الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر

850 - شيبان الراعي .

حج معه سفيان الثوري ، فلقيا سبعا ، فعرك شيبان أذنه وقال: لولا مكان الشهرة ما وضعت زادي إلا على ظهره .

أخبرنا المحمدان ابن ناصر وابن عبد الباقي قالا: أخبرنا حمد بن أحمد قال:

أخبرنا أبو نعيم أحمد بن عبد الله قال: حدثنا عبد الله بن أحمد قال: حدثنا أبو العباس محمد بن أحمد بن سليمان الهروي قال: حدثنا إبراهيم بن يعقوب قال: حدثنا أحمد بن نصر ، عن محمد بن يزيد ، عن محمد بن حمزة الربضي قال: كان شيبان الراعي إذا أجنب وليس عنده ماء دعا ربه ، فجاءت سحابة فأظلته فاغتسل منها ، وكان يذهب إلى الجمعة فيخط على غنمه فيجيء فيجدها لم تتحرك .

851 - عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس وهو أبو جعفر المنصور .

روى علي بن محمد بن سليمان النوفلي ، عن أبيه قال: كان المنصور لا يستمرئ طعامه ويشكو إلى المتطببين ويسألهم أن يتخذوا له الجوارشنات ، وكانوا يكرهون ذلك ويأمرونه أن يقل من الطعام ، ويخبرونه أن الجوارشنات تهضم ، ولكنها تحدث من العلل ما هو أشد عليه . فقال كثير - وكان من قطيبي العراق - لا يموت أبو جعفر إلا بالبطن ، فقلت له: وما علمك؟ فقال: هو يأخذ الجوارشن فيهضم طعامه ويحلق من رأس معدته كل يوم شيئا وشحم مصارينه فيموت ببطنه ، وقال: أضرب لذلك مثلا أرأيت لو أنك وضعت جرة في موضع [وضعت] تحتها آجرة جديدة فقطرت إنما كان قطرها يثقب الآجرة على طول الدهر ، فمات بالبطن . [ ص: 220 ]

وقال بعضهم: كان بدو وجعه الذي مات فيه من حر أصابه من ركوبه في الهواجر ، وكان رجلا محرورا .

أخبرنا محمد بن أبي منصور قال: أخبرنا المبارك بن عبد الجبار قال: أخبرنا أبو بكر المنكدري قال: أخبرنا ابن الصلت قال: أخبرنا أبو بكر بن الأنباري قال: حدثنا محمد بن أحمد المقدمي قال: حدثنا أبو محمد التميمي قال: حدثنا منصور بن أبي مزاحم قال: حدثنا أبو سهل الحاسب قال: حدثني طيفور قال: كان سبب إحرام المنصور من مدينة السلام أنه نام ليلة فانتبه فزعا ، ثم عاود النوم فانتبه فزعا ، ثم راجع النوم فانتبه فزعا فقال: يا ربيع ، قال: لبيك يا أمير المؤمنين ، قال: لقد رأيت في منامي عجبا قال: ما رأيت جعلني الله فداك؟ قال: رأيت كأن آتيا أتاني فهيم بشيء لم أفهمه ، فانتبهت فزعا ، ثم عاودت النوم فعاودني يقول ذلك الشيء ، ثم عاودني بقوله ، حتى فهمته وحفظته وهو:


كأني بهذا القصر قد باد أهله وعري منه أهله ومنازله     وصار رئيس القوم من بعد بهجة
إلى جدث يبنى عليه جنادله

وما أحسبني يا ربيع إلا وقد حانت [وفاتي] ، وحضر أجلي ، وما لي غير ربي ، قم فاجعل لي غسلا ، ففعلت فقام فاغتسل وصلى ركعتين وقال: أنا عازم على الحج .

