الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( 34 ) : (8) - حدثنا بحر بن نصر ، قال : ثنا أسد ، قال : ثنا هشيم ، عن أبي بشر ، عن مجاهد ، قال : " بين الملائكة وبين العرش سبعون حجابا من نور ، وحجاب من ظلمة ، وحجاب من نور ، وحجاب من ظلمة " .

قال أبو بكر : لم أخرج في هذا الكتاب من المقطعات ؛ لأن هذا من الجنس الذي نقول : إن علم هذا لا يدرك إلا بكتاب الله وسنة نبيه المصطفى - صلى الله عليه وسلم - لست أحتج في شيء من صفات خالقي - عز وجل - إلا بما هو مسطور في الكتاب أو منقول عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بالأسانيد الصحيحة الثابتة .

أقول وبالله توفيقي ، وإياه استرشد : قد بين الله - عز وجل - في محكم تنزيله الذي هو مثبت بين الدفتين : أن له وجها ، وصفه بالجلال والإكرام والبقاء ، فقال - جل وعلا - : ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام ، ونفى ربنا - جل وعلا - عن وجهه الهلاك في قوله : كل شيء هالك إلا وجهه وزعم بعض جهلة الجهمية : أن الله - عز وجل - إنما وصف في هذه الآية (نفسه) ، التي أضاف إليها الجلال ، بقوله : تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام ، وزعمت أن الرب هو : ذو الجلال والإكرام ، لا الوجه .

قال أبو بكر : أقول وبالله توفيقي : هذه دعوى ، يدعيها جاهل بلغة العرب ، [ ص: 52 ] لأن الله - عز وجل - قال : ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام ، فذكر الوجه مضموما في هذا الموضع ، مرفوعا ، وذكر الرب - بخفض الباء بإضافة الوجه ، ولو كان قوله : ذو الجلال والإكرام مردودا إلى ذكر الرب في هذا الموضوع لكانت القراء ة : ذي الجلال والإكرام مخفوضا - ، كما كان الباء مخفوضا في ذكر الرب - جل وعلا - .

ألم تسمع قوله تبارك وتعالى : تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام ، فلما كان الجلال والإكرام في هذه الآية صفة للرب ، خفض ذي خفض الباء الذي ذكر في قوله : ربك ، ولما كان الوجه في تلك الآية مرفوعة ، التي كانت صفة الوجه مرفوعة ، فقال : ذو الجلال والإكرام . . . . " .

فتفهموا يا ذوي الحجا هذا البيان ، الذي هو (مفهوم في خطاب العرب ، ولا تغالطوا فتتركوا سواء السبيل ، وفي هاتين الآيتين) دلالة أن وجه الله صفة من صفات الله ، صفات الذات ، لا أن وجه الله هو : الله ، ولا أن وجهه غيره ، كما زعمت المعطلة الجهمية ، لأن وجه الله لو كان الله لقرئ : " ويبقى وجه ربك - ذي - الجلال والإكرام " .

فما لمن لا يفهم هذا القدر من العربية ، ووضع الكتب على علماء أهل الآثار ، القائلين بكتاب ربهم وسنة نبيهم - صلى الله عليه وسلم - .

[ ص: 53 ] وزعمت الجهمية - عليهم لعائن الله - أن أهل السنة ومتبعي الآثار ، القائلين بكتاب ربهم وسنة نبيهم - صلى الله عليه وسلم - ، المثبتين لله - عز وجل - من صفاته ما وصف الله به نفسه ، في محكم تنزيله المثبت بين الدفتين وعلى لسان نبيه المصطفى - صلى الله عليه وسلم - بنقل العدل عن العدل موصولا إليه مشبهة ، جهلا منهم بكتاب ربنا وسنة نبينا - صلى الله عليه وسلم - وقلة معرفتهم بلغة العرب ، الذين بلغتهم خوطبنا .

وقد ذكرنا من الكتاب والسنة (في) ذكر وجه ربنا ، بما فيه الغنية والكفاية ، ونزيده شرحا ، فاسمعوا الآن أيها العقلاء : ما نذكر من جنس اللغة السائرة بين العرب ، هل يقع اسم المشبهة على أهل الآثار ومتبعي السنن ؟ .

