الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 76 ] قال مؤلف الكتاب رحمه الله: وقد روي في حديث آخر أن المنصور أراد أبا حنيفة على القضاء فامتنع ، فحلف لا بد أن يتولى له ، فولاه القيام ببناء المدينة وضرب اللبن ليخرج من يمينه . فتولى ذلك .

قال الخطيب: وذكر محمد بن إسحاق البغوي أن رياحا البناء حدثه - وكان ممن كان يتولى بناء سور مدينة المنصور - قال: كان بين كل باب من أبواب المدينة إلى الباب الآخر ميل في كل ساف من أسواف البناء مائة ألف لبنة واثنتان وستون ألف لبنة ، فلما بنينا الثلث من السور لقطناه ، فصيرنا في الساف مائة ألف لبنة وخمسين ألف لبنة ، فلما جاوزنا الثلثين لقطناه فصيرنا في البناء مائة ألف [لبنة] وأربعين ألفا إلى أعلاه وذكر أبو بكر بن ثابت أن ارتفاع هذا السور خمسة وثلاثون ذراعا ، وعرضه من أرضه نحو من عشرين ذراعا ، وجعل لها أربعة أبواب ، فإذا جاء أحد من الحجاز دخل من باب الكوفة ، وإذا جاء أحد من المغرب دخل من باب الشام ، فإذا جاء أحد من الأهواز وواسط والبصرة واليمامة والبحرين دخل من باب البصرة ، وإذا جاء من المشرق دخل من باب خراسان ، فمن باب خراسان إلى باب الكوفة ألفا ذراع ومائتا ذراع ، ومن باب البصرة إلى باب الشام ألفا ذراع ومائتا ذراع ، وعلى كل أزج من آزاج هذه الأبواب مجلس ودرجة ، وعليه قبة عظيمة ، وعليها تمثال تديره الريح . وكان المنصور يجلس إذا أحب أن ينظر إلى [من يقبل من باب خراسان في القبة التي تليه ، وإذا أحب أن ينظر إلى] الأرباض وما والاها جلس في قبة باب الشام ، [ ص: 77 ] وإذا أحب النظر إلى الكرخ جلس في قبة باب البصرة ، وإذا أحب النظر إلى البساتين جلس في القبة التي على باب الكوفة ، وعلى كل باب من أبواب المدينة باب حديد ، نقل تلك الأبواب من واسط وهي أبواب الحجاج ، وأن الحجاج نقلها من مدينة بناها سليمان بن داود عليهما السلام ، وكان على أبواب المدينة مما يلي الرحاب سور وحجاب ، وعلى كل باب قائد ، فكان على باب الشام سليمان بن مجالد في ألف ، وعلى باب البصرة أبو الأزهر التميمي في ألف ، وعلى باب الكوفة خالد العكي في ألف ، وعلى باب خراسان مسلمة بن صهيب الغساني ، وجعل بين كل ثمانية وعشرين برجا ، إلا بين باب البصرة وباب الكوفة ، فإنه يزيد واحدا وعمل عليها الخنادق ، وجعل لها سورين وفيصلين ، وكان لا يدخل أحد من عمومة المنصور ولا غيرهم من هذه الأبواب إلا راجلا ، إلا عمه داود ، فإنه كان منقرسا ، وكان يحمل في محفة . ومحمد المهدي ابنه ، وكانت تكنس الرحاب في كل يوم يكنسها الفراشون ، ويحمل التراب إلى خارج المدينة . وقال له عمه عبد الصمد : يا أمير المؤمنين ، أنا شيخ كبير ، فلو أذنت لي أن أنزل داخل الأبواب ، فلم يأذن له . فقال: يا أمير المؤمنين ، عدني بعض بغال الروايا التي تصل إلى الرحاب . فقال: يا ربيع ، بغال الروايا تصل إلى رحابي ، فقال: نعم . فقال: تتخذ الساعة قنى بالساج من باب خراسان حتى تجيء إلى قصري .

وكانت الأبنية متصلة بالمدينة من شاطئ دجلة إلى الكبش والأسد ، وهما موضعان قريب من قبر إبراهيم الحربي .

أخبرنا عبد الرحمن [بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن] علي قال: قال لي هلال بن المحسن: حدثني بشر بن علي بن عبيد الكاتب قال: كنت أجتاز بالكبش والأسد فلا أتخلص في أسواقها من كثرة الزحمة ، ثم بنى القصر والجامع ، وكانت مساحة قصره أربعمائة ذراع في أربعمائة ذراع ، ومساحة المسجد الأول مائتين في [ ص: 78 ] مائتين ، وأساطين الخشب في المسجد كل أسطوانة قطعتين معقبة بالعقب والغراء وضباب الحديد إلا خمسا أو ستا عند المنارة [ ، فإن كل أسطوانة قطع ملفقة] ، وكان في صدر قصره القبة الخضراء ، من الأرض إلى رأس القبة الخضراء ثمانون ذراعا ، وعلى رأس القبة تمثال فرس عليه فارس .

أخبرنا محمد بن عبد الباقي قال: أخبرنا أبو القاسم التنوخي قال: سمعت جماعة من مشايخنا يذكرون أن القبة الخضراء كان على رأسها صنم على صورة فارس في يده رمح ، فكان السلطان إذا رأى ذلك الصنم قد استقبل بعض الجهات ومد الرمح نحوها علم أن بعض الخوارج يظهر من تلك الجهة ، فلا يطول الوقت حتى ترد عليه الأخبار بأن خارجيا قد نجم من تلك الجهة .

قال التنوخي : وحدثني أبو الحسن بن عبيد الزجاج الشاهد قال: أذكر في سنة سبع وثلاثمائة وقد كسرت العامة الحبوس بمدينة المنصور ، فأفلت من كان فيها ، وكانت الأبواب الحديد التي للمدينة باقية فغلقت ، وتتبع أصحاب الشرط من أفلت من الحبوس فأخذوا جميعهم حتى لم يفتهم منهم أحد .

أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرنا الحسين بن محمد المؤدب قال: أخبرني إبراهيم بن عبد الله بن إبراهيم بجرجان قال: حدثنا أبو إسحاق الهجيمي قال: قال أبو العيناء: بلغني أن المنصور جلس يوما فقال للربيع: انظر من بالباب من وفود الملوك فأدخله . فقال: وافد من قبل ملك الروم . فقال: أدخله . فدخل فبينا هو جالس عند أمير المؤمنين إذ سمع المنصور صرخة كادت تقلع القصر . فقال: يا ربيع ، ينظر ما هذا؟ قال: ثم سمع صرخة هي أشد من الأولى . فقال: يا ربيع ، ينظر ما هذا؟ قال: ثم سمع صرخة هي أشد من الأوليين ، فقال: يا ربيع ، اخرج بنفسك فخرج ، ثم دخل فقال: يا أمير المؤمنين ، بقرة قربت لتذبح فغلبت الجازر وخرجت تدور في الأسواق . فأصغى الرومي إلى الربيع يتفهم ما قال ، ففطن المنصور لإصغاء الرومي ، فقال: يا ربيع ، أفهمه ، [ ص: 79 ] فأفهمه . فقال الرومي: يا أمير المؤمنين ، إنك بنيت بناء لم يبنه أحد كان قبلك ، وفيه ثلاثة عيوب ، قال: وما هي؟ قال: أول عيب فيه بعده عن الماء ، ولا بد للناس من الماء لشفاههم . [وأما العيب الثاني: فإنها ليس فيها بساتين يتنزه فيها] . وأما العيب الثالث: فإن رعيتك معك في بنيانك إذا كانت الرعية مع الملك في بنيانه فشا سره . قال: فتجلد عليه المنصور فقال: أما قولك في الماء فحسبنا من الماء ما بل شفاهنا . وأما العيب الثاني فإنا لم نخلق للهو واللعب ، وأما العيب الثالث في سري فما لي سر دون رعيتي . ثم عرف وجه الصواب . فقال: مدوا لي قناتين من دجلة واغرسوا لي العباسية ، وانقلوا الناس إلى الكرخ .

قال الخطيب: مد المنصور قناة من نهر دجيل الآخذ من دجلة ، وقناة من نهر كرخايا الأخذ من الفرات وجرهما إلى مدينته في عقود وثيقة من أسفلها ، محكمة بالصاروج والآجر من أعلاها ، فكانت كل قناة منها تدخل المدينة وتنفذ في الشوارع والدروب والأرباض ، وتجري صيفا وشتاء لا ينقطع ماؤها ، وجر لأهل الكرخ وما يتصل بها أنهارا .

وأما الجامع فقد ذكرنا أن المنصور جعل مساحته مائتين في مائتين ، ولما جاء الرشيد أمر بنقضه وإعادة بنائه بالآجر والجص ، ففعل ذلك وكتب عليه اسم الرشيد ، وتسمية البناء والنجار ، وذلك ظاهر الجدران إلى الآن ، وكانت الصلاة في الصحن العتيق الذي هو الجامع ، حتى زيد فيه الدار المعروفة بالقطان ، وكانت قديما ديوانا للمنصور ، فأمر مفلح التركي ببنائها على يد صاحبه القطان ، فنسب إليه ، ثم زاد المعتضد الصحن الأول - وهو قصر المنصور - ووصله بالجامع ، وزاد بدر مولى المعتضد من قصر المنصور السفطات المعروفة بالبدرية .

أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: قال لي هلال بن المحسن قال: حدثني أبو الحسين محمد بن الحسن بن محفوظ قال: كنت [ ص: 80 ] أمضي مع والدي إلى الجامع بالمدينة لصلاة الجمعة ، فربما وصلنا إلى باب خراسان في دجلة وقد قامت الصلاة ، وامتدت الصفوف إلى الشاطئ ، فنصعد ونفرش إلى السميرية ونصلي .

قال هلال: وأذكر الصفوف ممتدة من جامع الرصافة إلى الباب الجديد من شارع الرصافة .

التالي السابق


الخدمات العلمية