[ ص: 76 ] قال مؤلف الكتاب رحمه الله: وقد روي في حديث آخر أن  المنصور  أراد  أبا حنيفة  على القضاء فامتنع ،  فحلف لا بد أن يتولى له ، فولاه القيام ببناء المدينة  وضرب اللبن ليخرج من يمينه . فتولى ذلك . 
قال الخطيب:  وذكر محمد بن إسحاق البغوي  أن رياحا  البناء حدثه - وكان ممن كان يتولى بناء سور مدينة  المنصور   - قال: كان بين كل باب من أبواب المدينة  إلى الباب الآخر ميل في كل ساف من أسواف البناء مائة ألف لبنة واثنتان وستون ألف لبنة ، فلما بنينا الثلث من السور لقطناه ، فصيرنا في الساف مائة ألف لبنة وخمسين ألف لبنة ، فلما جاوزنا الثلثين لقطناه فصيرنا في البناء مائة ألف [لبنة] وأربعين ألفا إلى أعلاه وذكر أبو بكر بن ثابت أن ارتفاع هذا السور خمسة وثلاثون ذراعا ، وعرضه من أرضه نحو من عشرين ذراعا ، وجعل لها أربعة أبواب ، فإذا جاء أحد من الحجاز دخل من باب الكوفة ، وإذا جاء أحد من المغرب دخل من باب الشام ،  فإذا جاء أحد من الأهواز  وواسط  والبصرة  واليمامة  والبحرين  دخل من باب البصرة ،  وإذا جاء من المشرق دخل من باب خراسان ،  فمن باب خراسان  إلى باب الكوفة  ألفا ذراع ومائتا ذراع ، ومن باب البصرة  إلى باب الشام  ألفا ذراع ومائتا ذراع ، وعلى كل أزج من آزاج هذه الأبواب مجلس ودرجة ، وعليه قبة عظيمة ، وعليها تمثال تديره الريح . وكان  المنصور  يجلس إذا أحب أن ينظر إلى [من يقبل من باب خراسان  في القبة التي تليه ، وإذا أحب أن ينظر إلى] الأرباض وما والاها جلس في قبة باب الشام ،   [ ص: 77 ] وإذا أحب النظر إلى الكرخ جلس في قبة باب البصرة ،  وإذا أحب النظر إلى البساتين جلس في القبة التي على باب الكوفة ،  وعلى كل باب من أبواب المدينة  باب حديد ، نقل تلك الأبواب من واسط  وهي أبواب الحجاج ،  وأن الحجاج  نقلها من مدينة بناها سليمان بن داود  عليهما السلام ، وكان على أبواب المدينة  مما يلي الرحاب سور وحجاب ، وعلى كل باب قائد ، فكان على باب الشام  سليمان بن مجالد  في ألف ، وعلى باب البصرة  أبو الأزهر التميمي  في ألف ، وعلى باب الكوفة  خالد العكي  في ألف ، وعلى باب خراسان  مسلمة بن صهيب الغساني ،  وجعل بين كل ثمانية وعشرين برجا ، إلا بين باب البصرة  وباب الكوفة ،  فإنه يزيد واحدا وعمل عليها الخنادق ، وجعل لها سورين وفيصلين ، وكان لا يدخل أحد من عمومة  المنصور  ولا غيرهم من هذه الأبواب إلا راجلا ، إلا عمه داود ،  فإنه كان منقرسا ، وكان يحمل في محفة . ومحمد المهدي  ابنه ، وكانت تكنس الرحاب في كل يوم يكنسها الفراشون ، ويحمل التراب إلى خارج المدينة   . وقال له عمه عبد الصمد   : يا أمير المؤمنين ، أنا شيخ كبير ، فلو أذنت لي أن أنزل داخل الأبواب ، فلم يأذن له . فقال: يا أمير المؤمنين ، عدني بعض بغال الروايا التي تصل إلى الرحاب . فقال: يا ربيع ،  بغال الروايا تصل إلى رحابي ، فقال: نعم . فقال: تتخذ الساعة قنى بالساج من باب خراسان  حتى تجيء إلى قصري . 
وكانت الأبنية متصلة بالمدينة  من شاطئ دجلة  إلى الكبش  والأسد ،  وهما موضعان قريب من قبر  إبراهيم الحربي .  
أخبرنا عبد الرحمن [بن محمد  قال: أخبرنا أحمد بن] علي  قال: قال لي هلال بن المحسن:  حدثني بشر بن علي بن عبيد الكاتب  قال: كنت أجتاز بالكبش  والأسد  فلا أتخلص في أسواقها من كثرة الزحمة ، ثم بنى القصر والجامع ، وكانت مساحة قصره أربعمائة ذراع في أربعمائة ذراع ، ومساحة المسجد الأول مائتين في  [ ص: 78 ] مائتين ، وأساطين الخشب في المسجد كل أسطوانة قطعتين معقبة بالعقب والغراء وضباب الحديد إلا خمسا أو ستا عند المنارة [ ، فإن كل أسطوانة قطع ملفقة] ، وكان في صدر قصره القبة الخضراء ، من الأرض إلى رأس القبة الخضراء ثمانون ذراعا ، وعلى رأس القبة تمثال فرس عليه فارس . 
أخبرنا محمد بن عبد الباقي  قال: أخبرنا أبو القاسم التنوخي  قال: سمعت جماعة من مشايخنا يذكرون أن القبة الخضراء كان على رأسها صنم على صورة فارس في يده رمح ، فكان السلطان إذا رأى ذلك الصنم قد استقبل بعض الجهات ومد الرمح نحوها علم أن بعض الخوارج يظهر من تلك الجهة ، فلا يطول الوقت حتى ترد عليه الأخبار بأن خارجيا قد نجم من تلك الجهة . 
قال التنوخي   : وحدثني أبو الحسن بن عبيد الزجاج  الشاهد قال: أذكر في سنة سبع وثلاثمائة وقد كسرت العامة الحبوس بمدينة  المنصور  ، فأفلت من كان فيها ، وكانت الأبواب الحديد التي للمدينة باقية فغلقت ، وتتبع أصحاب الشرط من أفلت من الحبوس فأخذوا جميعهم حتى لم يفتهم منهم أحد . 
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد  قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت  قال: أخبرنا الحسين بن محمد المؤدب  قال: أخبرني إبراهيم بن عبد الله بن إبراهيم  بجرجان  قال: حدثنا أبو إسحاق الهجيمي  قال: قال  أبو العيناء:  بلغني أن  المنصور  جلس يوما فقال للربيع:  انظر من بالباب من وفود الملوك فأدخله . فقال: وافد من قبل ملك الروم .  فقال: أدخله . فدخل فبينا هو جالس عند أمير المؤمنين إذ سمع  المنصور  صرخة كادت تقلع القصر . فقال: يا ربيع ،  ينظر ما هذا؟ قال: ثم سمع صرخة هي أشد من الأولى . فقال: يا ربيع ،  ينظر ما هذا؟ قال: ثم سمع صرخة هي أشد من الأوليين ، فقال: يا ربيع ،  اخرج بنفسك فخرج ، ثم دخل فقال: يا أمير المؤمنين ، بقرة قربت لتذبح فغلبت الجازر وخرجت تدور في الأسواق . فأصغى الرومي إلى الربيع  يتفهم ما قال ، ففطن  المنصور  لإصغاء الرومي ، فقال: يا ربيع ،  أفهمه ،  [ ص: 79 ] فأفهمه . فقال الرومي: يا أمير المؤمنين ، إنك بنيت بناء لم يبنه أحد كان قبلك ، وفيه ثلاثة عيوب ، قال: وما هي؟ قال: أول عيب فيه بعده عن الماء ، ولا بد للناس من الماء لشفاههم . [وأما العيب الثاني: فإنها ليس فيها بساتين يتنزه فيها] . وأما العيب الثالث: فإن رعيتك معك في بنيانك إذا كانت الرعية مع الملك في بنيانه فشا سره . قال: فتجلد عليه  المنصور  فقال: أما قولك في الماء فحسبنا من الماء ما بل شفاهنا . وأما العيب الثاني فإنا لم نخلق للهو واللعب ، وأما العيب الثالث في سري فما لي سر دون رعيتي . ثم عرف وجه الصواب . فقال: مدوا لي قناتين من دجلة  واغرسوا لي العباسية ،  وانقلوا الناس إلى الكرخ .  
قال الخطيب:  مد  المنصور  قناة من نهر دجيل  الآخذ من دجلة ،  وقناة من نهر كرخايا  الأخذ من الفرات  وجرهما إلى مدينته  في عقود وثيقة من أسفلها ، محكمة بالصاروج والآجر من أعلاها ، فكانت كل قناة منها تدخل المدينة  وتنفذ في الشوارع والدروب والأرباض ، وتجري صيفا وشتاء لا ينقطع ماؤها ، وجر لأهل الكرخ  وما يتصل بها أنهارا . 
وأما الجامع فقد ذكرنا أن  المنصور  جعل مساحته مائتين في مائتين ، ولما جاء  الرشيد  أمر بنقضه وإعادة بنائه بالآجر والجص ، ففعل ذلك وكتب عليه اسم  الرشيد ،  وتسمية البناء والنجار ، وذلك ظاهر الجدران إلى الآن ، وكانت الصلاة في الصحن العتيق الذي هو الجامع ، حتى زيد فيه الدار المعروفة بالقطان ، وكانت قديما ديوانا  للمنصور ،  فأمر مفلح التركي  ببنائها على يد صاحبه القطان ،  فنسب إليه ، ثم زاد  المعتضد  الصحن الأول - وهو قصر  المنصور   - ووصله بالجامع ، وزاد بدر مولى المعتضد  من قصر  المنصور  السفطات المعروفة بالبدرية . 
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد  قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت  قال: قال لي هلال بن المحسن  قال: حدثني أبو الحسين محمد بن الحسن بن محفوظ  قال: كنت  [ ص: 80 ] أمضي مع والدي إلى الجامع بالمدينة لصلاة الجمعة ، فربما وصلنا إلى باب خراسان  في دجلة  وقد قامت الصلاة ، وامتدت الصفوف إلى الشاطئ ، فنصعد ونفرش إلى السميرية ونصلي . 
قال هلال:  وأذكر الصفوف ممتدة من جامع الرصافة  إلى الباب الجديد من شارع الرصافة .  
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					