فهيأنا آلة الحج ، فخرج وخرجنا حتى إذا انتهى إلى الكوفة نزل النجف ، فأقام أياما ، ثم أمر بالرحيل فتقدمت نوابه وجنده ، وبقيت أنا وهو في القصر وشاكريته بالباب ، فقال لي:

يا ربيع جئني بفحمة من المطبخ ، وقال لي: اخرج فكن مع دابتي إلى أن أخرج ، فلما خرج وركب ، رجعت إلى المكان كأني أطلب شيئا ، وإذا قد كتب على الحائط بالفحمة شعرا:


المرء يهوى أن يعيش وطول عيش قد يضره     تفنى بشاشته ويبقى بعد حلو العيش مره
وتصرف الأيام حتى ما يرى شيئا يسره     كم شامت بي إن هلكت وقائل لله دره

[ ص: 221 ]

أخبرنا ابن ناصر قال: أخبرنا المبارك بن عبد الجبار قال: أخبرنا الشريف أبو بكر المنكدري قال: أخبرنا أبو الحسن بن الصلت قال: أخبرنا أبو بكر بن الأنباري قال:

حدثني أبي قال: حدثنا أبو عبد الله المطبخي قال: حدثنا أبو إسحاق الجيلي قال: لما حج المنصور في آخر عمره دخل على بعض المنازل بطريق مكة ، فرأى كتابة على الحائط فقرأها ، فإذا هي :


أبا جعفر حانت وفاتك وانقضت     سنوك وأمر الله لا بد واقع
أبا جعفر هل كاهن أو منجم     لك اليوم عن حر المنية دافع

أخبرنا عبد الرحمن قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرنا محمد بن أحمد بن رزق قال: أخبرنا عثمان بن أحمد الدقاق قال: حدثنا محمد بن أحمد البراء قال: حدثني أحمد بن هشام قال: قال الربيع: بينا أنا مع أبي جعفر المنصور في طريق مكة تبرز ونزل يقضي حاجته ، فإذا الريح قد ألقت إليه رقعة فيها مكتوب:


أبا جعفر حانت وفاتك وانقضت     سنوك وأمر الله لا بد واقع
[أبا جعفر هل كاهن أو منجم     لك اليوم عن حر المنية دافع]

قال: فناداني: يا ربيع تنعى إلي نفسي في رقعة؟ قلت: لا والله ما أعرف رقعة ، ولا أدري ما هي؟ قال: فما رجع من وجهه حتى مات .

قال ابن البراء: ومات ببئر ميمون ، وهو محرم ، فدفن مكشوف الوجه لست خلون من ذي الحجة سنة ثمان وخمسين ومائة ، وكان عمره ثلاثا وستين سنة ، وخلافته إحدى وعشرين سنة وأحد عشر شهرا وثمانية أيام .

قال مؤلف الكتاب رحمه الله تعالى: وقد اختلفوا في مقدار عمره على [ ص: 222 ] خمسة أقوال: أحدها: ثلاث وستون سنة كما ذكرنا ، والثاني: ثلاث وستون وشهور ، الثالث: أربع وستون ، والرابع: خمس وستون . والخامس: ثمان وستون . واتفقوا على أن مدة خلافته اثنان وعشرون سنة تنقص أياما .

وفي ذلك المقدار الناقص خمسة أقوال: أحدها: اثنان وعشرون يوما . والثاني:

أربعة وعشرون يوما ، والثالث: ثلاثة أيام ، والرابع: سبعة أيام . والخامس: يومان .

قالوا: ودفن في المقبرة التي عند بلبة المدينتين التي تسمى كدا ، وتسمى المعلاة ، لأنها بأعلى مكة .

852 - عبد الله بن عياش بن عبد الله ، أبو الجراح الهمداني الكوفي . ويعرف بالمنتوف .

