الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر طرف [من] أخباره وسيرته

كان الرشيد يحب العلم ويؤثره ويستفيده ، فنال علما كثيرا ، وكانت له فطنة قوية .

أخبرنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أبو بكر بن ثابت قال: أخبرنا أبو علي محمد بن الحسين الجازري قال: حدثنا المعافى قال: حدثنا ابن دريد قال: حدثنا أبو حاتم عن الأصمعي قال: دخلت على هارون الرشيد ومجلسه حافل ، فقال: يا أصمعي ما أغفلك عنا ، وأجفاك لحضرتنا؟ فقلت: والله يا أمير المؤمنين ما ألاقتني بلاد بعدك حتى أتيتك . فأمرني بالجلوس فجلست ، فلما تفرق الناس - إلا أقلهم - نهضت للقيام ، فأشار إلي أن أجلس ، فجلست حتى خلى المجلس ، فلم يبق غيري وغيره ومن بين يديه [من] الغلمان ، فقال لي: يا أبا سعيد: ما ألاقتني؟ قلت: [ما] أمسكتني ، [وأنشدته] :


كفاك كف لا تليق درهما جودا وأخرى تعطى بالسيف الدما

فقال لي: أحسنت ، وهكذا فكن وقرنا في الملأ ، وعلمنا في الخلاء ، فأمر لي بخمسة آلاف درهم . وفي رواية دينار . [ ص: 323 ]

قال الأصمعي: وتأخرت عن الرشيد ثم جئته ، فقال: كيف كنت يا أصمعي؟

قلت: بت والله بليلة النابغة - فقال: إنا لله هو والله قوله :


فبت كأني ساورتني ضئيلة     من الرقش في أنيابها السم ناقع

فعجبت من ذكائه وفطنته لما قصدت .

وقال أبو سعيد بن مسلم: كان فهم الرشيد فوق فهم العلماء . أنشده العماني في وصفة فرس بيت:


كأن أذنيه إذا تشرفا     قادمة أو قلما محرفا

فقال الرشيد: دع كان ، وقل: تخال أذنيه .

وكان الرشيد يتواضع لأهل العلم والدين .

أنبأنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرنا أبو العلاء الواسطي قال: أخبرنا عبد الله بن محمد المزني قال: أخبرنا أبو طاهر عبد الله بن محمد بن مرة قال: حدثنا حسن الأزدي قال: سمعت علي بن المديني يقول: سمعت أبا معاوية يقول:

أكلت مع الرشيد طعاما يوما من الأيام فصب على يدي رجل لا أعرفه ، فقال هارون: يا أبا معاوية تدري من يصب عليك؟ وقلت: لا ، قال: أنا قلت: أنت يا أمير المؤمنين ، قال: نعم إجلالا للعلم .

أخبرنا يحيى بن علي المدبر قال: أخبرنا أبو جعفر بن ابن المسلمة قال: أخبرنا إسماعيل بن سعيد بن سويد قال: حدثنا أبو علي الحسين بن القاسم الكوكبي قال:

حدثنا إبراهيم بن الجنيد قال: سمعت علي بن عبد الله - يعني ابن المديني - قال: قال أبو معاوية الضرير:

حدثت الرشيد بهذا الحديث - يعني قول النبي صلى الله عليه وسلم: "وددت أني أقتل في سبيل الله ثم أحيا ثم أقتل" - فبكى هارون حتى انتحب ، ثم قال: يا أبا معاوية ترى [لي] أن أغزو؟ فقلت: يا أمير المؤمنين ، مكانك في الإسلام أكبر ، ومقامك أعظم ، [ ص: 324 ] ولكن ترسل الجيوش ، قال أبو معاوية: وما ذكرت النبي صلى الله عليه وسلم إلا قال صلى الله على سيدي .

وكان الرشيد معظما للسنة شديد النفور من البدع .

أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرنا محمد بن الحسين بن الفضل العطار قال: أخبرنا عبد الله بن جعفر درستويه قال: حدثنا يعقوب بن سفيان قال: سمعت علي بن المديني يقول: قال محمد بن حازم: كنت أقرأ حديث الأعمش عن أبي صالح على أمير المؤمنين هارون ، فكلما قلت قال رسول الله [صلى الله عليه وسلم] قال: صلى الله على سيدي ومولاي ، حتى ذكرت التقاء آدم وموسى فقال عمه: يا محمد ، أين التقيا؟ فغضب هارون الرشيد وقال: من طرح إليك هذا؟ وأمر به فحبس ، فدخلت إليه في حبسه فقال: يا محمد ، والله ما هو إلا شيء خطر ببالي ، وحلف لي بالعتق وصدقة المال ، وغير ذلك من معضلات الأيمان ما سمعته من أحد ولا جرى بيني وبين أحد فيه كلام . قال: [فكلمته فيه] فأمر به فأطلق من الحبس ، وقال لي: يا محمد ، ويحك ، إنما توهمت أنه طرح إليه بعض الملحدين بهذا الكلام فأردت أن يدلني عليهم فأستفتحهم وإلا فأنا على يقين أن القرشي لا يتزندق .

