الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وفيها: أسست مدينة بغداد:

وكان سبب ذلك: أن أبا جعفر بنى - حين أفضي الأمر إليه - الهاشمية قبالة مدينة ابن هبيرة إلى جنب الكوفة ، وبنى أبو جعفر أيضا مدينة بظهر الكوفة سماها: الرصافة .

فلما ثارت الروندية بأبي جعفر في مدينته التي يقال لها: الهاشمية كره سكناها لاضطراب من اضطرب عليه من الروندية ، ولم يأمن على نفسه . فخرج يرتاد موضعا يتخذه مسكنا لنفسه وجنده ، ويبني به مدينة ، فانحدر إلى جرجرايا ، ثم صار إلى بغداد ، ثم مضى إلى الموصل ، ثم عاد إلى بغداد فقال: هذا موضع صالح ، وهذه دجلة ليس بيننا وبين الصين شيء ، يأتينا فيها كل ما في البحر ، وتأتينا الميرة من الجزيرة وأرمينية وما حول ذلك ، وهذه الفرات يجيء فيها كل شيء بالشام والرقة ، وضرب عسكره على الصراة ، وخط المدينة ، ووكل بكل ربع قائدا . [ ص: 70 ]

أخبرنا عبد الرحمن بن محمد القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرني محمد بن علي الوراق وأحمد بن علي المحتسب قالا: أخبرنا أبو محمد بن جعفر بن هارون الكوفي قال: حدثنا الحسن بن محمد السكوني قال: حدثنا محمد بن خلف قال: زعم عبد الله بن أبي سعيد قال: حدثني أحمد بن حميد بن جبلة قال: حدثني أبي ، عن جدي جبلة قال: كانت مدينة أبي جعفر قبل بنائها مزرعة البغداديين يقال لها: المباركة ، وكانت لستين نفسا من البغداديين ، فعوضهم عنها عوضا أرضاهم فأخذ جدي جبلة قسمه فيهم .

أخبرنا عبد الرحمن قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: ذكر علماء الأوائل أن أقاليم الأرض سبعة ، وأن الهند رسمتها فجعلت صفة الأقاليم كأنها حلقة ، فالإقليم الأول منها: إقليم بلاد الهند ، والإقليم الثاني إقليم الحجاز ، والإقليم الثالث إقليم مصر ، والإقليم الرابع إقليم بابل ، وهو أوسط الأقاليم وأعمرها ، وفيه جزيرة العرب ، وفيه العراق الذي هو سرة الدنيا ، وبغداد في وسط هذا الإقليم . والإقليم الخامس بلاد الروم ، والإقليم السادس بلاد الترك ، والإقليم السابع بلاد الصين . والإقليم الرابع الذي فيه العراق - وفي العراق بغداد - هو صفوة الأرض ووسطها لا يلحق من فيه عيب سرف ولا تقصير ، فكذلك اعتدلت ألوان أهله ، وامتدت أجسامهم ، وسلموا من شقرة الروم والصقالبة ، ومن سواد الحبش وسائر أجناس السودان ، ومن غلظ الترك ، ومن جفاء أهل الجبال وخراسان ، ومن دمامة أهل الصين ومن جانسهم ، واجتمعت في أهل هذا القسم من الأرض محاسن جميع أهل الأقطار ، وكما اعتدلوا في الخلقة ، كذلك لطفوا في الفطنة والتمسك بالعلم والآداب ، وهم أهل العراق ومن جاورهم .

أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرنا الحسن بن علي بن عبد الله المقرئ قال: أخبرنا محمد بن جعفر التميمي قال: أخبرنا أبو أحمد الجلودي قال: حدثنا محمد بن زنجويه ، عن ابن عائشة قال: كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى كعب الأحبار اختر لي المنازل . قال: فكتب: يا أمير [ ص: 71 ] المؤمنين إنه بلغنا أن الأشياء اجتمعت فقال السخاء: أريد اليمن . فقال حسن الخلق: أنا معك . فقال الجفاء: أريد الحجاز فقال الفقر: وأنا معك . فقال البأس: أريد الشام . فقال السيف: وأنا معك . فقال العلم: أريد العراق . فقال العقل: وأنا معك . فقال الغنى: أريد مصر . فقال الذل: وأنا معك . فاختر لنفسك ، فلما ورد الكتاب على عمر قال: فالعراق إذن ، فالعراق إذن .

