قاعدة لا طاعة لأحد المخلوقين إلا لمن أذن الله في طاعته كالرسل والعلماء والأئمة والقضاة والولاة والآباء والأمهات والسادات والأزواج والمستأجرين في الإجارات على الأعمال والصناعات ، ولا طاعة لأحد في معصية الله عز وجل لما فيه من المفسدة الموبقة في الدارين أو في أحدهما ، فمن أمر [ ص: 158 ] بمعصية فلا سمع ولا طاعة له ، إلا أن يكره إنسانا على أمر يبيحه الإكراه فلا إثم على مطيعه ، وقد تجب طاعته لا لكونه آمرا بل لدفع مفسدة ما يهدده به من قتل أو قطع أو جناية على بضع ، ولو فيمن تجب طاعته ومن تجوز طاعته ومن لا تجوز طاعته فهل له فعله نظرا إلى رأي الآمر أو يمتنع نظرا إلى رأي المأمور ، فيه خلاف ، وهذا مختص فيما لا ينقض حكم الآمر به ، فإن كان مما ينقض حكمه به فلا سمع ولا طاعة ، وكذلك لا طاعة لجهلة الملوك والأمراء إلا فيما يعلم المأمور أنه مأذون في الشرع . أمر الإمام أو الحاكم إنسانا بما يعتقد الآمر حله والمأمور تحريمه
وتفرد الإله بالطاعة لاختصاصه بنعم الإنشاء والإبقاء والتغذية والإصلاح الديني والدنيوي ، فما من خير إلا هو جالبه ، وما من ضير إلا هو سالبه ، وليس بعض العباد بأن يكون مطاعا بأولى من البعض ، إذ ليس لأحد منهم إنعام بشيء مما ذكرته في حق الإله ، وكذلك لا حكم إلا له فأحكامه مستفادة من الكتاب والسنة والإجماع والأقيسة الصحيحة والاستدلالات المعتبرة ، فليس لأحد أن يستحسن ولا أن يستعمل مصلحة مرسلة ، ولا أن يقلد أحدا لم يؤمر بتقليده : كالمجتهد في تقليد المجتهد أو في تقليد الصحابة وفي هذه المسائل اختلاف بين العلماء ، ويرد على من خالف في ذلك قوله عز وجل : { إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه } .
ويستثنى من ذلك العامة فإن وظيفتهم التقليد لعجزهم عن التوصل إلى معرفة الأحكام بالاجتهاد ، بخلاف المجتهد فإنه قادر على النظر المؤدي إلى الحكم ، ومن فهل له ذلك ؟ فيه خلاف ، والمختار التفصيل ، فإن كان المذهب الذي أراد الانتقال إليه مما ينقض فيه الحكم ; فليس له الانتقال إلى حكم يجب نقضه فإنه لم يجب نقضه إلا لبطلانه ، فإن كان المأخذان متقاربين جاز التقليد والانتقال [ ص: 159 ] لأن الناس لم يزالوا من زمن الصحابة إلى أن ظهرت المذاهب الأربعة يقلدون من اتفق من العلماء من غير نكير من أحد يعتبر إنكاره ، ولو كان ذلك باطلا لأنكروه وكذلك لا يجب قلد إماما من الأئمة ثم أراد تقليد غيره وإن كان هو الأولى ، لأنه لو وجب تقليده لما قلد الناس الفاضل والمفضول في زمن الصحابة والتابعين من غير نكير ، بل كانوا مسترسلين في تقليد الفاضل والأفضل ولم يكن الأفضل يدعو الكل إلى تقليد نفسه ، ولا المفضول يمنع من سأله عن وجود الفاضل وهذا مما لا يرتاب فيه عاقل . تقليد الأفضل
ومن العجب العجيب أن الفقهاء المقلدين يقف أحدهم على ضعف مأخذ إمامه بحيث لا يجد لضعفه مدفعا ومع هذا يقلده فيه ، ويترك من الكتاب والسنة والأقيسة الصحيحة لمذهبه جمودا على تقليد إمامه ، بل يتحلل لدفع ظواهر الكتاب والسنة ، ويتأولهما بالتأويلات البعيدة الباطلة نضالا عن مقلده ، وقد رأيناهم يجتمعون في المجالس فإذا ذكر لأحدهم في خلاف ما وظن نفسه عليه تعجب غاية التعجب من استرواح إلى دليل بل لما ألفه من تقليد إمامه حتى ظن أن الحق منحصر في مذهب إمامه أولى من تعجبه من مذهب غيره ، فالبحث مع هؤلاء ضائع مفض إلى التقاطع والتدابر من غير فائدة يجديها ، وما رأيت أحدا رجع عن مذهب إمامه إذا ظهر له الحق في غيره بل يصير عليه مع علمه بضعفه وبعده ، فالأولى ترك البحث مع هؤلاء الذين إذا عجز أحدهم عن تمشية مذهب إمامه قال لعل إمامي وقف على دليل لم أقف عليه ولم أهتد إليه ، ولم يعلم المسكين أن هذا مقابل بمثله ويفضل لخصمه ما ذكره من الدليل الواضح والبرهان اللائح ، فسبحان الله ما أكثر من أعمى التقليد بصره حتى حمله على مثل ما ذكر ، وفقنا الله لاتباع الحق أين ما كان وعلى لسان من ظهر ، وأين هذا من مناظرة السلف ومشاورتهم في الأحكام ومسارعتهم إلى اتباع الحق إذا ظهر على لسان الخصم ، وقد نقل [ ص: 160 ] عن رحمه الله أنه قال : ما ناظرت أحدا إلا قلت اللهم أجر الحق على قلبه ولسانه ، فإن كان الحق معي اتبعني وإن كان الحق معه اتبعته . الشافعي
( فائدة ) اختلف العلماء في فأجازه بعضهم لأن الظاهر من المجتهدين أنهم أصابوا الحق ، فلا فرق بين مجتهد ومجتهد فإذا جاز للمجتهد أن يعتمد على ظنه المستفاد من الشرع فلم لا يجوز له الاعتماد على ظن المجتهد المعتمد على أدلة الشرع ، ولا سيما إذا كان المقلد أنبل وأفضل في معرفة الأدلة الشرعية ، ومنعه تقليد الحاكم المجتهد لمجتهد آخر وغيره ، وقالوا ثقة بما يجده من نفسه من الظن المستفاد ومن أدلة الشرع أقوى مما يستفيده من غيره ولا سيما إن كان هو أفضل الجماعة ، وخير الشافعي في تقليد من شاء من المجتهدين لأن كل واحد منهم على حق وصواب ، وهذا ظاهر متجه إذا قلنا كل مجتهد مصيب . أبو حنيفة