الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وللرشيد أشعار حسان ، منها: ما أخبرنا به عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرنا أبو نعيم الحافظ قال: أخبرنا سليمان بن أحمد الطبراني قال: أخبرنا محمد بن موسى بن حسان قال: حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن صالح قال:

حدثنا عمي علي بن صالح قال: قال الرشيد في ثلاث جوار:


ملك الثلاث الغانيات عناني وحللن من قلبي بكل مكان [ ص: 327 ]     ما لي تطاوعني البرية كلها
وأطيعهن وهن في عصياني؟     ما ذاك إلا أن سلطان الهوى
وبه قوين أعز من سلطاني

وكان الرشيد طيب النفس ، فكها يحب المزح .

أخبرنا المبارك بن علي الصيرفي قال: أخبرتنا فاطمة بنت عبد الله الخبرية قالت:

أخبرنا علي بن الحسين بن الفضل قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن خالد الكاتب قال:

أخبرنا علي بن عبد الله بن المغيرة الجوهري قال: حدثنا أحمد بن سعيد الدمشقي قال:

حدثني الزبير بن بكار قال: حدثني علي بن صالح قال: كان مع الرشيد ابن أبي مريم المديني ، وكان مضاحكا محداثا فكها ، وكان الرشيد لا يصبر عن محادثته ، وكان قد جمع إلى ذلك [المعرفة] بأخبار العرب من أهل الحجاز ومكائد المجان ، فبلغ من خصوصيته به أنه أنزله منزلا في قصره وخلطه ببطانته وغلمانه ، فجاء ذات ليلة وهو نائم وقد طلع الفجر ، فكشف اللحاف عن ظهره ، ثم قال له: كيف أصبحت؟ فقال: يا هذا ، ما أصبحت بعد ، مر إلى عملك ، قال: ويلك ، قم إلى الصلاة قال: هذا وقت صلاة أبي الجارود ، وأنا من أصحاب أبي يوسف القاضي ، فقام ومضى وتركه نائما ، وقام الرشيد إلى الصلاة ، فجاء غلامه فقال: أمير المؤمنين ، قد قام إلى الصلاة ، فألقى عليه ثيابه ومضى نحوه ، فإذا هو يقرأ في صلاة الصبح وما لي لا أعبد الذي فطرني فقال له ابن أبي مريم: لا أدري والله ، فما تمالك أن ضحك في صلاته ، ثم التفت كالمغضب فقال: يا ابن أبي مريم ، في الصلاة أيضا؟! قال: يا هذا ، ما صنعت؟ قال:

قطعت علي الصلاة . قال: والله ما فعلت ، إنما سمعت منك كلاما غمني حين قلت وما لي لا أعبد الذي فطرني [فقلت: لا أدري] . فضحك ، وقال: إياك والقرآن والدين ، ولك ما شئت بعدها . [ ص: 328 ]

وكان الرشيد مع حبه اللهو كثير البكاء من خشية الله ، محبا للمواعظ ، وقد وعظه الفضيل [بن عياض] ، وابن السماك ، والعمري والبهلول ، وغيرهم ، وكان يتقبل الموعظة ويكثر البكاء .

أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرنا محمد بن أبي علي الأصبهاني قال: حدثنا محمد بن أحمد بن إسحاق الشاهد قال: حدثنا ابن منيع قال: حدثنا يحيى بن أيوب الواعظ - أو قال: العابد - قال: سمعت منصور بن عمار يقول: ما رأيت أغزر دمعا عند الذكر من ثلاثة: فضيل بن عياض ، وأبي عبد الرحمن الزاهد ، وهارون الرشيد ، وأتاه يوما رجل من الزهاد ، فقال: يا هارون ، اتق الله ، فأخذه فخلا به ، وقال: يا هذا أنصفني ، أنا شر أم فرعون؟ قال: بل فرعون ، قال:

فأنت خير أم موسى؟ قال: بل موسى ، قال: أفما تعلم أن الله تعالى لما بعثه وأخاه إليه قال: فقولا له قولا لينا وقد جبهتني بأغلظ الألفاظ ، فلا بأدب الله تأدبت ، ولا بأخلاق الصالحين أخذت . قال: أخطأت وأنا أستغفر الله ، فقال: غفر الله لك ، وأمر له بعشرين ألف درهم ، فأبى أن يأخذها . فهذه الأخلاق الطيبة .

