كتابه والاعتكاف والصلوات ، وأراد ببغض الأسواق ما يقع فيها من الغش والخيانة وسوء المعاملة ، مع كون أهلها لا يأمرون بمعروف ولا ينهون عن منكر ولا يغضون الأبصار عن المحرمات وكذلك قولهم بلد خائف وآمن وصف بصفة من حل فيه من الخائفين والآمنين ، فكذلك وصفه بكونه محبوبا هو وصف بما حصل فيه مما يحبه الله ورسوله ، وهو إقامة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإرشاده أهله إلى ما بعث به ، فكانت حينئذ واجبة عليه ، ومعلوم أن ما كان أحب إلى الله كان أحب إلى رسوله ، وكذلك لما هاجر إلى أحب البلاد إلى الله مساجدها وأبغض البلاد إلى الله تعالى أسواقها المدينة كانت إقامته بها وإرشاده أهلها أحب إلى الله وإليه صلى الله عليه وسلم من إقامته بغيرها ، ومعلوم أن الطاعة التي هي أحب إلى الله من غيرها أحب إلى رسوله من [ ص: 49 ] جميع الطاعات ، ولا يلزم من قوله أحب البقاع إليك ألا تكون أحب إلى رسوله . كما لا يلزم من قوله أحب البقاع إلى أن تكون أحب البقاع إلى ربه . فالتعبير بالأحب في البلدين دال على أن كل واحد من البلدين أحب إلى الله وإلى رسوله ، إذ لا يظن برسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخالف ربه في محبة ما أحبه . ويجوز أن يوصف كل واحد من البلدين بحسب ما وقع فيه : من إبلاغ الرسالة ، والأمر بالطاعات ، والنهي عن المعاصي ، وكل ذلك أحب إلى الله ورسوله مما سواه من النوافل ، وأحسن من هذا أن يكون المعنى : أخرجتني من أحب البقاع إلي في أمر معاشي فأسكني أحب البقاع إليك في أمر معادي وهذا متجه ظاهر ، فإنه لم يزل في زيادة من دينه وتبليغ أمره إلى أن تكامل الوحي وبشره بإكمال دينه وإتمام إنعامه بقوله : { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا } .
ومما يدل على أن الأماكن والأزمان يوصفان بصفة ما يقع فيهما قوله تعالى : { رب اجعل هذا البلد آمنا } وقوله { أو لم يروا أنا جعلنا حرما آمنا } فوصفهما بصفة أهلهما .
وكذلك قوله سبحانه : { إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها } وصفها بالتحريم الواقع فيها وهو تحريم صيدها ، وعضد شجرها واختلاء خلائها ، وتحريم التقاط لقطتها إلا لمنشد . وكذلك وصف سبحانه وتعالى الأشهر بالتحريم .
في قوله : { منها أربعة حرم } . وفي قوله . { الشهر الحرام بالشهر الحرام } .
وقالت العرب . يوم بارد وليل نائم ، ونهار صائم ، ومنه قول جرير :
ونمت وما ليل المطي بنائم
وفي الكتاب . { فذلك يومئذ يوم عسير } ، { فيأخذكم عذاب يوم عظيم } وكذلك يوم عصيب ، وقمطرير ، وثقيل . كل ذلك صفة لما يحصل في تلك الأزمان ، وكذلك وصف ليلة القدر بكونها خيرا من ألف شهر ، إنما هو وصف للعمل الواقع فيها .وأما فضل الثغور فعائد إلى فضيلة الرباط [ ص: 50 ] فيها على نية الجهاد - فيثاب حاضروها على نية الجهاد - وعلى التسبب إليه بالإقامة فيها ، وكذلك حراستها ممن يقصدها من الكفار .
وأما فضيلة المساجد فليست راجعة إلى أجرامها ولا إلى أعراض قامت بأجرامها ، وإنما ترجع فضيلتها إلى مقصودها من إقامة الجماعات والجمعات فيها .
وكذلك الاعتكاف فيها ، وكذلك منع من البيع والشراء فيها ، وإيداع الأماكن والأزمان لهذه الفضائل كإيداع الأنبياء والرسل النبوة والرسالة ليس إلا جودا من الله ، ولذلك قالت الرسل لقومهم : { إن نحن إلا بشر مثلكم ، ولكن الله يمن على من يشاء من عباده } .
وكذلك سائر الأوصاف الشراف لم يضعها الرب سبحانه وتعالى فيمن يشاء من عباده لمعنى اقتضاها واستدعاها ، بل ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء من عباده .
وكذلك ما من به من المعارف والأحوال وحسن الأخلاق ، لم يكن ذلك إلا فضلا من فضله وجودا من جوده على من يشاء من عباده ، فكذلك الأماكن والأزمان أودع الله في بعضها فضلا لا وجود له في غيرها ، مع القطع بالتماثل والمساواة ، وكذلك الأجسام التي فضلت بأعراضها كالذهب والفضة ، وسائر الجواهر النفيسة .