أخبرنا عبد الرحمن قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: قرأت على أبي بكر أحمد بن محمد اليزدي ، عن أبي شيخ عبد الله بن محمد بن حيان قال: حدثني أبو الحسن البغدادي قال: قال إبراهيم بن عبد الله: جئت إلى الجاحظ فقال: الأمصار عشرة: الصناعة بالبصرة ، والفصاحة بالكوفة ، والخير ببغداد ، والغدر بالري ، والحسد بهراة ، والجفاء بنيسابور ، والبخل بمرو ، والطرمذة بسمرقند ، والمروءة ببلخ ، والتجارة بمصر .

وقال سليمان بن مجالد: خرج المنصور يرتاد منزلا ، فخرجنا على ساباط ، فتخلف بعض أصحابي لرمد أصابه ، وأقام يعالج عينيه ، فسأله الطبيب أين يريد أمير المؤمنين؟ قال: يرتاد منزلا قال: فإنا نجد في كتاب عندنا أن رجلا يدعى مقلاصا يبني مدينة بين دجلة والصراة تدعى: الزوراء ، فإذا أسسها وبنى عرقا منها أتاه فتق من الحجاز فقطع بناءها وأقبل على إصلاح ذلك الفتق ، فإذا كاد يلتئم أتاه فتق من البصرة هو أكبر منه ، فلا يلبث الفتقان أن يلتئما ثم يعود إلى بنائها فيتمه ، ثم يعمر طويلا ، ويبقى الملك في عقبه . قال سليمان: فإن أمير المؤمنين لبأطراف الجبال في ارتياد منزل إذ قدم علي صاحبي فأخبرني الخبر ، فأخبرت به أمير المؤمنين . فدعا الرجل فحدثه الحديث ، فكر راجعا عوده على بدئه وقال: والله أنا ذلك لقد سميت مقلاصا وأنا صبي ، ثم انقطعت عني ، ثم شاور في ذلك ، فاتفق رأي القوم على بغداد ، وقالوا له: تجيئك الميرة من العرب في الفرات وطرائف مصر والشام ، وتجيئك [ ص: 72 ] الميرة في السفن من الصين والهند والبصرة وواسط في دجلة ، وتجيئك الميرة من أرمينية وما اتصل بها في تامرا حتى تصل إلى الزاب ، وتجيئك الميرة من الروم وآمد والجزيرة والموصل في دجلة ، وأنت بين أنهار لا يصل إليك [عدوك] إلا على جسر أو قنطرة ، فإذا قطعت الجسر وأخربت القناطر لم يصل إليك عدو وأنت بين دجلة والفرات ، لا يجيئك أحد من المشرق أو المغرب إلا احتاج إلى العبور بدجلة والفرات خنادق لمدينة أمير المؤمنين .

فوجه في حشر الصناع والفعلة من الشام والموصل والجبل والكوفة وواسط والبصرة فأحضروا ، وأمر باختيار قوم من أهل الفضل والعدالة والفقه والأمانة والمعرفة بالهندسة ، وكان ممن أحضر الحجاج بن أرطأة وأبو حنيفة والنعمان بن ثابت .

وأمر بخط المدينة ، وحفر الأساسات ، وضرب اللبن ، وحرق الآجر ، وكان أول ما ابتدأ به في عملها سنة خمس وأربعين [ومائة] ، وأحب أن ينظر إليها ، فأمر أن تخط بالرماد ، وأقبل يدخل من كل باب ، ويمر في فضلاتها وطاقتها ورحابها وهي مخطوطة بالرماد ، وأمر أن يحفر أساس ذلك على ذلك الرسم .

قال ابن عياش: فوضع أول لبنة بيده وقال: بسم الله وبالله ، و الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين ثم قال: ابنوا على بركة الله وعونه .