نحن نقول : وعلماؤنا جميعا في جميع الأقطار : إن لمعبودنا - عز وجل - وجها كما أعلمنا الله في محكم تنزيله ، فذواه بالجلال والإكرام ، وحكم له بالبقاء ، ونفى عنه الهلاك ، ونقول : إن لوجه ربنا - عز وجل - من النور والضياء والبهاء ما لو كشف حجابه لأحرقت سبحات وجهه كل شيء أدركه بصره ، محجوب عن أبصار أهل الدنيا ، لا يراه بشر ما دام في الدنيا الفانية .

ونقول : إن وجه ربنا القديم لا يزال باقيا ، فنفى عنه الهلاك والفناء .

[ ص: 54 ] ونقول : إن لبني آدم وجوها كتب الله عليها الهلاك ، ونفى عنها الجلال والإكرام ، غير موصوفة بالنور والضياء ، والبهاء التي وصف الله بها وجهه . تدرك وجوه بني آدم أبصار أهل الدنيا ، لا تحرق لأحد شعرة فما فوقها ، لنفي السبحات عنها ، التي بينها نبينا المصطفى - صلى الله عليه وسلم - لوجه خالقنا .

ونقول : إن وجوه بني آدم محدثة مخلوقة ، لم تكن ، فكونها الله بعد أن لم تكن مخلوقة ، أوجدها بعد ما كانت عدما ، وإن جميع وجوه بني آدم فانية غير باقية ، تصير جميعا ميتا ، ثم تصير رميما ، ثم ينشئها الله بعد ما قد صارت رميما ، فتلقى من النشور والحشر والوقوف بين يدي خالقها في القيامة ، ومن المحاسبة بما قدمت يداه ، وكسبه في الدنيا ما لا يعلم صفته غير الخالق البارئ .

ثم تصير إما إلى جنة منعمة فيها ، أو إلى النار معذبة فيها ، فهل يخطر - يا ذوي الحجا - ببال عاقل مركب فيه العقل ، يفهم لغة العرب ، ويعرف خطابها ، ويعلم التشبيه ، أن هذا الوجه شبيه بذاك الوجه ؟ وهل هاهنا - أيها العقلاء - ، تشبيه وجه ربنا - جل ثناؤه - الذي هو كما وصفنا وبينا صفته من الكتاب والسنة بتشبيه وجوه بني آدم ، التي ذكرناها ووصفناها ؟ غير اتفاق اسم الوجه ، وإيقاع اسم الوجه على وجه بني آدم ، كما سمى الله وجهه وجها ، ولو [ ص: 55 ] كان تشبيها من علمائنا لكان كل قائل : أن لبني آدم وجها ، وللخنازير والقردة ، والكلاب ، والسباع ، والحمير ، والبغال ، والحيات ، والعقارب ، وجوها ، قد شبه وجوه بني آدم بوجوه الخنازير والقردة ، والكلاب ، وغيرها مما ذكرت .

ولست أحسب أن أعقل الجهمية المعطلة عند نفسه ، لو قال له أكرم الناس عليه : وجهك يشبه وجه الخنزير والقرد ، والدب ، والكلب ، والحمار ، والبغل ونحو هذا إلا غضب ، لأنه خرج من سوء الأدب في الفحش في المنطق من الشتم للمشبه وجهه بوجه ما ذكرنا ، ولعله بعد يقذفه ، ويقذف أبويه .

ولست أحسب أن عاقلا يسمع هذا القائل المشبه وجه ابن آدم بوجوه ما ذكرنا إلا ويرميه بالكذب ، والزور ، والبهت أو بالعته ، والخبل ، أو يحكم عليه بزوال العقل ، ورفع القلم ، لتشبيه وجه ابن آدم بوجوه ما ذكرنا .

فتفكروا يا ذوي الألباب ، أوجوه ما ذكرنا أقرب شبها بوجوه بني آدم ، أو وجه خالقنا بوجوه بني آدم ؟ فإذا لم تطلق العرب تشبيه وجوه بني آدم بوجوه ما ذكرنا من السباع - واسم الوجه ، قد يقع على جميع وجوهها كما يقع اسم الوجه على وجوه بني آدم - ، فكيف يلزم أن يقال لنا : أنتم مشبهة ؟ .

ووجوه بني آدم ، ووجوه ما ذكرنا من السباع والبهائم محدثة ، كلها مخلوقة ، قد قضى الله فناءها وهلاكها ، وقد كانت عدما ، فكونها الله وخلقها وأحدثها .

