الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ثم دخلت سنة ثمان وخمسين ومائة

فمن الحوادث فيها غزوة يزيد بن أسيد السلمي الصائفة ، وفتحت الطالقان وطبرستان ونهاوند على يدي عمر بن العلاء .

ومن الحوادث: توجيه المنصور ابنه المهدي إلى الرقة ، وأمره إياه بعزل موسى بن كعب عن الموصل ، وتولية [يحيى بن] خالد بن برمك عليها .

وسبب ذلك أن المنصور كان ألزم خالد بن برمك ثلاثة آلاف ألف درهم ، ونذر دمه فيها ، وأجله بها ثلاثة أيام ، فقال خالد لابنه يحيى: يا بني ، قد أوذيت وطولبت بما ليس عندي وإنما يراد بذلك دمي ، فانصرف [إلى حرمتك وأهلك فما كنت فاعلا بهم بعد موتي فافعله ، ثم قال: يا بني] ، لا يمنعنك ذلك [من] أن تلقى إخواننا ، وأن تمر بعمارة بن حمزة وصالح صاحب المصلى ومبارك التركي ، فتعلمهم حالنا .

فأتاهم فأخبرهم فمنهم من تجهمه وبعث المال سرا ، ومنهم من لم يأذن له وبعث بالمال في أثره ، واستأذن على عمارة فدخل عليه وهو في صحن داره مقابل بوجهه [ ص: 200 ] الحائط ، فلما انصرف إليه بوجهه وسلم عليه فرد عليه ردا ضعيفا وقال: يا بني ، كيف أبوك؟ قال: بخير ، يقرأ عليك السلام ويعلمك بما قد لزمه من الغرم ، ويستسلفك مائة ألف درهم ، فما رد عليه قليلا ولا كثيرا ، وقال: إن أمكنني شيء فسيأتيك ، فانصرف وهو يقول: لعن الله كل شيء يأتي من تيهك وكبرك . ورجع إلى أبيه وأعلمه بالخبر ، فإذا رسول عمارة قد طلع بالمائة ألف ، فجمعوا في يومين ألفي ألف وسبع مائة ألف ، فورد على المنصور: انتقاض الموصل وانتشار الأكراد ، فقال المنصور: من لها؟ فقال له المسيب: ما رميتها بمثل خالد ، قال: ويحك ، فيصلح لنا بعد ما أتينا إليه ما أتينا؟ قال:

إنما كان ذلك تقويما له يا أمير المؤمنين وأنا ضامن عليه ، قال: فليحضر غدا ، فأحضر فصفح له عن الثلاثمائة ألف وعقد له . فلم يزل خالد على [ الموصل إلى] أن توفي المنصور ، ويحيى على أذربيجان ، وكان المنصور معجبا بيحيى ، وكان يقول: ولد الناس أبناء وولد خالد آباء .

وروى الجاحظ عن ثمامة قال: كان أصحابنا يقولون: لم يكن يرى لجليس خالد بن برمك دارا إلا وخالد قد بناها ، ولا ضيعة إلا وهو اشتراها ، ولا ولدا إلا وهو اشترى أمه إن كانت أمه ، أو أمهرها إن كانت حرة ، ولا دابة إلا وهي من حملانه .

وكان خالد أول من سمى أهل الاستماحة والاسترفاد الزوار ، فقال بعض من قصده:


حذا خالد في جوده حذو برمك فمجد له مستطرف وثليل     وكان بنو الإعدام يدعون قبله
بنبر على الإعدام فيه دليل     يسمون بالسؤال في كل موطن
وإن كان فيهم نابه وجليل     فسماهم الزوار سترا عليهم
وأستاره في المحتدين سدول

وفي هذه السنة : نزل المنصور قصره الذي يعرف بالخلد على دجلة ، وإنما [ ص: 201 ] سماه الخلد تشبيها له بجنة الخلد ، وقال: إنما ابتنيته لأنظر إلى الماء فإنه يجلو البصر .

وكان موضعه وراء باب خراسان ، وقد اندرس فلا عين [له] ولا أثر .

