الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
1051 - وقال ابن نعيم أخبرني إبراهيم بن محمد بن حاتم الزاهد ، نا الفضل بن محمد الشعراني ، قال : سمعت يحيى بن أكثم ، وسئل ، متى تحب للرجل أن يفتي قال : " إذا كان بصيرا بالرأي ، بصيرا بالأثر " .

قلت : وينبغي أن يكون : قوي الاستنباط جيد الملاحظة ، رصين الفكر ، صحيح الاعتبار ، صاحب أناة وتؤدة ، وأخا استثبات ، وترك عجلة ، بصيرا بما فيه المصلحة ، مستوقفا بالمشاورة ، حافظا لدينه ، مشفقا على أهل ملته ، مواظبا على مروءته ، حريصا على استطابة مأكله ، فإن ذلك أول أسباب التوفيق ، متورعا عن الشبهات ، صادفا عن فاسد التأويلات ، صليبا في الحق ، دائم الاشتغال بمعادن الفتوى ، وطرق الاجتهاد ، ولا يكون ممن غلبت عليه الغفلة ، واعتوره دوام السهر ، ولا موصوفا بقلة الضبط ، منعوتا بنقص الفهم ، معروفا بالاختلال ، يجيب بما لا يسنح له ، ويفتي بما يخفى عليه ، وتجوز فتاوى أهل الأهواء ، ومن لم تخرجه بدعته إلى فسق ، فأما الشراة والرافضة الذين يشتمون الصحابة ، ويسبون السلف الصالح ، فإن فتاويهم مرذولة ، وأقاويلهم غير مقبولة .

وفي معرفة من يصلح أن يفتي تنبيه على من لا تجوز فتواه .

واعلم أن العلوم كلها أبازير الفقه ، وليس دون الفقه علم إلا ، [ ص: 334 ] وصاحبه يحتاج إلى دون ما يحتاج إليه الفقيه ، لأن الفقيه يحتاج أن يتعلق بطرف من معرفة كل شيء من أمور الدنيا والآخرة ، وإلى معرفة الجد والهزل ، والخلاف والضد ، والنفع والضر ، وأمور الناس الجارية بينهم ، والعادات المعروفة منهم .

فمن شرط المفتي النظر في جميع ما ذكرناه ولن يدرك ذلك إلا بملاقاة الرجال ، والاجتماع من أهل النحل والمقالات المختلفة ، ومساءلتهم ، وكثرة المذاكرة لهم ، وجمع الكتب ، ودرسها ، ودوام مطالعتها .

والدليل على ما ذكرناه أن الله تعالى لما أراد إعلام الخلق أن ما أتى به نبينا صلى الله عليه وسلم ، من القصص ، والأخبار الماضية ، والسير المتقدمة معجز أعلمهم أنه لا يعرف بلقاء الرجال ، ودراسة الكتب ، وخطه بيمينه ، ليصدق قوله إنه إعلام من الله ، فدل على أن محصول ذلك في العادة بالملاقاة ، والبحث والدرس ، ووجوده بخلاف ذلك خرق عادة صار به معجزا ، ولو لم يكن ذلك كذلك لم يكن لنفيها عنه معنى .

قيل لبعضهم : أي كتبك أحب إليك ؟ قال : " ما أتبصره علما وأتصوره فهما " ، وقيل لآخر ، فقال : " ما أفيد منه وأستفيد " وقيل لآخر ، فقال : " ما أعلم وبه أعمل " ، وقيل لبعض الحكماء : إن فلانا جمع كتبا كثيرة ، فقال : " هل فهمه على قدر كتبه ؟ قيل : لا ، قال : فما صنع شيئا ، ما تصنع البهيمة بالعلم " ، وقال رجل لرجل كتب ولا يعلم شيئا مما كتب : " ما لك من كتبك إلا فضل تعبك ، وطول أرقك ، وتسويد ورقك " .

[ ص: 335 ] قلت : وهذه حال من اقتصر على النقل إلى كتابه من غير إنعام النظر فيه ، والتفكير في معانيه .

التالي السابق


الخدمات العلمية