أخبرنا القزاز قال: أخبرنا الخطيب قال: حدث ابن عياش ، عن الشعبي ، وروى عنه الهيثم بن عدي ، وكان راوية للأخبار والآداب . وكان من صحابة أبي جعفر المنصور ، ونزل بغداد في دور الصحابة ناحية شط الصراة ، قال: ويقال: إن دجلة مدت وأحاط الماء بداره ، فركب المنصور ينظر إلى الماء ، وابن عياش معه ، فرأى داره وسط الماء ، فقال: لمن هذه الدار قال: لوليك يا أمير المؤمنين ، فقال المنصور :

وحال بينهما الموج فكان من المغرقين ، فقال له ابن عياش وكان جريئا عليه: ما أظن أمير المؤمنين يحفظ من القرآن آية غيرها ، فضحك منه وأمر له بصلة .

أخبرنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرنا الجوهري قال: حدثنا محمد بن العباس قال: حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم الحكيمي قال: حدثنا ميمون بن هارون قال: حدثني الوضاح بن حبيب بن يزيد التميمي ، عن أبيه قال: كنت يوما عند المنصور وعبد الله بن عياش المنتوف وعبد الله بن الربيع الحارثي ، وإسماعيل بن خالد بن عبد الله القسري ، وكان المنصور ولى سلم بن قتيبة البصرة ، وولى مولى له كور البصرة والأبلة ، فورد الكتاب من مولى أبي جعفر يخبر أن سلما ضربه بالسياط ، فاستشاط أبو جعفر ، وضرب بإحدى يديه على الأخرى وقال: علي يجترئ سلم ، والله لأجعلنه نكالا وعظة ، وجعل يقرأ كتبا بين [ ص: 223 ] يديه ، قال: فرفع ابن عياش رأسه - وكان من أجرئنا عليه - فقال: يا أمير المؤمنين ، لم يضرب سلم مولاك بقوته ولا قوة ابنه ولكنك قلدته سيفك ، وأصعدته منبرك ، وأراد مولاك أن يطأطئ من سلم ما رفعت ، ويفسد ما صنعت ، فلم يحتمل له ذلك ، يا أمير المؤمنين إن غضب العربي في رأسه ، فإذا غضب لم يهدأ حتى يخرجه بلسانه أو يده ، وإن غضب النبطي في استه ، فإذا خري ذهب غضبه ، فضحك أبو جعفر ، وقال: قبحك الله يا منتوف . وكف عن سلم .

توفي المنتوف في هذه السنة .

853 - الأسود المكي .