وجميع ما ذكرناه من السباع والبهائم لوجوهها أبصار ، وخدود وجباه ، وأنوف ، وألسنة ، وأفواه ، وأسنان ، وشفاه .

[ ص: 56 ] ولا يقول مركب فيه العقل لأحد من بني آدم : وجهك شبيه بوجه الخنزير ، ولا عينك شبيه بعين قرد ، ولا فمك فم دب ، ولا شفتاك كشفتي كلب ، ولا خدك خد ذئب - إلا على المشاتمة - ، كما يرمي الرامي الإنسان بما ليس فيه .

فإذا كان ما ذكرنا على ما وصفنا ثبت عند العقلاء وأهل التمييز ، أن من رمى أهل الآثار القائلين بكتاب ربهم وسنة نبيهم - صلى الله عليه وسلم - بالتشبيه فقد قال الباطل والكذب ، والزور والبهتان ، وخالف الكتاب والسنة ، وخرج من لسان العرب .

وزعمت المعطلة من الجهمية : أن معنى الوجه الذي ذكر الله في الآي : التي تلونا من كتاب الله ، وفي الأخبار التي روينا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما تقول العرب : وجه الكلام ، ووجه الدار ، فزعمت - لجهلها بالعلم - أن معنى قوله : وجه الله : كقول العرب : وجه الكلام ، ووجه الدار ، ووجه الثوب ، وزعمت أن الوجوه من صفات المخلوقين .

وهذه فضيحة في الدعوى ، ووقوع في أقبح ما زعموا أنهم يهربون منه ، فيقال لهم : أفليس كلام بني آدم ، والثياب والدور مخلوقة ؟ ، فمن زعم منكم أن معنى قوله : وجه الله : كقول العرب : " وجه الكلام " ، ووجه الثوب ، ووجه الدار ، أليس قد شبه - على أصلكم - وجه الله بوجه الموتان ؟ لزعمكم - يا جهلة - أن [ ص: 57 ] من قال - من أهل السنة والآثار ، القائلين بكتاب ربهم وسنة نبيهم - صلى الله عليه وسلم - لله وجه وعينان ، ونفس ، وأن الله يبصر ويرى ويسمع : أنه مشبه عندكم خالقه بالمخلوقين ، حاش لله أن يكون أحد من أهل السنة والأثر ، شبه خالقه بأحد من المخلوقين .

فإذا كان على ما زعمتم بجهلكم ، فأنتم شبهتم معبودكم بالموتان .

نحن نثبت لخالقنا - جل وعلا - صفاته التي وصف الله - عز وجل - بها نفسه في محكم تنزيله ، أو على لسان نبيه المصطفى - صلى الله عليه وسلم - مما ثبت بنقل العدل عن العدل موصولا إليه .

ونقول : كلاما مفهوما موزونا ، يفهمه كل عاقل نقول : ليس إيقاع اسم الوجه للخالق البارئ بموجب - عند ذوي الحجا والنهى - أنه يشبه وجه الخالق بوجوه بني آدم .

قد أعلمنا الله - جل وعلا - في - الآي التي تلوناها قبل - أن الله وجها ، ذواه بالجلال والإكرام ، ونفى الهلاك عنه ، وخبرنا في محكم تنزيله أنه يسمع ويرى ، فقال - جل وعلا - لكليمه موسى ولأخيه هارون - صلوات الله عليهما : إنني معكما أسمع وأرى ، وما لا يسمع ولا يبصر : كالأصنام ، التي هي من الموتان .

ألم تسمع مخاطبة خليل الله - صلوات الله عليه - أباه : يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا ؟ أفلا يعقل - يا ذوي الحجا - من [ ص: 58 ] فهم عن الله - تبارك وتعالى - هذا : أن خليل الله - صلوات الله عليه وسلامه لا يوبخ أباه على عبادة ما لا يسمع ولا يبصر ، (ثم يدعو إلى عبادة من لا يسمع ولا يبصر) ، ولو قال الخليل - صلوات الله عليه - لأبيه : (أدعوك إلى ربي الذي لا يسمع ولا يبصر) ، لأشبه أن يقول : فما الفرق بين معبودك ومعبودي ؟ .

والله قد أثبت لنفسه أنه يسمع ويرى ، والمعطلة من الجهمية تنكر كل صفة لله - جل وعلا - وصف بها نفسه في محكم تنزيله ، أو على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم - لجهلهم بالعلم ، وقال - عز وجل : أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا .

فأعلم الله - عز وجل - أن من لا يسمع ولا يعقل : كالأنعام ، بل هم أضل سبيلا ، فمعبود الجهمية - عليهم لعائن الله - كالأنعام التي لا تسمع ولا تبصر . والله قد ثبت لنفسه : أنه يسمع ويرى ، والمعطلة من الجهمية تنكر كل صفة لله وصف بها نفسه في محكم تنزيله ، أو على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم - لجهلهم بالعلم ، وذلك أنهم وجدوا في القرآن أن الله قد أوقع أسماء من أسماء صفاته على بعض خلقه ، فتوهموا - لجهلهم بالعلم - أن من وصف الله (بتلك الصفة التي وصف الله) بها [ ص: 59 ] نفسه ، قد شبهه بخلقه ، فاسمعوا - يا ذوي الحجا - ما أبين من جهل هؤلاء المعطلة .

أقول : وجدت الله وصف نفسه في غير موضع من كتابه ، فأعلم عباده المؤمنين أنه سميع بصير ، فقال : وهو السميع البصير ، وذكر - عز وجل - الإنسان فقال : فجعلناه سميعا بصيرا ، وأعلمنا - جل وعلا - أنه يرى ، فقال : وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون ، وقال لموسى وهارون - عليهما السلام - : إنني معكما أسمع وأرى ، فأعلم - عز وجل - أنه يرى أعمال بني آدم ، وأن رسوله - وهو بشر - يرى أعمالهم أيضا ، وقال : ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء وبنو آدم يرون أيضا الطير مسخرات في جو السماء ، وقال - عز وجل - : واصنع الفلك بأعيننا ، وقال : تجري بأعيننا ، وقال : واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا ، فثبت ربنا - عز وجل - لنفسه عينا ، وثبت لبني آدم أعينا ، فقال : ترى أعينهم تفيض من الدمع . . )

[ ص: 60 ] فقد خبرنا ربنا : أن له عينا ، وأعلمنا أن لبني آدم أعينا ، وقال لإبليس عليه لعنة الله : ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي ، وقال : بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء ، وقال : والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه ، فثبت ربنا - جل وعلا - لنفسه يدين ، وخبرنا أن لبني آدم يدين ، فقال : ذلك بما قدمت أيديكم ، وقال : ذلك بما قدمت يداك ، وقال : إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم ، وقال : الرحمن على العرش استوى .

وخبرنا : أن ركبان الدواب يستوون على ظهورها ، وقال في ذكر سفينة نوح : واستوت على الجودي ، أفيلزم - ذوي الحجا - عند هؤلاء الفسقة أن من ثبت لله ما ثبت الله في هذه الآي أن يكون مشبها خالقه بخلقه ، حاشا لله أن يكون هذا تشبيها كما ادعوا لجهلهم بالعلم .

[ ص: 61 ] نحن نقول : إن الله سميع بصير كما أعلمنا خالقنا وبارؤنا ، ونقول من له سمع وبصر من بني آدم : فهو سميع بصير ، ولا نقول : أن هذا تشبيه المخلوق بالخالق .

ونقول : أن لله - عز وجل - يدين ، يمينين لا شمال فيهما ، قد أعلمنا الله تبارك وتعالى أن له يدين ، وخبرنا نبينا - صلى الله عليه وسلم - أنهما يمينان لا شمال فيهما .

[ ص: 62 ] ونقول : إن من كان من بني آدم سليم الجوارح والأعضاء فله يدان : يمين وشمال .

ولا نقول : إن يد المخلوقين كيد الخالق ، - عز ربنا - عن أن تكون يده كيد خلقه ، وقد سمى الله لنا نفسه عزيزا ، وسمى بعض الملوك عزيزا ، فقال : وقال نسوة في المدينة امرأت العزيز تراود فتاها عن نفسه ، وسمى إخوة يوسف أخاهم يوسف : عزيزا ، فقالوا : يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا ، وقال : [ ص: 63 ] قالوا يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر ، فليس عزة خالقنا العزة التي هي صفة من صفات ذاته ، كعزة المخلوقين الذين أعزهم الله بها ، ولو كان كل اسم سمى الله لنا به نفسه ، وأوقع ذلك الاسم على بعض خلقه : كان ذلك تشبيه الخالق بالمخلوق على ما توهم هؤلاء الجهلة من الجهمية ، لكان كل من قرأ القرآن وصدقه بقلبه أنه قرآن ووحي ، وتنزيل ، قد شبه خالقه بخلقه .