وقال حماد التركي: لما وقع اختيارهم على موضع بغداد ، وكان في موضع الخلد دير وفي فرات الصراة قرية ، وكانت القرية تسمى العتيقة ، وهي التي افتتحها المثنى بن حارثة ، وجاء المنصور فنزل الدير في موضع الخلد على الصراة ، فوجده قليل البق ، فقال: هذا موضع أرضاه ، تأتيه الميرة من الفرات ودجلة . فبناه ، وكان موضع قرى ومزارع .

ولما احتاج المنصور في بنائه إلى الأنقاض قال لخالد بن برمك: ما ترى في نقض بناء كسرى بالمدائن وحمل نقضه إلى مدينتي هذه . فقال: لا أرى ذلك . قال: [ ص: 73 ] ولم؟ قال: لأنه علم من [أعلام] الإسلام يستدل به الناظر إليه على أنه لم يكن ليزال مثل أصحابه عنه بأمر دنيا ، وإنما هو بأمر دين . فقال: أبيت إلا الميل إلى أصحابك العجم . وأمر أن ينقض القصر الأبيض ، فنقضت ناحية منه ، وحمل نقضه ، فنظر في مقدار ما يلزمهم للنقض والحمل فوجدوا ذلك أكثر من ثمن الجديد ، فرفع ذلك إلى المنصور ، فدعا خالدا فأخبره وقال: ما ترى؟ قال: قد كنت أرى أن لا تفعل ، فأما إذ فعلت فأرى أن تهدم الآن حتى تلحق بقواعده لئلا يقال إنك عجزت عن هدمه . فأعرض المنصور عن ذلك وأمر أن لا يهدم .

أخبرنا أبو منصور عبد الرحمن بن محمد القزاز قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرنا الحسن بن علي الجوهري قال: أخبرنا محمد بن عمر المرزباني قال: أخبرنا أبو الحسين عبد الواحد بن محمد الحصيني قال: حدثني أبو علي أحمد بن إسماعيل قال: لما صارت الخلافة إلى المنصور أمر بنقض إيوان المدائن فاستشار جماعة من أصحابه ، وكلهم أشار عليه بمثل ما هم ، وكان معه كاتب من الفرس فاستشاره في ذلك فقال له: يا أمير المؤمنين ، أنت تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من تلك القرية - يعني المدينة - وكان له بها مثل ذلك المنزل ، ولأصحابه مثل تلك الحجر ، فخرج أصحاب ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم حتى جاءوا مع ضعفهم إلى صاحب هذا الإيوان مع عزته وصعوبة أمره ، حتى غلبوه وأخذوه من يديه قسرا وقهرا ، ثم قتلوه ، فيجيء الجائي من أقاصي الأراضي فينظر إلى تلك المدينة وإلى هذا الإيوان ، ويعلم أن صاحبها قهر صاحب هذا الإيوان ، فلا يشك أنه بأمر الله عز وجل ، وأنه هو الذي أيده ، وكان معه ومع أصحابه ، وفي تركه فخر لكم ، فاستغشه المنصور واتهمه لقرابته من القوم ، ثم بعث في بعض الإيوان فنقض منه الشيء اليسير ، ثم كتب إليه أنه يغرم في نقضه أكثر مما يسترجع ، وأن هذا تلف للأموال وذهابها . فدعا الكاتب فاستشاره فيما كتب به إليه ، فقال له: قد كنت أشرت بشيء لم يقبل مني ، وأما الآن فإني آنف لكم أن يكونوا أولئك بنوا بناء تعجزون أنتم عن [ ص: 74 ] هدمه والصواب أن تبلغ به الماء . ففكر المنصور فعلم أنه قد صدق ، ثم نظر فإذا هدمه يتلف الأموال فأمر بالإمساك عنه .

وقيل إن أبا جعفر لما أمر بحفر الخنادق وأنشأ بناء الأساس أمر أن يجعل عرض السور من أسفله خمسين ذراعا ، وقدر أعلاه عشرين ذراعا ، فلما بلغ البناء قامة أتاه خروج محمد فقطع البناء ، وخرج إلى الكوفة ، فلما فرغ من حرب محمد رجع إلى بغداد .

أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرنا الحسن بن أبي طالب قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن عروة قال: أخبرنا أبو بكر الصولي قال: قال رجل من ولد الربيع: لما أراد أبو جعفر أن يبني لنفسه كان يؤتى من كل مدينة بتراب فيعفنه فيصير عقارب وهوام ، حتى أتى بتربة بغداد ، فخرج صرارات ، وأتى الخلد فنظر إلى دجلة والفرات فأعجبه ، فرآه راهب كان هناك وهو يقدر بناءها . فقال: لا يتم ، فبلغه فأتاه .

فقال: نعم! . نجد في كتبنا أن الذي يبنيها ملك يقال له: مقلاص . قال أبو جعفر : كانت والله أمي تلقبني في صغري مقلاصا .

أخبرنا عبد الرحمن قال: أخبرنا أبو بكر الخطيب قال: أخبرنا ابن أبي علي المعلى قال: أخبرنا طلحة بن محمد بن جعفر قال: أخبرنا محمد بن جرير إجازة: أن أبا جعفر ابتدأ أساس المدينة سنة خمس وأربعين ومائة ، واستتم البناء سنة ست وأربعين ومائة وسماها مدينة السلام .

قال الخطيب: وبلغني أنه لما عزم على بنائها أحضر المهندسين وأهل المعرفة بالبناء والعلم بالذرع والمساحة وقسمة الأرض ، فمثل لهم صفتها التي في نفسه ، ثم أحضر الفعلة والصناع من النجارين والحفارين والحدادين وغيرهم ، وأجرى عليهم الأرزاق ، وكتب إلى كل بلد في حمل من فيه ممن يفهم شيئا من أمر البناء ، ولم يبتدئ في البناء حتى تكامل بحضرته من أهل الصناعات ألوف كثيرة ، ثم اختطها وجعلها مدورة . ويقال: لا يعرف في أقطار الأرض كلها مدينة مدورة سواها ، ووضع أساسها في وقت اختاره نوبخت المنجم . [ ص: 75 ]

أخبرنا عبد الرحمن قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرنا أبو عمر الحسن بن عثمان بن الفلو قال: أخبرنا جعفر بن محمد بن أحمد بن الحكم قال: حدثني أبو الفضل العباس بن أحمد الحداد قال: سمعت أحمد البربري يقول: مدينة أبي جعفر ثلاثون ومائة جريب ، خنادقها وسورها ثلاثون جريبا ، وأنفق عليها ثمانية عشر ألف ألف .

قال الخطيب: ورأيت في بعض الكتب أن المنصور أنفق على مدينته وجامعها وقصر الذهب فيها والأبواب والأسواق إلى أن فرغ من بنائها أربعة آلاف وثلاثة وثمانين درهما ، مبلغها من الفلوس مائة ألف فلس وثلاثة وعشرون ألف فلس ، وذلك أن الأستاذ من الصناع كان يعمل يومه بقيراط إلى خمس حبات ، والروزداري يعمل بحبتين إلى ثلاث حبات ، وهذا خلاف ما تقدم ذكره ، وبين القولين تفاوت كثير .

أخبرنا عبد الرحمن قال: أخبرنا أبو بكر بن ثابت الخطيب قال: أخبرنا محمد بن علي الوراق قال: أخبرنا محمد بن جعفر النحوي قال: حدثنا الحسن بن محمد السكوني قال: حدثنا محمد بن خلف قال: قال يحيى بن الحسن بن عبد الخالق: خط المدينة ميل في ميل ، ولبنها ذراع في ذراع .

قال ابن خلف: قال أحمد بن محمد الشروي: وهدمنا من السور الذي على باب المحول قطعة ، فوجدنا فيها لبنة مكتوب عليها بمغرة وزنها مائة وسبعة عشر رطلا ، فوزناها فوجدناها كذلك قال الخطيب: وبلغني عن محمد بن خلف أن أبا حنيفة النعمان بن ثابت كان يتولى القيام بضرب لبن المدينة وعدده حتى فرغ من استتمام بناء حائط المدينة مما يلي الخندق . وكان أبو حنيفة يعد اللبن بالقصب ، وهو أول من فعل ذلك ، فاستفاده الناس منه .

التالي السابق


الخدمات العلمية