وفي هذه السنة: ولد المأمون في ربيع الأول ، وولد الأمين في شوال .

وفيها: عزل الرشيد عمر بن عبد العزيز العمري عن مدينة الرسول [عليه السلام] ، وولاها إسحاق بن سليمان بن علي .

وفيها: أمر الرشيد بسهم ذوي القربى قسم في بني هاشم بالسوية .

وفيها: عزل الرشيد الثغور كلها عن الجزيرة وقنسرين ، وجعل لها حيزا واحدا ، وسميت العواصم . [ ص: 329 ]

وفيها: عمرت طرسوس على يدي أبي سليم ، فخرج الخادم التركي ونزلها الناس .

أخبرنا محمد بن ناصر الحافظ قال: أخبرنا المبارك بن عبد الجبار قال: أخبرنا إبراهيم بن عمر البرمكي قال: أنبأنا أبو الحسين بن عبد الله بن إبراهيم الزينبي قال:

حدثنا محمد بن خلف بن المرزبان قال: حدثني أحمد بن زهير قال: حدثني علي بن البربري قال: حدثني أبي - وكان أول من سكن طرسوس حين بناها أبو سليم ، وكان شيخا قديما - قال: كان يغازينا من الشام ثلاثة إخوة فرسان شجعان ، وكانوا لا يخالطون العسكر ، وكانوا يسيرون وحدهم ، وينزلون كذلك ، فإذا رأوا العدو لم يقاتلوا ما كفوا ، فغزوا مرة ، فلقيهم الطاغية في جمع كثير ، فقاتلوا المسلمين فقتلوا وأسروا ، فقال بعضهم لبعض: قد ترون ما نزل بالمسلمين ، وقد وجب علينا أن نبذل أنفسنا ونقاتل فتقدموا ، وقالوا لمن بقي من المسلمين: كونوا وراء ظهورنا وخلوا بيننا وبين القتال نكفيكم إن شاء الله تعالى . فقاتلوا فقهروا الروم ، فقال ملك الروم لمن معه من البطارقة: من جاءني برجل من هؤلاء قدمته وبطرقته . فألقت الروم أنفسها عليهم فأخذوهم أسرى ، لم يصب رجلا منهم كلم ، فقال ملك الروم: لا غنيمة ولا فتح أعظم من أخذ هؤلاء . فرحل بهم حتى نزل بهم القسطنطينية ، فعرض عليهم النصرانية وقال:

إني أجعل فيكم الملك وأزواجكم بناتي . فأبوا عليه ونادوا: يا محمداه ، فقال الملك: ما يقولون؟ قالوا: يدعون نبيهم ، فقال لهم: إن أنتم أجبتموني وإلا أغليت قدورا ثلاثة فيها الزيت ، حتى إذا بلغت أناها ألقيت كل واحد منهم في قدر . فأبوا ، فأمر بثلاث قدور فنصبت ، ثم صب فيها الزيت ، ثم أمر أن يوقد تحتها ثلاثة أيام يعرضون في كل يوم على تلك القدور ، ويدعوهم إلى النصرانية ، وإلى أن يزوجهم بناته ، ويجعل الملك فيهم ، فيأبون أن يجيبوه ، وأقاموا على الإسلام ، فنادى الأكبر ، ودعاه إلى دينه فأبى ، فناشده وقال: إني ملقيك في هذه القدر . فأبى فألقاه في قدر منها ، فما هو إلا أن سقط فيها ، فارتفعت عظامه تلوح ، ثم فعل بالثاني مثل ذلك ، فلما [رأى] صبرهم على ما فعل [ ص: 330 ] بهم ، وحفظهم لدينهم ، ندم الملك وقال: فعلت هذا بقوم لم أر أشجع منهم ، فأمر بالصغير فأدني منه فجعل يفتنه عن دينه بكل أمر فيأبى ، فقام إليه علج من أعلاجه فقال:

أيها الملك ما تجعل لي إن أنا فتنته؟ قال: أبطرقك ، قال: قد رضيت ، قال: فبماذا تفتنه؟ قال: قد علم الملك أن العرب أسرع شيء إلى النساء ، وقد علمت الروم أنه ليس فيهم [امرأة] أجمل من ابنتي فلانة ، فادفعه إلي حتى أخليه معها ، فإنها ستفتنه ، قال:

فضرب الملك بينه وبين العلج أجلا أربعين يوما ، ودفعه إليه ، فجاء به فأدخله مع ابنته ، وأخبرها بالذي ضمن للملك ، وبالأجل الذي ضربه بينه وبينه ، فقالت: له: دعه ، فقد كفيتك أمره ، فأقام معها نهاره صائما ، وليله قائما ، لا يفتر من العمل ، حتى مضى أكبر الأجل ، فسأل الملك العلج: ما حال الرجل؟ فرجع إلى ابنته فقال لها: ما صنعت؟

قالت: ما صنعت شيئا هذا رجل فقد إخوته في هذه البلدة ، فأخاف أن يكون امتناعه من أجل أخويه ، كلما رأى آثارهما ، ولكن استزد الملك في الأجل ، وانقلني وإياه إلى بلد غير هذا البلد الذي قتل فيه أخواه ، فسأل العلج الملك فزاده في الأجل ، أياما ، وأذن له في خروجهما ، فأخرجهما إلى قرية أخرى ، فمكث على ذلك أياما صائم النهار ، قائم الليل ، حتى إذا بقي من الأجل أيام قالت له الجارية ليلة من الليالي: يا هذا ، إني أراك تقدس ربا عظيما ، وإني قد دخلت معك في دينك ، وتركت دين آبائي فلم يثق بذلك منها ، حتى أعادت عليه مرارا ، فقال لها: فكيف الحيلة في الهرب والنجاة مما نحن فيه؟

فقالت له: أنا أحتال لك وجاءته بدواب وقالت له: قم بنا نهرب إلى بلادك ، فركبا ، فكانا يسيران الليل ويكمنان النهار ، وطلبا فخفيا ، فبينما هما يسيران ذات ليلة سمع وقع حوافر خيل ، فقالت له الجارية: أيها الرجل ، ادع ربك الذي صدقته وآمنت به أن يخصلنا من عدونا ، فإذا هو بأخويه ومعهما ملائكة رسل إليه ، فسلم عليهما وسألهما عن حالهما ، فقالا له: ما كانت إلا الغطسة التي رأيت حتى خرجنا في الفردوس ، وإن الله أرسلنا إليك لنشهد تزويجك بهذه الفتاة . فزوجوه إياها ورجعوا ، وخرج إلى بلاد الشام ، فأقام معها ، وكانا مشهورين بذلك ، معروفين بالشام في الزمن الأول . وقد قيل فيهما من الشعر ما أنسيته غير هذا البيت: [ ص: 331 ]


سنعطي الصادقين بفضل صدق     نجاة في الحياة وفي الممات

وفي هذه السنة: حج بالناس الرشيد من مدينة السلام ، فأعطى أهل الحرمين عطاء كثيرا ، وقسم مالا جزيلا .

وغزا الصائفة سليمان بن عبد الله الركابي .

وكان العامل على مكة والطائف عبد الله بن قثم ، وعلى المدينة إسحاق بن سليمان الهاشمي ، وعلى الكوفة موسى بن عيسى وخليفته عليها ابنه العباس بن موسى ، وعلى البصرة والبحرين وعمان واليمامة وكور الأهواز وفارس محمد بن سليمان بن علي بن محمد بن عبد الله بن عباس .

التالي السابق


الخدمات العلمية