وقد أعلمنا ربنا - تبارك تعالى - أنه الملك ، وسمى بعض عبيده (ملكا فقال : وقال الملك ائتوني به ، وأعلمنا - جل جلاله - أنه العظيم ، وسمى بعض عبيده) عظيما ، فقال : وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ، وسمى الله بعض خلقه عظيما فقال : وهو رب العرش العظيم ، فالله العظيم ، وأوقع اسم العظيم على عرشه ، والعرش مخلوق ، وربنا الجبار المتكبر ، فقال : السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر ، وسمى بعض الكفار متكبرا جبارا ، فقال : كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار .

[ ص: 64 ] وبارؤنا - عز وجل - الحفيظ العليم ، وخبرنا أن يوسف - عليه السلام - قال للملك : اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم ، وقال : وبشروه بغلام عليم ، وقال : بغلام حليم ، فالحليم والعليم اسمان لمعبودنا - جل وعلا - ، قد سمى الله بهما بعض بني آدم ، ولو لزم - يا ذوي الحجا - أهل السنة والآثار - إذا أثبتوا لمعبودهم يدين كما ثبتهما الله لنفسه ، وثبتوا له نفسا - عز ربنا وجل - ، وأنه سميع بصير ، يسمع ويرى ، ما ادعى هؤلاء الجهلة عليهم أنهم مشبهة ، - للزم كل من سمى الله ملكا ، أو عظيما ، ورؤوفا ، ورحيما ، وجبارا ، ومتكبرا ، أنه قد شبه خالقه - عز وجل - بخلقه ، حاش لله أن يكون من وصف الله - جل وعلا - بما وصف الله به نفسه ، في كتابه ، أو على لسان نبيه المصطفى - صلى الله عليه وسلم - مشبها خالقه بخلقه .

[ ص: 65 ] (فأما احتجاج الجهمية) : على أهل السنة والآثار في هذا النحو بقوله : ليس كمثله شيء ، فمن القائل إن لخالقنا مثلا ؟ أو إن له شبيها ؟ وهذا من التمويه على الرعاع والسفل ، يموهون بمثل هذا على الجهال ، يوهمونهم أن من وصف الله بما وصف به نفسه في محكم تنزيله أو على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم - فقد شبه الخالق بالمخلوق ، وكيف يكون - يا ذوي الحجا - خلقه مثله ؟ .

نقول : الله القديم لم يزل ، والخلق محدث مربوب ، والله الرازق ، والخلق مرزوقون ، والله الدائم الباقي ، وخلقه هالك غير باق ، والله الغني عن جميع خلقه ، والخلق فقراء إلى الله خالقهم ، وليس في تسميتنا بعض الخلق ببعض أسامي الله ، بموجب عند العقلاء الذين يعقلون عن الله خطابه أن يقال : إنكم شبهتم الله بخلقه ، إذ أوقعتم أسامي الله على خلقه ، وهل يمكن عند هؤلاء الجهال ، حل هذه الأسامي من المصاحف أو محوها من صدور أهل القرآن ؟ أو ترك تلاوتها في المحاريب وفي الجدور والبيوت ؟

أليس قد أعلمنا منزل القرآن على نبيه - صلى الله عليه وسلم - أنه الملك ؟ وسمى بعض عبيده ملكا ، وخبرنا أنه " السلام " ، وسمى تحية المؤمنين بينهم سلاما في الدنيا وفي الجنة ، فقال : تحيتهم يوم يلقونه سلام ، ونبينا المصطفى - صلى الله عليه وسلم - قد كان يقول يوم فراغه [ ص: 66 ] من تسليم الصلاة : " اللهم أنت السلام ، ومنك السلام " ، وقال عز وجل : ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا .

فثبت بخبر الله : أن الله هو السلام ، كما في قوله : السلام المؤمن المهيمن ، وأوقع هذا الاسم على غير الخالق البارئ ، وأعلمنا - عز وجل - أنه المؤمن ، وسمى بعض عباده " المؤمنين " ، فقال : إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم ، وقال : إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله الآية ، وقال : وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا ، وقال : إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات ، وقد ذكرنا قبل أن الله خبر أنه سميع بصير ، وقد أعلمنا أنه جعل الإنسان سميعا بصيرا ، فقال : هل أتى على الإنسان حين من الدهر [ ص: 67 ] إلى قوله : فجعلناه سميعا بصيرا .