أخبرنا أبو منصور القزاز ، قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي [بن ثابت] ، قال: أخبرنا علي بن محمد المعدل ، قال: أخبرنا ابن صفوان ، قال: أخبرنا أبو بكر القرشي ، قال: حدثني ابن جهور ، قال: مررت مع علي بن [أبي] هاشم الكوفي بالخلد ، فنظر إلى الآثار فوقف متأملا وقال:


بنوا وقالوا لا نموت     وللخراب بنى المبني
ما عاقل فيما رأيت     إلى الحياة بمطمئن

أخبرنا أبو منصور ، قال: أخبرنا أحمد بن علي ، قال: أخبرنا ابن رزق ، قال:

أخبرنا عثمان بن أحمد ، قال: حدثنا ابن البراء ، قال: حدثنا علي بن أبي مريم ، قال :

مررت بسويقة عبد الوهاب وقد خربت منازلها وعلى جدار منها مكتوب:


هذي منازل أقوام عهدتهم     في رغد عيش رغيب ما له خطر
صاحت بهم نائبات الدهر فانقلبوا     إلى القبور فلا عين ولا أثر

وفي هذه السنة: سخط المنصور على المسيب بن زهير ، وعزله عن الشرطة وأمر بحبسه وتقييده . وذلك أنه قتل أبان بن بشير الكاتب بالسياط لأمر وجد عليه فيه ، ثم كلمه فيه المهدي فأعاده . وفيها: وجه المنصور نصر بن حرب التميمي واليا على ثغر فارس . [ ص: 202 ]

وفيها: سقط المنصور عن دابته بجرجرايا فانشج ما بين حاجبيه . وكان قد خرج مشيعا ولده المهدي لما مضى إلى الرقة .

وفيها: عاد المهدي من الرقة إلى بغداد فدخلها في شهر رمضان .

وفيها: أمر المنصور بمرمة القصر الأبيض الذي كان كسرى بناه ، وأمر أن يغرم كل من وجد في داره شيء من الآجر الخسرواني ، قال: هذا فيء المسلمين ، فلم يتم ذلك ولا ما أمر به من مرمة القصر .

وفيها: غزا الصائفة معيوف بن يحيى ، فلقي العدو فاقتتلوا وتحاجزوا .

وفيها: حبس محمد بن إبراهيم بن محمد بن علي وهو أمير مكة - بأمر المنصور - ابن جريج ، وعباد بن كثير ، والثوري ، ثم أطلقهم من الحبس بغير أمر أبي جعفر ، فغضب أبو جعفر عليه .

وروى عمر بن شبة أن محمد بن عمران مولى محمد بن إبراهيم حدثه عن أبيه ، قال: كتب المنصور إلى محمد بن إبراهيم بن محمد وهو أمير على مكة يأمره بحبس رجل من آل [علي بن] أبي طالب بمكة ، وبحبس ابن جريج وعباد بن كثير ، والثوري . فحبسهم ، وكان له سمار يسامرونه بالليل ، فلما كان وقت سمره جلس وأكب على الأرض ينظر إليها ولم ينطق بحرف حتى تفرقوا ، فدنوت منه فقلت: ما لك؟

فقال: عمدت إلى ذي رحم فحبسته وإلى عيون من عيون الناس فحبستهم وما أدري ما يكون ، لعله يأمر بهم فيقتلون فيشتد سلطانه ويهلك ديني . قال: قلت: فتصنع ماذا؟

قال: أؤثر الله وأطلق القوم ، اذهب إلى إبلي فخذ راحلة وخذ خمسين دينارا فأت بها الطالبي وأقرئه السلام وقل له: إن ابن عمك يسألك أن تحله من ترويعه إياك ، وتركب هذه الراحلة وتأخذ هذه النفقة ، قال: فلما أحس بي جعل يتعوذ بالله من شري ، فلما بلغته قال: هو في حل ، ولا حاجة لي إلى الراحلة والنفقة ، قال: فقلت: فإن أطيب لنفسه أن تأخذ . قال: ففعل . [ ص: 203 ]

قال: ثم جئت ابن جريج وإلى سفيان وعباد بن كثير ، فأبلغتهم ما قال ، فقالوا:

هو في حل ، فقلت: يقول لكم: لا يظهرن أحد منكم ما دام المنصور بمكة مقيما . قال:

فلما قرب المنصور وجهني محمد بن إبراهيم بألطاف ، فلما أخبر المنصور أن رسول محمد بن إبراهيم قدم ، أمر بالإبل فضربت وجوهها ، فلما صار إلى بئر ميمون لقيه محمد بن إبراهيم فأمر بدوابه فضربت وجوهها ، فكان يسير ناحية وعدل بأبي جعفر عن الطريق في الشق الأيسر فأنيخ به ومحمد واقف قبالته ومعه طبيب له ، فلما ركب أبو جعفر وسار وعديله الربيع ، أمر محمد الطبيب فمضى إلى موضع مناخ أبي جعفر فرأى نجوه ، فقال لمحمد: رأيت نجو رجل لا تطول به الحياة ، فلما دخل مكة لم يلبث أن مات وسلم محمد .

التالي السابق


الخدمات العلمية