، فالوسيلة إلى أرذل المقاصد أرذل من سائر الوسائل ، فالتوسل إلى الجهل بذات الله وصفاته ، أرذل من التوسل إلى الجهل بأحكامه ، والتوسل إلى القتل أرذل من التوسل إلى الزنا ، والتوسل إلى الزنا أقبح من التوسل إلى أكل بالباطل ، والإعانة على القتل بالإمساك أقبح من الدلالة عليه ، [ ص: 127 ] وكذلك مناولة آلة القتل أقبح من الدلالة عليه ، والنظر إلى الأجنبية محرم لكونه وسيلة إلى الزنا ، والخلوة بها أقبح من النظر إليها ، وعناقها في الخلوة أقبح من الخلوة بها ، والجلوس بين رجليها بغير حائل أقبح من ذلك كله ، لقوة أدائه إلى المفسدة المقصودة بالتحريم . يختلف وزن وسائل المخالفات باختلاف رذائل المقاصد ومفاسدها
وهكذا تختلف رتب الوسائل باختلاف قوة أدائها إلى المفاسد ، فإن الشهوة تشتد بالعناق بحيث لا تطاق ، وليس كذلك النظر ، والتفسير أقبح من ذلك كله لقوة أدائه إلى الزنا ، وكلما قويت الوسيلة في الأداء إلى المفسدة كان إثمها أعظم من إثم ما نقص عنها ، والبيع الشاغل عن الجمعة حرام لا لأنه بيع ، بل لكونه شاغلا عن الجمعة ، فإن رتبت مصلحة التصرف والطاعات على مصلحة الجمعة ، قدم ذلك التصرف على الجمعة . لفضل مصلحته على مصلحة أداء الجمعة ، فيقدم إنقاذ الغريق ، وإطفاء الحريق ، على صلاة الجمعة .
وكذلك يقدم الدفع عن النفوس والأبضاع على صلاة الجمعة من غير تخيير بين هذه الواجبات وبين الجمعة ، بخلاف الأعذار الخفيفة المسقطة لوجوب الجمعة فإنها تخيير بين الظهر والجمعة .
ولو لم يحرم ذلك ، لخروجه عن كونه وسيلة إلى ترك الجمعة ، وكذا النهي عن المنكر وسيلة إلى دفع مفسدة ذلك المنكر المنهي عنه ، ورتبته في الفضل والثواب مبنية على رتبة درء مفسدة الفعل المنهي عنه في باب المفاسد ، ثم تترتب رتبه على رتب المفاسد إلى أن تنتهي إلى أصغر الصغائر ، فالنهي عن الكفر بالله أفضل من كل نهي في باب النهي عن المنكر . فمن قدر على الجمع بين درء أعظم الفعلين مفسدة ودرء أدناهما مفسدة جمع بينهما لما ذكرناه من وجوب الجمع بين ردء المفاسد ، مثل أن تصرف ببيع أو هبة أو غير ذلك من التصرفات وهو ذاهب إلى الجمعة تصرفا لا يشغله عن الجمعة . مثال المتفاوتين أن يرى إنسانا يقتل رجلا وآخر يسلب مال إنسان ، فيقول لهما كفا عما تصنعان . ومثال المتساويين أن يرى اثنين قد اجتمعا على قتل إنسان أو سلب ماله فيقول لهما كفا عن قتله أو سلبه . ينهى عن [ ص: 128 ] منكرين متفاوتين أو متساويين فما زاد ، بكلمة واحدة
وكذلك يقول للجماعة كفوا عما تصنعون ، وإن قدر على دفع المنكرين دفعة واحدة لزمه ذلك ، وإن قدر على دفع أحدهما دفع الأفسد فالأفسد ، والأرذل فالأرذل سواء قدر على دفع ذلك بيده أو بلسانه ، مثل أن يتمكن الغازي من قتل واحد من المشركين بسهم ومن قتل عشرة برمية واحدة تنفذ في جميعهم ، فإنه يقدم رمي العشرة على رمي الواحد ، إلا أن يكون الواحد بطلا عظيم النكاية في الإسلام ، حسن التدبير في الحروب : فيبدأ برميه دفعا لمفسدة بقائه ، لأنها أعظم من مفسدة بقاء العشرة .
وكذلك لو قدر على أن يفتح فوهة نهر على ألف من الكفار لا نجاة لهم منها وقدر على قتل مائة بشيء من آلات القتال لكان فتح فوهة النهر أولى من قتل المائة لما فيه من عظم المصلحة ، وإن كان فتح الفوهة أخف من قتل المائة بالسلاح .
وكذلك تتفاوت كراهة المنكر بالقلوب عند العجز عن إنكاره باليد واللسان بتفاوت رتبه ، فتكون كراهة الأقبح أعظم من كراهة ما دونه .
فإن ولا يفيدان شيئا ، أو غلب على ظنه ، سقط الوجوب لأنه وسيلة ويبقى الاستحباب ، والوسائل تسقط بسقوط المقاصد ، وقد كان صلى الله عليه وسلم يدخل إلى علم الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن أمره ونهيه لا يجديان المسجد الحرام وفيه الأنصاب والأوثان ولم يكن ينكر ذلك كلما رآه .
وكذلك لم يكن كلما رأى المشركين ينكر عليهم ، وكذلك كان السلف لا ينكرون على الفسقة والظلمة فسوقهم وظلمهم وفجورهم ، كلما رأوهم ، مع علمهم أنه لا يجدي إنكارهم .
[ ص: 129 ] وقد يكون من الفسقة من إذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فيزداد فسوقا إلى فسوقه ، وفجورا إلى فجوره ، فمن وجب الإنكار عليه لانتهاك الحرمة ، وذلك مثل اللعب بالشطرنج ، وإن اعتقد تحليله لم يجز الإنكار عليه إلا أن يكون مأخذ المحلل ضعيفا تنقض الأحكام بمثله لبطلانه في الشرع ، إذ لا ينقض إلا لكونه باطلا ، وذلك كمن يطأ جارية بالإباحة معتقدا لمذهب أتى شيئا مختلفا في تحريمه معتقدا تحريمه فيجب الإنكار عليه ، وإن لم يعتقد تحريما ولا تحليلا أرشد إلى اجتنابه من غير توبيخ ولا إنكار ، ولا يخفى أن وسائل المكروه مكروهة ، والمندوب مندوبة ، والمباح مباحة . عطاء
وكذلك ولاية المظالم تختلف باختلاف رتبها في المفاسد فالولاية على القتل والقطع والصلب بغير حق أقبح من الولاية على الضرب بغير حق .
وكذلك الولاية على المكوس وغصب الأموال ، وتضمين الخمور والأبضاع ، وكذلك الإعانة على إثم وعدوان وفسوق وعصيان ، وقد تجوز المعاونة على الإثم والعدوان والفسوق والعصيان لا من جهة كونه معصية ، بل من جهة كونه وسيلة إلى مصلحة وله أمثلة منها ما يبذل في افتكاك الأسارى فإنه حرام على آخذيه مباح لباذليه ومنها أن يريد الظالم قتل إنسان مصادرة على ماله ويغلب على ظنه أنه يقتله إن لم يدفع إليه ماله ، فإنه يجب عليه بذل ماله فكاكا لنفسه ، ومنها أن يكره امرأة على الزنا ولا يتركها إلا بافتداء بمالها أو بمال غيرها فيلزمها ذلك عند إمكانه . وليس هذا على التحقيق معاونة على الإثم والعدوان والفسوق والعصيان وإنما هو إعانة على درء المفاسد فكانت المعاونة على الإثم والعدوان والفسوق والعصيان فيها تبعا لا مقصودا .