فصل في بيان أحوال الناس
معظم الناس خاسرون ، وأقلهم رابحون ، فمن أراد أن ينظر في خسره وربحه فليعرض نفسه على الكتاب والسنة فإن وافقهما فهو الرابح إن صدق ظنه في موافقتهما ، وإن كذب ظنه فيا حسرة عليه ، وقد أخبر الله بخسران الخاسرين وربح الرابحين ، وأقسم بالعصر إن الإنسان لفي خسر إلا من [ ص: 229 ] اجتمع فيه أربعة أوصاف :
أحدها : الإيمان .
والثاني : العمل الصالح
والثالث : التواصي بالحق .
والرابع : التواصي بالصبر .
وقد روي أن الصحابة كانوا إذا اجتمعوا لم يفترقوا حتى يقرءوها ، واختلف في العصر فقيل : هي الصلاة الوسطى ، صلاة العصر ، وقيل : العصر آخر النهار ، وقيل : العصر الدهر ، واختلف في الصالحات فقيل : هي الفرائض ، وقيل هي الأعمال الصالحات ، واختلف في الحق فقيل : هو الله ، والتقدير تواصوا بطاعة الحق وقيل : الإسلام ، وقيل القرآن والتقدير تواصوا باتباع الحق كقوله : { واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم } وقوله : { اتبع ما يوحى إليك من ربك } وأما الصبر فيحتمل أن يراد به الصبر على الطاعات فيدخل الصبر عن المعصية وعلى الطاعة ، ويحتمل الصبر على المصائب والبليات ، ويحتمل على البليات والطاعات ، وعن المعاصي والمخالفات واجتماع هذه الخصال في الإنسان عزيز نادر في هذا الزمان ، وكيف يتحقق الإنسان أنه جامع لهذه الصفات التي أقسم الله على خسران من خرج عنها وبعد منها مع علمه بقبح أقواله وسوء أعماله ، فكم من عاص يظن أنه مطيع ، ومن بعيد يظن أنه قريب ، ومن مخالف يعتقد أنه موافق ، ومن منتهك يعتقد أنه متنسك ، ومن مدبر يعتقد أنه مقبل ، ومن هارب يعتقد أنه طالب ، ومن جاهل يعتقد أنه عارف ، ومن آمن يعتقد أنه خائف ، ومن مراء يعتقد أنه مخلص ، ومن ضال يعتقد أنه مهتد ، ومن عم يعتقد أنه مبصر ، ومن راغب يعتقد أنه زاهد ؟ ، وكم من عمل يعتمد عليه المرائي وهو وبال عليه ؟ ، وكم من طاعة يهلك بها المتسمع وهي مردودة إليه ؟ ، والشرع ميزان يوزن به الرجال ، وبه يتيقن الربح من الخسران ، فمن رجح في ميزان الشرع كان من أولياء الله ، وتختلف مراتب الرجحان ، ومن نقص [ ص: 230 ] في ميزان الشرع فأولئك أهل الخسران ، وتتفاوت خفتهم في الميزان ، وأخسها مراتب الكفارة ، ولا تزال المراتب تتناقص حتى تنتهي إلى منزلة مرتكب أصغر الصغائر ، فإذا رأيت إنسانا يطير في الهواء ويمشي على الماء أو يخبر بالمغيبات ، ويخالف الشرع بارتكاب المحرمات بغير سبب محلل ، أو يترك الواجبات بغير سبب مجوز ، فاعلم أنه شيطان نصبه الله فتنة للجهلة وليس ذلك ببعيد من الأسباب التي وصفها الله للضلال ، فإن الدجال يحيي ويميت فتنة لأهل الضلال ، وكذلك يأتي الخربة فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل ، وكذلك يظهر للناس أنه معه جنة ونار فناره جنة ، وجنته نار ، وكذلك من يأكل الحيات ويدخل النيران فإنه مرتكب الحرام بأكل الحيات ، وفاتن الناس بدخول النيران ليقتدوا به في ضلالته ويتابعوه على جهالته .