أخبرنا محمد بن ناصر قال: أخبرنا جعفر بن أحمد السراج قال: أخبرنا عبد العزيز بن الحسن بن إسماعيل الضراب ، قال: أخبرني أبي قال: حدثنا أحمد بن مروان بن المالكي قال: حدثنا سليمان بن الحسن قال: حدثني أبي قال: قال ابن المبارك: قدمت مكة فإذا الناس قد قحطوا من المطر وهم يستسقون في المسجد الحرام ، وكنت في الناس مما يلي باب بني شيبة ، إذ أقبل غلام أسود عليه قطعتا خيش ، قد ائتزر بإحداهما ، وألقى الأخرى على عاتقه ، فصار في موضع خفي إلى جانبي ، فسمعته يقول: إلهي أخلقت الوجوه كثرة الذنوب ومساوئ الأعمال ، وقد منعتنا غيث السماء لتؤدب الخليقة بذلك ، فأسألك يا حليما ذا أناة ، يا من لا يعرف عباده منه إلا الجميل ، اسقهم الساعة الساعة . قال ابن المبارك: فلم يزل يقول الساعة الساعة حتى استوت بالغمام ، وأقبل المطر من كل مكان ، وجلس مكانه يسبح ، وأخذت أبكي ، فلما قام تبعته حتى عرفت موضعه ، فجئت إلى فضيل بن عياض فقال لي: ما لي أراك كئيبا؟ فقلت: سبقنا إلى الله غيرنا ، فتولاه دوننا ، قال: وما ذاك؟ فقصصت عليه القصة ، فصاح وسقط وقال: ويحك يا ابن المبارك خذني إليه ، قلت: قد ضاق الوقت ، وسأبحث عن شأنه . فلما كان من الغد صليت الغداة ، وخرجت إلى الموضع فإذا شيخ على [ ص: 224 ] الباب قد بسط له وهو جالس ، فلما رآني عرفني وقال: مرحبا بك يا عبد الرحمن ، حاجتك . فقلت له: احتجت إلى غلام أسود . فقال: نعم عندي عدة ، فاختر أيهم شئت؟ فصاح يا غلام ، فخرج غلام جلد ، فقال: هذا محمود العاقبة ، أرضاه لك ، فقلت: ليس هذا حاجتي ، فما زال يخرج إلي واحدا واحدا حتى أخرج إلي الغلام ، فلما أبصرت به بدرت عيناي ، فقال: هذا هو؟ قلت: نعم ، فقال ليس إلى بيعه سبيل ، قلت: ولم؟ قال: قد تبركت لموضعه في هذه الدار وذاك أنه لا يزرأني شيئا ، قلت: ومن أين طعامه؟ قال: يكسب من قبل الشريط نصف دانق أو أقل أو أكثر فهو قوته ، فإن باعه في يومه وإلا طوى ذلك اليوم . وأخبرني الغلمان عنه أنه لا ينام هذا الليل الطويل ، ولا يختلط بأحد منهم مشغول بنفسه ، وقد أحبه قلبي ، فقلت له: أنصرف إلى سفيان الثوري وإلى فضيل بن عياض بغير قضاء حاجة؟ فقال: إن ممشاك عندي كبير ، خذه بما شئت . قال: فاشتريته وأخذت نحو دار فضيل ، فمشيت ساعة ، فقال لي: يا مولاي ، قلت: لبيك ، قال: لا تقل لي لبيك ، فإن العبد أولى أن يلبي المولى ، قلت: حاجتك يا حبيبي . قال: أنا ضعيف البدن ، لا أطيق الخدمة ، وقد كان لك في غيري سعة ، قد أخرج إليك من هو أجلد مني ، فقلت: لا يراني الله وأنا أستخدمك ، ولكني أشتري لك منزلا وأزوجك وأخدمك أنا بنفسي ، قال: فبكى ، فقلت: ما يبكيك؟

قال: أنت لم تفعل في هذا إلا وقد رأيت بعض متصلاتي بالله تعالى ، وإلا فلم اخترتني من بين الغلمان؟ فقلت له: ليس بك حاجة إلى هذا ، فقال لي: سألتك بالله إلا أخبرتني ، فقلت: بإجابة دعوتك ، فقال لي: إني أحسبك إن شاء الله رجلا صالحا ، إن لله عز وجل خيرة من خلقه لا يكشف شأنهم إلا لمن أحب من عباده ولا يظهر عليهم إلا من ارتضى ، ثم قال لي: ترى أن تقف علي قليلا ، فإنه قد بقيت علي ركعات من البارحة .

قلت: هذا منزل فضيل قريب . قال: لا . هاهنا أحب إلي ، أمر الله عز وجل لا يؤخر فدخل من باب الباعة إلى المسجد فما زال يصلي حتى إذا أتى على ما أراد التفت إلي فقال: يا أبا عبد الرحمن ، هل من حاجة؟ قلت: ولم؟ قال: لأني أريد الانصراف ، [ ص: 225 ] قلت: إلى أين؟ قال: إلى الآخرة . قلت: لا تفعل ، دعني أسر بك . فقال لي: إنما كانت تطيب الحياة حيث كانت المعاملة بيني وبينه تعالى فأما إذا اطلعت عليها أنت فسيطلع عليها غيرك فلا حاجة لي في ذلك ، ثم خر لوجهه ، فجعل يقول: إلهي اقبضني إليك الساعة الساعة . فدنوت منه فإذا هو قد مات . فوالله ما ذكرته قط إلا طال حزني وصغرت الدنيا في عيني . [ ص: 226 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية