الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
805 - النعمان بن ثابت ، أبو حنيفة التيمي ، إمام أصحاب الرأي [] . [ ص: 129 ]

ولد سنة ثمانين ، رأى أنس بن مالك ، وسمع من عطاء بن أبي رباح ، وأبي إسحاق السبيعي ، ومحارب بن دثار ، وحماد بن أبي سليمان ، ومحمد بن المنكدر ، ونافع مولى ابن عمر ، وهشام بن عروة وغيرهم .

وروى عنه: هشيم ، وابن المبارك ، ووكيع ، ويزيد بن هارون وغيرهم .

وكان ربعة من الرجال تعلوه سمرة ، حسن الثياب ، كثير التعطر كريما . وكان في أول أمره يبيع الخز ، ثم تشاغل بالعلم .

أخبرنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرنا الخلال قال: أخبرنا علي بن عمر الجريري: أن علي بن محمد النخعي حدثهم قال: حدثنا الحسن بن أبي مالك ، عن أبي يوسف قال: قال أبو حنيفة: لما أردت أطلب العلم جعلت أتخير العلوم ، وأسأل عن عواقبها ، فقيل لي: تعلم القرآن . فقلت: إذا تعلمت القرآن وحفظته فما يكون آخر أمري؟ قالوا: تجلس في المسجد ويقرأ عليك الناس: الصبيان والأحداث ، ثم لا تلبث أن تخرج منهم من هو أحفظ منك أو يساويك في الحفظ ، فتذهب رئاستك . قلت: فإن سمعت الحديث وكتبته حتى لم يبق في الدنيا أحفظ مني؟ قالوا: إذا كبرت وضعفت حدثت واجتمع عليك الصبيان والأحداث ، ثم لا تأمن أن تغلط فيرمونك بالكذب ، فيصير عارا عليك في عقبك . فقلت: لا حاجة لي في هذا . ثم قلت: أتعلم النحو ، فإذا حفظت النحو والعربية ، ما يكون آخر أمري؟

قالوا: تقعد معلما ، فأكثر رزقك ديناران إلى ثلاثة قلت: وهذا لا عاقبة له . قلت: فإن نظرت في الشعر فلم يكن أحد أشعر مني ، ما يكون من أمري؟ قالوا: تمدح فيهب لك ويحملك على دابة ، ويخلع عليك خلعة ، وإن حرمك هجوته ، فصرت تقذف المحصنات . فقلت: لا حاجة لي في هذا . قلت: فإن نظرت في الكلام؟ ما يكون آخره؟ قالوا: لا يسلم من نظره في الكلام من مشنعات الكلام ، فيرمى بالزندقة ، فإما أنك تؤخذ فتقتل ، وإما تسلم فتكون مذموما ملوما . قلت: فإن تعلمت الفقه؟ قالوا: تسأل [ ص: 130 ] فتفتي الناس ، وتطلب للقضاء ، وإن كنت شابا . قلت: فليس في العلوم شيء أنفع من هذا . فلزمت الفقه .

حدثنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أبو بكر بن ثابت قال: أخبرنا الصيمري قال: حدثنا عمرو بن إبراهيم المقرئ قال: حدثنا مكرم بن أحمد قال: حدثنا أحمد بن محمد الحماني قال: حدثنا الفضيل بن غانم قال: كان أبو يوسف مريضا شديد المرض ، فعاده أبو حنيفة مرارا ، فصار إليه آخر مرة فرآه ثقيلا فاسترجع وقال: كنت أؤملك للمسلمين بعدي ، ولئن أصيب الناس بك ليموتن معك علم كثير ، ثم رزق الله أبا يوسف العافية ، وأخبر بقول أبي حنيفة فيه ، فارتفعت نفسه ، وانصرفت وجوه الناس إليه ، فعقد لنفسه مجلسا في الفقه ، وقصر [عن] لزوم مجلس أبي حنيفة ، فسأل عنه فأخبر أنه قد عقد لنفسه مجلسا ، وأنه بلغه كلامك فيه ، فدعا رجلا كان له عنده قدر فقال: صر إلى مجلس يعقوب فقل له: ما تقول في رجل دفع إلى قصار ثوبا ليقصره بدرهم فصار إليه بعد أيام في طلب الثوب ، فقال له القصار: ما لك عندي شيء ، وأنكره ، ثم إن رب الثوب رجع إليه ، فدفع له الثوب مقصورا ، أله أجرة؟ فإن قال له أجرة ، فقل أخطأت ، وإن قال لا أجرة له فقل أخطأت فصار إليه فسأله فقال أبو يوسف: له الأجرة . فقال: أخطأت . فنظر ساعة ثم قال: لا أجرة له . فقال: أخطأت . فقام أبو يوسف من ساعته ، فأتى أبا حنيفة فقال له: ما جاء بك إلا مسألة القصار . قال: أجل قال: سبحان الله ، من قعد يفتي الناس وعقد مجلسا يتكلم في دين الله وهذا قدره لا يحسن [أن] يجيب في مسألة من الإجارات . فقال: يا أبا حنيفة ، علمني . فقال: إن قصره بعد غصبه فلا أجرة له ، لأنه قصره لنفسه ، وإن كان قصره قبل أن يغصبه فله الأجرة ، لأنه قصره لصاحبه ، ثم قال: من ظن أنه يستغني عن التعلم فليبك على نفسه .

أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرنا [ ص: 131 ] القاضي أبو جعفر محمد بن أحمد السمناني قال: حدثنا أبو محمد الحسن بن أبي عبد الله السمناني قال: حدثنا الحسين بن رحمة قال: حدثنا محمد بن شجاع الثلجي قال: حدثنا محمد بن سماعة ، عن أبي يوسف قال: سمعت أبا حنيفة يقول: إذا كلمت القدري فإنما هو حرفان ، إما أن يسكت ، وإما أن يكفر ، يقال له: هل علم الله في سابق علمه أن تكون هذه الأشياء كما هي؟ فإن قال: لا ، فقد كفر ، وإن قال: نعم ، يقال له: أفأراد أن يكون كما علم؟ أو أراد أن يكون بخلاف ما علم؟ فإن قال: أراد أن يكون كما علم فقد أقر أنه أراد من المؤمن الإيمان ، ومن الكافر الكفر . وإن قال: أراد أن يكون بخلاف ما علم فقد جعل ربه متمنيا متحسرا ، لأن من أراد أن يكون ما علم أنه لا يكون ، أو يكون ما علم أنه يكون فإنه متمن متحسر ، ومن جعل ربه متمنيا متحسرا فهو كافر .

قال مؤلف الكتاب رحمه الله: لا يختلف الناس في فهم أبي حنيفة وفقهه .

كان سفيان الثوري ، وابن المبارك يقولان: أبو حنيفة أفقه الناس .

وقيل لمالك: هل رأيت أبا حنيفة؟ فقال: رأيت رجلا لو كلمك في هذه السارية أن يجعلها ذهبا لقام بحجته .

قال الشافعي رحمة الله عليه: الناس عيال على أبي حنيفة في الفقه .

التالي السابق


الخدمات العلمية