أما بعد : فإن الله عز وجل جعل الأموال والمنافع وسائل إلى مصالح دنيوية وأخروية ، ولم يسو بين عباده فيها ابتلاء وامتحانا لمن قدر عليه رزقه ، واتخذ الأغنياء الفقراء سخريا في القيام بمصالحهم كالحرث والزرع والحصد والطحن والخبز والعجن والنساجة والخياطة وبناء المساكن وحمل ونقل الأثقال وحراسة الأموال وغير ذلك من المنافع . فيما تتعلق به الطاعات من الأموال
وكذلك تمنن على عباده بما أباحه من البيع والشراء ، وبما جوزه من الإجارات والجعالات والوكالات تحصيلا للمنافع التي لا تحصى كثرة فإن البيع لو لم يشرعه الشرع لفاتت مصالح الخلق فيما يرجع إلى أقواتهم ولباسهم ومساكنهم ومزارعهم ومغارسهم وسواتر عوراتهم وما يتقربون به إلى عالم خفياتهم ، ولا عبرة بالهبات والوصايا والصدقات لأنها نادرة لا يجود مستحقها إلا نادرا .
وكذلك الإجارات لو لم يجوزها الشرع لفاتت مصالحها من الانتفاع بالمساكن والمراكب والمزارعة والحراثة والسقي والحصاد والتنقية والنقل [ ص: 236 ] والطحن والعجن والخبز ولا عبرة بالعواري وبذل المنافع كالخدمة نحوها فإنها لا تقع إلا نادرا لضنة أربابها مع ما فيها من مشقة المنة على من بذلت له ، ولتعطل الحج والغزو والأسفار إلا على من يملك رقبة الظهر والأدوات والآلات ولكان الإنسان جمالا بغالا سائسا لدوابه حمالا لأمتعته ضاربا لأخبيته ، ولتعطلت المداواة والفصد والحجامة والحلق والدلك وجبر الفك ، ولتعطلت إقامة الحدود لافتقار المرء إلى أن يكون كاتبا حاسبا فلاحا حصادا حطابا صانعا دباغا خياطا حشاشا زبالا بناء نبالا رماحا قواسا حراثا لأمواله حمالا لأعداله وأثقاله ، وكذلك الجعالة لو لم تجز لفات على الملاك ما يحصل لهم من رد المفقود من أموالها كالعبد الآبق ، والفرس العائر ، والجمل الشارد فشرعت الجعالة رفقا بالفاقد والواجد ، وكذلك الوكالة لو لم تشرع لتضرر من يبتذل ولا يعرف التصرف بما يفوته من مصلحة ذلك التصرف ، ولتضرر الوكيل بما يفوته من الثواب إن كان متبرعا أو من الجعل إن كان غير متبرع ، وقد حرم الله أخذ الأموال إلا بأسباب نصبها ، ومعظمها حقوق تتعلق بالدماء والأبضاع والأعراض والأموال كما ذكرناه ولا يجوز أخذ شيء منها إلا بحقه ولا صرفه إلا لمستحقه وأوجب لنفسه حقوقا في الأموال على خلقه ليعود بها على المحتاجين ، ويدفع بها ضرورة المضطرين وذلك في الزكاة والكفارات والمنذورات وندب إلى الصدقات والضحايا والهدايا والوصايا والأوقاف والضيافات .