وكان الرشيد إذا عرف الصواب رجع إليه سريعا .

أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرنا أبو عمر الحسن بن عثمان الواعظ قال:

حدثنا جعفر بن محمد بن أحمد الواسطي قال: حدثنا أبو الطيب النعمان بن أحمد القاضي قال: حدثنا أحمد بن زكريا بن سفيان قال سمعت أصحابنا يقولون: قال أبو معاوية:

دخلت على هارون [الرشيد] فقال لي: يا أبا معاوية ، لهممت أنه من تثبت خلافته علي فعلت به وفعلت [به] . فسكت ، فقال لي: تكلم [تكلم] . فقلت: إن أذنت لي تكلمت . فقال: تكلم ، قلت: يا أمير المؤمنين ، قالت تيم منا خليفة رسول الله ، وقالت [ ص: 325 ] عدي: منا خليفة خليفة رسول الله ، وقالت بنو أمية ، منا خليفة الخلفاء ، فأين حظكم يا بني هاشم من الخلافة؟ والله ما حظكم فيها إلا علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، فقال:

والله يا أبا معاوية لا يبلغني أن أحدا لم يثبت خلافة علي إلا فعلت به كذا وكذا .

وكان الرشيد يستقبح المدح بالكذب ويذم المادح به . قال يوما لبعض ولاته:

كيف تركت الناس؟ فقال: يا أمير المؤمنين ، أحسنت فيهم السيرة وأنسيتهم سيرة العمرين . فغضب الرشيد واستشاط وقال: ويلك يا ابن الفاعلة ، العمرين العمرين ، وأخذ سفرجلة فرماه بها فكادت تهلكه ، وأخرج من بين يديه .

وكان الرشيد يكثر الحج والغزو واتخذ قلنسوة مكتوبا عليها: غاز حاج .

قال ابن البراء: كان يحج سنة ويغزو سنة ، حج بالناس ست مرات ، [فقال داود بن رزين] :


بهارون لاح البدر في كل بلدة     وقام به في عدل سيرته النهج
إمام بذات الله أصبح شغله     وأكثر ما يعنى به الغزو والحج
تضيق عيون الناس عن نور وجهه     إذا ما بدا للناس منظره البلج
وإن أمين الله هارون بالندى     ينيل الذي يرجوه أضعاف ما يرجو

وقال أبو المعلى الكلابي:


فمن يطلب لقاءك أو يرده     فبالحرمين أو أقصى الثغور
ففي أرض العدو علي طمر     وفي أرض البنية فوق كور

وألح عليه في بعض غزواته الثلج ، فقال بعض أصحابه: أما ترى يا أمير المؤمنين ما نحن فيه من الجهد والرعية وادعة فقال له: اسكت ، على الرعية المنام ، وعلينا القيام ، ولا بد للراعي من حراسة رعيته . فقال بعض الشعراء في ذلك:


غضبت لغضبتك القواطع والقنا     لما نهضت لنصرة الإسلام
ناموا إلى كنف بعدلك واسع     وسهرت تحرس غفلة النوام

[ ص: 326 ] وكان الرشيد إذا حج حج معه مائة من الفقهاء وأبنائهم ، وإذا لم يحج أحج ثلاثمائة رجل بالنفقة التامة والكسوة الطاهرة ، وكان يصلي كل يوم مائة ركعة إلى أن فارق الدنيا ، إلا أن تعرض له علة ، وكان يتصدق من صلب ماله في كل يوم ألف درهم بعد زكاتها ، وكان يقتفي أخلاق المنصور ويطلب العمل بها ، إلا في بذل المال ، وكان لا يضيع عنده إحسان محسن ، ولا يؤخر ذلك ، وكان يميل إلى أهل الأدب والفقه ، ويكره المراء في الدين ، ويحب الشعر والشعراء ، والمدح ولا سيما من شاعر فصيح ، فدخل عليه يوما مروان بن أبي حفصة فأنشده من قصيدة له:

وسدت بهارون الثغور فأحكمت     به من أمور المسلمين المرائر
وما انفك معقودا بنصر لواؤه     له عسكر عنه تشظى العساكر
فكل ملوك الروم أعطاه جزية     على الرغم قسرا عن يد وهو صاغر
إلى وجهه تسمو العيون وما سمت     إلى مثل هارون العيون النواظر
ترى حوله الأملاك من آل هاشم     كما حفت البدر النجوم الزواهر
إذا فقد الناس الغمام تتابعت عليهم     بكفيك الغيوث المواطر
على ثقة ألقت إليك أمورها     قريش كما ألقى عصاه المسافر
فطورا يهزون القواطع والقنا     وطورا بأيديهم تهز المخاصر
ليهنكم الملك الذي أصبحت بكم     أسرته مختالة والمنابر
أبوك ولي المصطفى دون هاشم     وإن رغمت من حاسديك المناخر

فأعطاه عشرة آلاف دينار وكساه ، وأمر له بعشرة من رقيق الروم وحمله على برذون .

التالي السابق


الخدمات العلمية