والله الحكم العدل ، وخبرنا نبينا - صلى الله عليه وسلم - " أن عيسى ابن مريم ينزل قبل قيام الساعة (حكما عدلا وإماما مقسطا) ، والمقسط أيضا - اسم من أسامي الله - عز وجل - .

في خبر أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في أسامي الرب - عز وجل - فيه " والمقسط " وقال في ذكر الشقاق [ ص: 68 ] بين الزوجين : وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها ، فأوقع اسم الحكم على حكمي الشقاق .

والله العدل ، وأمر عباده بالعدل والإحسان ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قد خبر " أن المقسطين في الدنيا على منابر من نور ، أو من لؤلؤ ، يوم القيامة " ، فاسم [ ص: 69 ] المقسط قد أوقعه النبي - صلى الله عليه وسلم - على بعض أوليائه الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم ، وما ولوا .

وفي خبر عياض بن حمار : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " أهل الجنة ثلاثة : عفيف متصدق ، وذو سلطان مقسط ، ورجل رحيم ، رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم " .

حدثناه أبو موسى ، قال : ثنا محمد بن عدي ، قال : ثنا سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن مطرف ، عن عياض بن حمار المجاشعي قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول . . . . . . . " .

قال أبو بكر : وإن كان المقسط اسما من أسامي ربنا - جل وعلا - وبارؤنا الحليم (جل ربنا ، وسمى الله إبراهيم - عليه السلام - حليما ، فقال : إن إبراهيم لحليم أواه منيب ، وأعلمنا أن نبينا محمدا المصطفى - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 70 ] رؤوف رحيم ، فقال في وصفه : حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم ، والله الشكور وسمى بعض عباده الشكور ، فقال : وقليل من عبادي الشكور ، فسمى الله القليل من عباده الشكور .

والله العلي ، وقال في مواضع من كتابه : يذكر نفسه - عز وجل - : إنه علي حكيم ، وقد سمي بهذا الاسم كثير من الآدميين .

لم نسمع عالما ورعا ، زاهدا فاضلا فقيها ، ولا جاهلا أنكر على أحد الآدميين تسمية ابنه عليا ، ولا كره أحد منهم هذا الاسم للآدميين ، قد دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) باسمه ، حين وجه إليه فقال : " ادع لي عليا " .

والله الكبير ، وجميع المسلمين يوقعون اسم " الكبير " على أشياء ذوات عدد من المخلوقين ، يوقعون اسم " الكبير " على الشيخ الكبير ، وعلى الرئيس ، وعلى كل عظيم ، وكثير من الحيوان وغيرها .

ذكر الله قول إخوة يوسف للملك : إن له أبا شيخا كبيرا ، وقالت [ ص: 71 ] الخثعمية للنبي - صلى الله عليه وسلم - : " إن فريضة الله على عباده أدركت أبي شيخا كبيرا " . فلم ينكر النبي - صلى الله عليه وسلم - عليها تسميتها أباها كبيرا ، ولا قال لها : إن الكبير اسم (من أسامي ) الله تعالى ، (وفي قصة شعيب : وأبونا شيخ كبير . . . ) ، وربنا - عز وجل - الكريم ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قد أوقع اسم الكريم على جماعة من الأنبياء ، فقال : " إن الكريم بن الكريم بن الكريم : يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم " .

[ ص: 72 ] وقال - عز وجل - : فأنبتنا فيها من كل زوج كريم ، فسمى النبي - صلى الله عليه وسلم - كل واحد من هؤلاء الأنبياء كريما .

والله الحكيم ، وسمى كتابه حكيما ، فقال : الم تلك آيات الكتاب الحكيم ، وأهل القبلة يسمون " لقمان الحكيم " ، إذ الله أعلم أنه آتاه الحكمة ، فقال : ولقد آتينا لقمان الحكمة ، وكذلك العلماء يقولون : قال الحكيم من الحكماء ، ويقولون : فلان حكيم من الحكماء .

والله جل وعلا الشهيد ، وسمى الشهود الذين يشهدون على الحقوق شهودا ، فقال : واستشهدوا شهيدين من رجالكم ، وقال - أيضا - : فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا .

وسمى الله - عز وجل - ثم نبيه المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وجميع أهل الصلاة : المقتول - في سبيل الله - شهيدا .

والله الحق قال الله - عز وجل - : فالحق والحق أقول ، وقال : فتعالى الله الملك الحق ، وقال - عز وجل - : ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق ، وقال : وبالحق أنزلناه وبالحق نزل ، وقال : [ ص: 73 ] والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد وهو الحق من ربهم ، وقال : وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق من ربهم ، وقال : وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك ، وقال : الملك يومئذ الحق للرحمن ، وقال : ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق ، وقال : هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ، وقال - جل وعلا - لنبيه - صلى الله عليه وسلم - : إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله .

فكل صواب وعدل في حكم أو فعل ونطق : فاسم الحق واقع عليه ، وإن كان اسم الحق اسما من أسامي ربنا - عز وجل - لا يمنع أحد من أهل القبلة - من العلماء - من إيقاع اسم الحق على كل عدل وصواب .

والله الوكيل ، كما قال الله عز وجل : وهو على كل شيء وكيل ، والعرب لا تمانع بينها من إيقاع اسم " الوكيل " على من يتوكل لبعض بني آدم ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - في خبر جابر قد قال له : " اذهب إلى وكيلي بخيبر " ، وفي أخبار فاطمة بنت [ ص: 74 ] قيس في مخاطبتها للنبي - صلى الله عليه وسلم - : لما أعلمته أن زوجها طلقها ، قالت : وأمر وكيله أن يعطيني شيئا ، وأنها تقالت ما أعطاها وكيل زوجها " .

والعجم - أيضا - يوقعون اسم " الوكيل " على من يتوكل لبعض الآدميين ، كإيقاع العرب سواء .

وأعلم الله : أنه مولى الذين آمنوا ، في قوله : ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم ، وقال - عز وجل - : ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون ، فأوقع اسم الموالي على العصبة ، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " من كنت مولاه فعلي مولاه " .

[ ص: 75 ] وقد أمليت هذه الأخبار في فضائل علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ، وقال - صلى الله عليه وسلم - لزيد بن حارثة لما اشتجر جعفر وعلي بن أبي طالب ، وزيد بن حارثة في ابنة حمزة : قال لزيد : " أنت أخونا ومولانا " ، فأوقع اسم المولى ، - أيضا على المولى من أسفل ، كما أوقع اسم المولى على المولى من أعلى ، فكل معتق قد يقع عليه اسم مولى ، ويقع على المعتق اسم مولى .

وقال - صلى الله عليه وسلم - ، في خبر عائشة - رضي الله عنها - : " أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل " ؛ فقد أوقع الله ، ثم رسوله ، ثم جميع العرب والعجم اسم " المولى " على بعض المخلوقين ، والله - عز وجل - الولي ، وقد سمى الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - وليا ، فقال : إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة الآية .

فسمى الله هؤلاء المؤمنين - أيضا - ، الذين وصفهم في الآية : أولياء ، المؤمنين ، وأعلمنا ، - أيضا - ربنا - عز وجل - ، أن بعض المؤمنين أولياء بعض في قوله : والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض وقال - عز وجل - : النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم .

[ ص: 76 ] والله جل وعلا الحي ، واسم الحي قد يقع - أيضا - على كل ذي روح ، قبل قبض النفس ، وخروج الروح منه قبل الموت ، قال الله - تبارك وتعالى - : يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ، واسم الحي قد يقع - أيضا - على الموتان ، قال الله تعالى : والله أنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها ، وقال الله تعالى : وجعلنا من الماء كل شيء حي ، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " من أحيا أرضا ميتة فهي له " .

والله الواحد ، وكل ما له عدد من الحيوان والموتان ، فاسم الواحد قد يقع على كل واحد من جنس منه ، إذا عد قيل : واحد ، واثنان ، وثلاثة إلى أن ينتهي العدد إلى ما انتهي إليه ، وإذا كان واحد من ذلك الجنس قيل : هذا واحد ، وكذلك يقال : هذا الواحد : صفته كذا وكذا ، لا تمانع العرب في إيقاع اسم الواحد على ما بينت .

وربنا - جل وعلا - الوالي ، وكل من له ولاية من أمر المسلمين ، فاسم الوالي واقع عليه عند جميع أهل الصلاة من العرب .

[ ص: 77 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية